Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 51-56)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ } الآية . " رُشْدَهُ " مفعول ثان . وقرأ العامة " رُشْدَهُ " بضم الراء وسكون الشين ، وعيسى الثقفي بفتحها . والرُّشْدُ والرَّشَدُ كالعُدْم والعَدَم ، وقد تقدم الكلام عليهما . والمراد بالرُّشْد : النبوة لقوله { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } ، لأنه تعالى إنَّمَا يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها ويجتنب ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول . وقيلب : الرُّشْد : الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا لقوله تعالى : { فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } [ النساء : 6 ] وقيل : يدخل تحت الرشد النبوة والاهتداء . قوله : " مِن قَبْلُ " أي : من قبل موسى وهارون ، قاله ابن عباس ، وهذا أحسن ما قدر به المضاف إليه وقيل : من قبل بلوغه أو نبوته حين كان في السرب فظهرت له الكواكب ، فاستدل بها ، وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته - عليه السلام - قبل البلوغ . قاله مقاتل . وروى الضحاك عن ابن عباس معنى " مِن قَبْلُ " أي : حين كان في صلب آدم لما أخذ الله ميثاق النبيين . والضمير في " بِهِ " يعود على " إبْرَاهِيمَ " . وقيل : على " رُشْدَهُ " . والمعنى : أنه تعالى علم منه أشياء بديعة وأسراراً عجيبة حتى أهّله لأن يكون خليلاً له ، وهذا كقولك في رجل كبير : أنا عالم بفلان ، فإنَّ هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت حال كماله . فصل دَلَّت الآية على أنَّ الإيمان مخلوق لله تعالى ، لأنَّهُ لو كان الرشد هو التوفيق والبيان ، وقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم . وأجاب الكعبي : بأنَّ هذا يقال فيمن قَبِلَ لا فيمن ردَّ ، وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره ، وردَّه الآخر أو أخذه ثم ضيعه ، يقال : أغنى فلان ابنه فيمن ثمر المال ، ولا يقال فيمن ضيع . وهذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءاً من مسمى الرّشد وذلك باطل ، لأنَّ المسمى إذا كان متركباً من جزأين ولا يكون أحدهما مقدور الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى الفاعل ، فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } صريح في أنَّ ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل قوله . قوله : " إذْ قَالَ " يجوز أن يكون منصوباً بـ " ءَاتَيْنَا " أو بـ " رُشْدَهُ " أو بـ " عَالِمِينَ " أو بمضمر أي : اذكر وقت قوله . وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكون بدلاً من موضع " قَبْلُ " . أي : أنه يحل محله فيصح المعنى إذْ يصير التقدير : ولقد آتيناه رشداً إذْ قال . وهو بعيدٌ من المعنى بهذا التقدير . قوله : { مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ } أي : الصور ، يعني : الأصنام . والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله . وأصله من مثَّلْتُ الشيء بالشيء : إذا شبهته به ، فاسم ذلك المُمَثَّل تِمْثَال . والتَّمَاثِيلُ : جمع تِمْثَال ، وهو الصورة المصنوعة من رخام ، أو نحاس ، أو خشب ، أو حديد ؛ يشبه بخلق الآدمي وغيره من الحيوانات ، فال امرؤ القيس : @ 3724 - فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمْثَالِ @@ قوله : " لَهَا " قيل : اللام للعلة ، أي : عاكفون لأجلها . وقيل : بمعنى ( على ) ، أي : عاكفون عليها . وقيل : ضمّن " عَاكِفُونَ " معنى عابدين فلذلك أتى باللام وقال أبو البقاء : وقيل : أفادت معنى الاختصاص . وقال الزمخشري : لم ينو للعاكفين مفعولاً ، وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله : فاعلون العكوف لها ، أو واقفون لها . فإن قلت : هلاَّ قيل : عليها عاكفون كقوله : { يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [ الأعراف : 138 ] قلت : لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي " على " . قال شهاب الدين : الأولى أن تكون اللام للتعليل وصلة " عَاكِفُونَ " محذوفة أي : عاكفون عليها ، أي : لأجلها لا لشيء آخر . قوله : { قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } " عَابِدِينَ " مفعول ثان لـ " وَجَدْنَا " و " لَهَا " لا تعلق له ، لأنَّ اللام زائدة في المفعول به لتقدمه . فصل اعلم أنَّ القوم لم يجدوا في جوابه إلاَّ طريقة التقليد فأجابوه بأنَّ آباءهم سلكوا هذا الطريق ، فاقتدوا بهم ، فلا جرم أجابهم إبراهيم - عليه السلام - بقوله : { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فبين أنَّ الباطل لا يصير حقاً بكثرة المتمسكين به . قوله : " أَنتُمْ " تأكيد للضمير المتصل . قال الزمخشري : و " أَنتُمْ " من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به ، لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ، ونحوه { ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [ البقرة : 35 ] ، [ الأعراف : 19 ] . قال أبو حيان : وليس هذا حكماً مجمعاً عليه فلا يصح الكلام مع الإخلال به ، لأنَّ الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد بالضمير المنفصل ، ولا فصل ، وتنظير ذلك بـ { ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 35 ] ، [ الأعراف : 19 ] مخالف لمذهبه في { ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ } لأنه يزعم أَنَّ " وَزَوْجُكَ " ليس معطوفاً على الضمير المستكن في " اسْكُنْ " بل مرفوع بفعل مضمر أي : وليسكن ، فهو عنده من قبيل عطف الجمل ، وقوله هذا مخالف لمذهب سيبويه . قال شهاب الدين : لا يلزم من ذلك أنه خالف مذهبه إذ يجوز أن ينظر بذلك عند من يعتقد ذلك وإن لم يعتقد ( هو ) . و " فِي ضَلاَلٍ " يجوز أن يكون خبراً إن كانت ( كَانَ ) ناقصة ، أو متعلقاً بـ " كُنتُمْ " إن كانت تامة . قوله : { أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ } لما حقق عليه السلام ذلك عليهم ، ولم يجدوا من كلامه مخلصاً ورأوه منكراً عليهم من كثرتهم { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ } فأوهموه بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جاداً في ذلك ، وقالوا : أجاد أنت فيما تقول أم لاعب ، فأجابهم بقوله - عليه السلام - { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلْسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية . قوله " بالحَقِّ " متعلق بـ " جئت " ، وليس المراد به حقيقة المجيء إذ لم يكن غائباً . و " أَمْ أَنتَ " " أَمْ " متصلة وإن كان بعدها جملة ، لأنها في حكم المفرد إذ التقدير : أي الأمرين واقع مجيئك بالحق أم لعبك كقوله : @ 3725 - ما أُبَالِي أَنَبَّ بِالحَزْنِ تَيْسٌ أَمْ لَحَانِي بِظَهْرٍ غَيْبٍ لَئِيمُ @@ وقوله : @ 3726 - لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي ، وَإِنْ كُنْتَ دَارِياً شُعَيْبُ بنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ @@ يريد : أي الأمرين واقع ، ولو كانت منقطعة لَقُدِّرَتْ بـ ( بل ) والهمزة وليس ذلك مراداً . قوله : " الذي فَطَرَهُنَّ " يجوز أن يكون مرفوع الموضع أو منصوبه على القطع . والضمير المنصوب في " فَطَرَهُنَّ " للسموات والأرض . قال أبو حيان : ولما لم تكن السموت والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة . قال شهاب الدين : إن عنى لم تبلغ كل واحد من السموات والأرض فمسلم ولكنه غير مراد ، بل المراد المجموع ، وإن عنى لم تبلغ المجموع منهما فغير مسلم ، لأنه يبلغ أربع عشرة ، وهو فوق حد جمع الكثرة ، اللهم إلاَّ أنْ نقول : إنَّ الأرض شخص واحد وليست بسبع كالسماء على ما رآه بعضهم ، فيصح له ذلك ، ولكنه غير معول عليه . وقيل : على التماثيل . قال الزمخشري : وكونه للتماثيل أثبت لتضليلهم وأدخل في الاحتجاج عليهم . وقال ابن عطية : " فَطَرَهُنَّ " عبارة عنها كأنها تعقل ، وهذا من حيث لها طاعة وانقياد ، وقد وصفت في مواضع بوصف من يعقل . وقال غيره : " فَطَرَهُنَّ " أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنهما من قبيل مَنْ يعقل ، فإنَّ الله تعالى أخبر بقوله : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وقوله - عليه السلام - " أَطّتِ السماءُ وحقَّ لها أن تَئِطّ " قال شهاب الدين : كأنَّ ابن عطية وهذا القائل توهما أنَّ ( هُنَّ ) من الضمائر المختصة بالمؤنثات العاقلات ، وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين العاقلات وغيرها قال تعالى : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] ثم قال تعالى : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ } [ التوبة : 36 ] . قوله : " عَلَى ذَلِكُمْ " متعلق بمحذوف أو بـ " الشَّاهِدِينَ " اتساعاً ، أو على البيان ، وقد تقدم نظيره نحو { لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] . فصل اعلم أنَّ القوم لمَّا أوهموه أنه كالمازح في ما خاطبهم به أمر أصنامهم أظهر ذلك بالقول أولاً ثم بالفعل ثانياً . أمَّا القول فهو قوله : { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وهذا يدل على أنَّ الخالق الذي خلقها لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن القادر على ذلك هو الذي يقدر على الضرر والنفع ، وهذه الطريقة هي نظير قوله : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] ، ثم قال : { وَأَنَاْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } أي : على أنه لا إله إلا الذي لا يستحق العبادة إلا هو . وقيل : " مِّنَ الشَّاهِدِينَ " على أنه خالق السموات والأرض . وقيل : إنِّي قادر على إثبات ما ذكرته بالحجة ، وإني لست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة ، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم . وقيل : المراد منه المبالغة في التأكيد والتحقيق ، كقول الرجل إذا بالغ في مدح آخر أو ذمه : أشهد أنه كريم أو ذميم .