Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 61-67)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فصل لما سمع بعض القوم قول إبراهيم - عليه السلام - { تَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم } [ الأنبياء : 57 ] وسمعوا سبّه لآلهتهم غلب على ظنهم أنه الفاعل لذلك ، فلذلك قالوا : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [ الأنبياء : 60 ] أي : يعيبهم ويسبهم { يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [ الأنبياء : 60 ] ، فهو الذي يظن أنه الذي صنع هذا . فبلغ ذلك نمروذ الجبار ، وأشراف قومه ، فقالوا فيما بينهم { فَأْتُواْ بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ } قال نمروذ ، أي : جيئوا به ظاهراً ، أي بمرأى من الناس " لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ " عليه أنه الذي فعله . قال الحسن وقتادة والسدي : كرهوا أن يأخذوه بغير بينةٍ . وقال محمد بن إسحاق : " لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ " أي : يحضرون عقابه فينزجروا عن الإقدام على مثله . وقال الكلبي ومقاتل : المراد مجموع الأمرين أي : يشهدون عليه ويشهدون عقابه . قوله : " عَلَى أَعْيُنِ " في محل نصب على الحال من الهاء في " بِهِ " أي : ائتوا به ظاهراً مكشوفاً بمرأى منهم ومنظر . قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : ما معنى الاستعلاء في : " عَلَى " ؟ قُلْتُ : هو وارد على طريق المثل ، أي : يثبت إتيانه على الأعين ، ويتمكن ثبات الراكب على المركوب ، وتمكنه منه . قوله : " أَأَنتَ فَعَلْتَ " . في " ءَأَنتَ " وجهان : أحدهما : أنه فاعل بفعل مقدر يفسره الظاهر بعده ، والتقدير : أفعلت هذا بآلهتنا فلمّا حذف الفعل انفصل الضمير . والثاني : أنه مبتدأ والخبر بعده الجملة . والفرق بين الوجهين من حيث اللفظ واضح ، فإنَّ الجملة من قوله " فَعَلْتَ " الملفوظ بها على الأول لا محل لها ، لأنها مفسرة ومحلها الرفع على الثاني ، ومن حيث المعنى أنّ الاستفهام إذا دخل على الفعل أشعر بأنَّ الشك إنما تعلق به ( هل وقع أم لا ؟ من غير شك في فاعله . وإذا دخل على الاسم وقع الشك فيه ) هل هو الفاعل أم غيره ؟ والفعل غير مشكوك في وقوعه ، بل هو واقع فقط . فإذا قلت : أَقَامَ زَيْدٌ ؟ كان شكك في قيامه . وإذا قلت : أَزَيْدٌ قَامَ ؟ وجعلته مبتدأ كان شكك في صدور الفعل منه أم من عمرو . والوجه الأولى هو المختار عند النحاة ، لأنَّ الفعل تقدم ما يطلبه ، وهو أداة الاستفهام . قوله : " بَلْ فَعَلَهُ " هذا الإضراب عن جملة محذوفة تقديره : لم أفعله إنما الفاعل حقيقة الله تعالى ، وإسناد الفعل إلى " كَبِيرُهُمْ " من أبلغ التعاريض . قوله : " هَذَا " فيه ستة أوجه : أحدها : أن يكونَ نعتاً لـ " كَبِيرُهُمْ " . الثاني : أن يكون بدلاً من " كَبِيرُهُمْ " . الثالث : أن يكون خبراً لـ " كَبِيرُهُمْ " على أنَّ الكلام يتم عند قوله " بَلْ فَعَلَهُ " وفاعل الفعل محذوف . كذا نقله أبو البقاء ، وقال : وهذا بعيد ، لأنَّ حذف الفاعل لا يسوغ . قال شهاب الدين : وهذا القول يعزى للكسائي ، وحينئذ لا يحسن الرد عليه بحذف الفاعل فإنه يجيز ذلك ، ويلزمه ، ويجعل التقدير : بل فعله من فعله ويجوز أن يكون أراد بالحذف الإضمار ، لأنه لمّا لم يذكر الفاعل لفظاً سمى ذلك حذفاً . الرابع : أن يكونَ الفاعل ضمير " فَتًى " . الخامس : أن يكون الفاعل ضمير " إبْرَاهِيم " . وهذان الوجهان يؤيدان أنَّ المراد بحذف الفاعل إنَّمَا هو الإضمار . السادس : أن " فَعَلَهُ " ليس فعلاً ، بل الفاء حرف عطف دخلت على " عَلَّ " التي أصلها " لَعَلَّ " حرف ترج وحذف اللام الأولى ثابت ، فصار اللفظ " فَعَلَّهُ " أي : فَلعلّهُ ، ثم حذفت اللام الأولى وخففت الثانية . وهذا يعزى للفراء وهو مرغوب عنه . وقد استدل على مذهبه بقراءة ابن السميفع " فَعَلَّهُ " بتشديد اللام ، وهي قراءة شاذة لا يرجع بالقراءة المشهورة إليها ، وكأن الذي حملهم على هذا خفاء وجه صدور هذا الكلام من النبي - عليه السلام - . فصل اعلم أن القوم لمّا قالوا له { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَا يٰإِبْرَاهِيمُ } طلبوا منه الاعتراف بذلك ، ليقدموا على إيذائه ، فقلب الأمر عليهم وقال : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا } ، وكان قد علق الفأس في رقبته ، وأراد بذلك إقامة الحجة عليهم وإظهار جهلهم في عبادة الأوثان ، وقال : { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } واعلم أنّ للناس هاهنا قولان : الأول : قول كافة المحققين ، وهو أنّ قول إبراهيم - عليه السلام - { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هـٰذا } من قبيل التعريض ، وهو من وجوه : أحدها : أنَّ قصد إبراهيم - عليه السلام - تقرير الفعل لنفسه على أسلوب تعريضيّ ، وليس قصده نسبة الفعل إلى الصنم ، وهذا كما لو قال صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، ولا يقدر هو إلا على خرمشة فاسدة : أأنت كتبت هذا ، فقلت له : بل كتبته أنت ، وكأن قصدك بهذا تقريره لك مع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش ، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء وإثبات للقادر . وثانيها : أنَّ إبراهيم - عليه السلام - غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة ، وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته لها وحطمه لها ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه . وثالثها : أن يكون حكاية لما يلزم عن مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم ، فإنَّ حق من يُعْبَد ، وَيُدْعَى إلهاً أن يقدر على هذا أو أشد منه ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري . ورابعها : ما تقدم عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله " كَبِيرُهُمْ " ثم يبتدىء فيقول : " هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ " . والمعنى : بل فعله كبيرهم ، وعنى نفسه ، لأنّ الإنسان أكبر من كل صنم ، وأنه كناية عن غير مذكور ، أي : فعله من فعله و " كَبِيرهُمْ " ابتداء كلام . وخامسها : قال الطِّيبي معناه على التقديم والتأخير ، أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، فجعل النطق شرطاً للفعل إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم ، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك . وسادسها : قراءة ابن السميفع المتقدمة . والقول الثاني : قال البغوي : والأصح أن إبراهيم - عليه السلام - أراد بذلك الفعل إقامة الحجة عليهم فذلك قوله : { هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إن كَانُواْ يَنطِقُونَ } حتى يخبروا من فعل ذلك بهم ، لما " روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلا ثلاث كذبات ثنتان منهن في ذات الله ، قوله : " إنِّي سَقِيمٌ " ، وقوله : " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا " ، وقوله لسارة : " هذه أختي " وفي حديث الشفاعة قول إبراهيم - عليه السلام - : " إنِّي كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ " والقائلون بهذا القول قدروه من جهة العقل وقالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته فإنَّ النبي إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان فجاء الظالم وسأل عنه ، فإنه يجب الكذب فيه ، وإذا كان كذلك ، فأي بُعْد في أن يأذن الله في ذلك لمصلحة لا يعلمها إلا هو كما أذن ليوسف - عليه السلام - حين أمر مناديه لإخوته : { أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : 70 ] ولم يكونوا سرقوا . قال ابن الخطيب : وهذا القول مرغوب عنه أما الخبر فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء ، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه فلنجر هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه ، وفي كل ما أخبر الله عنه ، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ، وتطرق التهمة إلى كلها ، ثم لو صح ذلك الخبر فهو محمول على المعاريض على ما قاله عليه السلام " إنَّ في المَعَارِيضِ لمندوحةً عن الكَذِبِ " . فأمّا قوله : " إني سَقِيمٌ " فلعله سقيم القلب كما يجيء في موضعه . وأمّا قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } فقد ظهر الجواب عنه . وأما قوله لسارة : هذه أختي ، أي : في الدين . وأما قصة يوسف - عليه السلام - فتقدم الكلام عليها . قوله : { إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ } جوابه محذوف لدلالة ما قبله ، ومن جوَّز التقديم جعل " فَاسْأَلُوهُمْ " هو الجواب . قوله : { فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّالِمُونَ } فيه وجوه : الأول : أنَّ إبْراهيم - عليه السلام - لما نبههم على قبح طريقتهم بما أورده عليهم علموا أنَّ عبادة الأصنام باطلة ، وأنهم على غرور وجهل في ذلك . الثاني : قال مقاتل : { فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ } فلاموها وقالوا : { إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّالِمُونَ } لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير . الثالث : أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتموه حتى إنه يستهزىء بكم في الجواب . قوله : { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلىٰ رُؤُوسِهِمْ } قرأ العامة : " نُكِسُوا " مبنياً للمفعول مخفف الكاف أي : نكسهم الله أو خجلهم . و " عَلَى رُؤُوسِهِم " حال ، أي : كائنين على رؤوسهم . ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل . والنَّكْسُ والتَّنْكِيسُ : القلب ، يقال : نَكَسَ رَأْسَهُ ونَكَّسَهُ مخففاً ومشدداً . أي : طأطأه حتى صار أعلاه أسفله . وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن الجارود وابن مقسم : " نُكِّسُوا " بالتشديد وقد تقدم أنه لغة في المخفف ، فليس التشديد لتعدية ولا لتكثير . وقرأ رضوان بن عبد المعبود : " نَكَسُوا " مخففاً مبنياً للفاعل ، وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره : نكسوا أنفسهم على رؤوسهم . فصل قال المفسرون : أجرى الله الحق على ألسنتهم في القول الأول ثم أدركتهم الشقاوة فهو معنى قوله : { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُؤوسِهِمْ } أي : ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم . وقيل : قلبوا على رؤوسهم حقيقة بفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخزالاً مما بهتهم إبراهيم ، فلما أحاروا جواباً إلا ما هو حجة لإبراهيم - عليه السلام - حين جادلهم - فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } فأقروا بهذه الحجة التي لحقتهم . قوله : " لَقَدْ عَلِمْتَ " هذه الجملة جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه معمولان لقول مضمر ، وذلك القول المضمر حال من مرفوع " نُكِسُوا " أي : نكسوا قائلين : والله لقد علمت . قوله : { مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } يجوز أن تكون " مَا " حجازية فيكون " هَؤُلاَءِ " و " يَنطِقُونَ " في محل نصب خبرها . أو تميمية فلا عمل لها . والجملة المنفية بأسرها سادة مسد المفعولين إن كانت " عَلِمْت " على بابها ، ومسد واحد إن كانت عرفانية . قوله : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } إن عبدتموه ، " وَلاَ يَضُرُّكُمْ " إن تركتم عبادته . " أُفٍّ لَكُمْ " أي : نتناً وقذراً لكم { وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } تقدم الكلام على " أُفٍّ " في سورة سبحان . قال الزمخشري : " أُفٍّ " صوت إذا صوت به دل على أنّ صاحبه متضجر ، وأن إبراهيم - عليه السلام - أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد وضوح الحق وانقطاع عذرهم وزهوق الباطل فتأفف . واللام في " لَكُم " وفي " لِمَا " لام التبيين ، أي : التأفيف لَكُمْ لا لغيركم ، وهي نظير قوله : " هَيْتَ لَكَ " . ثم قال : " أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " أي : أليس لكم عقل تعقلون هذا وتعرفونه ؟