Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 68-71)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فلما ألزمهم الحجة وعجزوا عن الجواب { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ ءَالِهَتَكُمْ } ليس في القرآن من القائل ذلك ، والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح . وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنما أشار بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد من فارس . روى ابن جريج عن وهب عن شعيب قال : إن الذي قال حرقوه اسمه هرين فخسف الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . فصل قال مقاتل : لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا له بنياناً كالحظيرة ، وذلك قوله : { قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ } [ الصافات : 97 ] . ثم جمعوا له الحطب الكثير ، حتى إنَّ الرجل أو المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم . وقيل : بنوا آتوناً بقرية يقال لها كوثى . ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوماً ، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها ، فتلقيه فيه احتساباً في دينها ، فلما اشتعلت النار ، واشتدت حتى أن كانت الطير لتمر به وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها . روي أنَّهم لم يعلموا كيف يلقوه فيها ؟ فجاء إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه . وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له : هيزن ، وكان أول من صنع المنجنيق ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . ثم عمدوا إلى إبراهيم - عليه السلام - فوضعوه فيه مقيداً مغلولاً ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة صيحة واحدة : أي ربنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم ، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : " إن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره ، فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري فانا أعلم به وأنا وَليُّهُ فخلوا بيني وبينه ، فإنه خليل ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري " . فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النار . وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء . فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل . قال ابن عباس : { حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قيل له : { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ } [ آل عمران : 173 ، 174 ] فحين ألقي في النار قال : " لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك " . ثم رموه في المنجنيق إلى النار ، فأتاه جبريل ، فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، قال : فاسأل ربك قال : حسبه من سؤالي علمه بحالي . فقال الله تعالى : { يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } . قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفىء عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار . " وروت أم شريك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ وقال : " كان ينفخ على إبراهيم " وقال السُّدِّيّ : القائل { كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً } هو جبريل . وقال ابن عباس في رواية مجاهد : لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها ، قال : ولم يبق يومئذ نار إلا طفئت ، ولو لم يقل " عَلَى إِبْرَاهِيم " بقيت ذات برد أبداً . قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ، ولم تحرق النار منه لا وثاقه . وقال المنهال بن عمرو : أخبرت أنّ إبراهيم - عليه السلام - لما ألقي في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً ، وقال : ما كنت أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها . قال ابن يسار : وبعث الله عز وجل ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، وأتى جبريل بقميص من حرير الجنة وَطِنْفسَة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال : يا إبراهيم إنَّ ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي . ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق ، فناداه نمروذ : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم ، قال : قم فاخرج ، فقام يمشي حتى خرج منها . قال له نمروذ : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك ؟ قال : ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني ، فقال له نمروذ : إني مُقَرِّب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك ، وإنِّي ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال إبراهيم - عليه السلام - لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا ، قال نمروذ : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها ثم كف عن إبراهيم . روي أن إبراهيم - عليه السلام - ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة . وإنما اختاروا المعاقبة بالنار ، لأنها أقوى العقوبات . وقيل : روي أن هاران أبا لوط قال لهم : إن النار لا تحرقه ، لأنه سحر النار ، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته ، ففعلوا ، فطارت شرارة في لحية أبي لوط فأحرقته . قوله : " بَرْداً " أي : ذات برد . والظاهر في " سَلاَماً " أنه نسق على " بَرْداً " فيكون خبراً عن " كونِي " . وجوَّز بعضهم أن ينتصب على المصدر المقصود به التحية في العرف وقد رُدَّ هذا بأنه لو قصد ذلك لكان الرفع فيه أولى ، نحو قول إبراهيم : " سَلاَمٌ " ، وهذا غير لازم ، لأنه لا يجوز أن يأتي القرآن على الفصيح والأفصح ، ويدل على ذلك أنه جاء مقصوداً ، والمقصود به التحية نحو قول الملائكة : " قَالُوا سَلاَماً " . وقوله " عَلَى إبْرَاهِيمَ " متعلق بنفس إن قصد به التحية . ويجوز أن يكون صفة فيتعلق بمحذوف ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون قد حذف صفة الأول لدلالة صفة الثاني عليه تقديره : كوني برداً عليه وسلاماً عليه . فصل قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قولنا { قُلْنَا يَا نَارُ } المعنى : أنه سبحانه وتعالى جعل النار برداً وسلاماً لا أنَّ هناك كلاماً كقوله : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] أي : يكونه . واحتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه . والأكثرون على أنه وجد ذلك القول ، ثم هؤلاء لهم قولان : أحدهما : قال السُّديِّ : القائل هو جبريل . والثاني : قول الأكثرين إنَّ القائل هو الله تعالى ، وهو الأقرب الأليق بالظاهر . وقوله : النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة . فالجواب : لِمَ لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة . فصل اختلفوا في كيفية برد النار . فقيل : إن الله تعالى أزال ما فيها من الحرارة والإحراق ، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق ، والله على كل شيء قدير . وقيل : إنه تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول النار إليه كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة ، وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة ، وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار . وقيل : إنه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه . قال المحققون : والأول أولى ، لأنَّ ظاهر قوله : { يَا نَارُ كُونِي بَرْداً } أي نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها . فإن قيل : النار إن بقيت كما كانت ، والحرارة جزء من مسمى النار ، وامتنع كون النار باردة ، فإذن يجب أن يقال : المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجزاء مسمى النار ، وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى . فالجواب : أن المجاز الذي ذكرناه يبقى معه حصول البرد وفي الذي ذكرتم لا يبقى ذلك ، فكان مجازنا أولى . فصل معنى كون النار سلاماً على إبراهيم : أنَّ البرد إذا أفرط أهلك كالحر فلا بُدّ من الاعتدال ، وهو من وجوه : الأول : أن يقدر الله بردها بالمقدار الذي لا يؤثر . والثاني : أنَّ بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد . والثالث : أنه تعالى جعل في جسمه مزيدَ حرٍّ فانتفع بذلك البرد وَالتَذَّ بهِ . فصل روي أنّ كلّ النيران في ذلك الوقت زالت وصارت برداً ، ويؤيد ذلك أنَّ النار اسم للماهية ، فلا بُدّ وأنْ يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية وقيل : بل اختصت بتلك النار ، لأنّ الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار ، وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها ، والمراد خلاص إبراهيم لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق . فإن قيل : أفيجوز ما روي من أنه لو لم يقل " وَسَلاَماً " لأتى البرد عليه . قال ابن الخطيب : ذلك بعيد ، لأنَّ برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد ، فلا يجوز أن يقال : كان البرد يعظم لولا قوله : " سَلاَماً " . قوله : { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } أي : أرَادُوا أن يكيدوه { فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ } . قيل : معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم . وقيل : فجعلناهم مغلوبين غالبوه فلقنه الله الحجة وقيل : أرسل الله على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ، ودخلت واحدة في دماغه فأهلكته . قوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إلى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } لما نصره الله تعالى أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجَّى لوطاً وهو ابن أخيه ، وهو لوط بن هاران نجاهما من نمروذ وقومه من أرض العراق إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين يعني مكة ، وقيل : أرض الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار ، ومنها بعث أكثر الأنبياء . وقال تعالى : { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] قال أُبي بن كعب : سماها مباركة ، لأنّ ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس وروى قتادة أنّ عمر بن الخطاب قال لكعب : ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبره ، فقال إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين أنّ الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده . " وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم " قوله : " وَلُوطاً " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أَنْ يكونَ معطوفاً على المفعول قبله . والثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً معه . والأول أولى . وقوله : " إِلَى الأَرْضِ " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلق بـ " نَجَّيْنَاهُ " على أن يتضمن معنى أخرجناه بالنجاة فلما ضمن معنى أخرج تعدى تعديته . والثاني : أنه لا تضمين فيه وأنَّ حرف الجر يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في " نَجَّيْنَاهُ " أي : نجيناه منتهياً إلى الأرض كذا قدره أبو حيان وفيه نظر من حيث إنه قدر كوناً مقيداً وهو كثيراً ما يَرُدُّ على الزمخشري وغيره ذلك . فصل اعلم أنَّ لوطاً آمن بإبراهيم كما قال تعالى { فَأَمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] وكان ابن أخيه ، وهو لوط بن هاران بن تارخ ، وهاران هو أخو إبراهيم ، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ ، وآمنت به أيضاً سارة ، وهي بنت عمه ، وهي سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم فخرج من كوشى من أرض حدود بابل بالعراق مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة ، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حَرَّان فمكث بها ما شاء الله ، ثم ارتحل منها ونزل أرض السبع من فلسطين وهي برية الشام ، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر ، ثم خرج من مصر إلى الشام ، ونزل لوط بالمؤتفكة ، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب ، وبعثه الله نبياً ، فلذلك قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيها لِلْعَالَمِينَ } .