Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 78-82)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } الآية . تقدم الكلام على الإعراب . واعلم أَنَّ المقصود ذكر نعم الله على داود وسليمان ، فذكر أولاً النعمة المشتركة بينهما ثم ذكر ما يخصّ كل واحد منهما من النعم . أما النعمة المشتركة فهي قصة الحكومة ، وهو أن الله زينهما بالعلم والفهم في قوله : { وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } قال أكثر المفسرين : المراد بالحرث الزرع . وقال ابن مسعود وابن عباس : كان الحرث كرماً قد تدلت عناقيده . { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ } أي رعته ليلاً فأفسدته ؛ والنَّقْشُ : الرعي بالليل . قاله ابن السكيت ، وهو قول جمهور المفسرين . والنَّفْشُ : الانتشار ، ومنه { كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] ونفشت الماشية أي : رعت ليلاً بغير راع ، عكس الهَمَل وهو رعيها نهاراً بلا راع . وعن الحسن : أنَّ النفش هو الرعي بلا راع ليلاً كان أو نهاراً . قوله : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } في الضمير المضاف إليه " حُكْم " أوجه : أحدها : أنه ضمير جمع يراد به المثنى ، وإنما وقع الجمع موقع التثنية مجازاً ، أو لأن التثنية جمع وأقل الجمع اثنان ، ويدل على أنَّ المراد التثنية قراءة ابن عباس " لِحُكْمِهما " بصيغة التثنية . الثاني : أنَّ المصدر مضاف للحاكِمين والمحكوم له والمحكوم عليه ، فهؤلاء جماعة . وهذا يلزم منه إضافة المصدر لفاعله ومفعوله دفعة واحدة ، وهو إنما يضاف لأحدهما فقط . وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، فإن الحقيقة إضافة المصدر لفاعله ، والمجاز إضافته لمفعوله . الثالث : أنَّ هذا مصدر لا يراد به الدلالة على علاج ، بل جيء به للدلالة على أنَّ هذا الحدث وقع وصدر كقولهم : له ذكاء ذكاء الحكماء ، وفهم فهم الأذكياء فلا ينحل بحرف مصدري وفعل ، وإذا كان كذلك فهو مضاف في المعنى للحاكم والمحكوم له والمحكوم عليه ، ويندفع المحذوران المذكوران . قوله : " فَفَهَّمْنَاهَا " . قرأ العامة " فَفَهَّمْنَاهَا " بالتضعيف الذي للتعدية ، والضمير للمسألة أو للفتيا . وقرأ عكرمة : " فَأَفْهَمْنَاهَا " بالهمزة عداه بالهمزة كما عدّاه العامة بالتضعيف . فصل قال أكثر المفسرين : دخل رجلان على داود - عليه السلام - أحدهما : صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلاً فأفسدته ، فلم يبق منه شيئاً ، فقال داود : اذهب فإن الغنم لك . فخرجا فمرا على سليمان ، فقال : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه ، فقال : لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا . وروي أنه قال : غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر بذلك داود ، فدعاه ، فقال : كيف تقضي ، وروي أنه قال له : بحق النبوة والأبوة إلاّ أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين ، فقال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه ، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله ، وأخذ صاحب الغنم غنمه ، فقال داود : القضاء ما قضيت . وقال ابن مسعود ومقاتل : إن راعياً نزل ذات ليلة بجنب كرم ، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان ، وأفسدت الكرم ، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود ، فقضى له بالغنم ، لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت وذكر باقي القصة . قال ابن عباس : حكم سليمان ذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة وأما حكم الإسلام : أنّ ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها ، وما أفسدت بالليل ضمنه ربها ، لأنَّ في عرف الناس أنَّ أصحاب الزروع يحفظونها بالنهار ، والمواشي تسرح بالنهار ، وترد بالليل إلى المراح . " روى ابن محيصة أنّ ناقة لِلْبرَاء بن عازِب حائطاً فَأَفْسَدَتْ ، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّ على أَهْل الحَوَائِط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضَامِنٌ على أهْلِهَا " . وذهب أصحاب الرأي إلى أن المالك إذا لم يكن معها فلا ضمان عليه فيما اتلفت الماشية ليلاً كان أو نهاراً . فصل قال أبو بكر الأصم : إنهما لم يختلفا في الحكم ألبتة ، وأنه تعالى بين لهما الحكم على لسان سليمان . والصواب أنهما اختلفا ، ويدل على إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - وأيضاً قوله تعالى : { وَكُنَّا لِحُكْمِهمْ شَاهِدِينَ } ، ثم قال : " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ " والفاء للتعقيب ، فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقاً على هذا الفهم ، وذلك الحكم السابق إن اتفقا فيه لم يبق لقوله " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ " فائدة . وإن اختلفا فيه فهو المطلوب . فصل احتج الجبائي على أنّ الاجتهاد غير جائز من الأنبياء بوجوه : الأول : قوله تعالى : { قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ } [ يونس : 15 ] وقوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [ النجم : 3 ] . الثاني : أنّ الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على اليقين ، فلا يجوز المصير إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز الاجتهاد . الثالث : لو جاز له الاجتهاد في الأحكام لكان لا يقف في شيء منها ، فلما وقف في مسألة الظهار واللعان إلى ورود الوحي دلّ على أنّ الاجتهاد غير جائز عليه . الرابع : أنّ الاجتهاد إنما يصار إليه عند فقد النص ، وفقد النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الاجتهاد . الخامس : لو جاز الاجتهاد من الرسول أيضاً من جبريل ، وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله أم من اجتهاد جبريل ؟ وأجيب عن الأول : أنّ الآية واردة في إبدال آية بآية ، لأنه عقيب قوله : { قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ٱئْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ } [ يونس : 15 ] ولا مدخل للاجتهاد في ذلك . وأما قوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [ النجم : 3 ] فمن جوَّز له بالاجتهاد يقول إنّ الذي اجتهد فيه هو عن وحي على الجملة ، وإن لم يكن ذلك على التفصيل ، وأيضاً فالآية واردة في الأداء عن الله لا في حكمه الذي يكون بالعقل . وعن الثاني : أنَّ الله تعالى إذا قال له إذا غلب على ظنك كون الحكم معللاً في الأصل بكذا ، ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بمثل ذلك الحكم ، فههنا الحكم مقطوع به ، والظن غير واقع فيه بل في طريقه . وعن الثالث : لعله - عليه السلام - كان ممنوعاً عن الاجتهاد في بعض الأنواع ، أو كان مأذوناً له مطلقاً ، لكنه لم يظهر له في تلك الصورة وجه الاجتهاد فتوقف . وعن الرابع : لِمَ لا يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور فحينئذ يحصل شرط جواز الاجتهاد . وعن الخامس : أن هذا الاحتمال مدفوع بإجماع الأمة على خلافه . ثم الذي يدل على جواز الاجتهاد لهم وجوه : الأول : أنه - عليه السلام - إذا غلب على ظنه أنَّ الحكم في الأصل معلّل بمعنى ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى ، فلا بُدَّ وأن يغلب على ظنه أنَّ حكم الله في هذه الصورة مثل ما في الأصل كقوله - عليه السلام - . " أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ " . الثاني : قوله تعالى : { فَاعْتَبِرُوا } [ الحشر : 2 ] أمر الكل بالاعتبار ، فوجب اندراج الرسول - عليه السلام - فيه لأنه إمام المعتبرين وأفضلهم . الثالث : أنَّ الاستنباط أرفع درجات العلماء ، فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل ، وإلا لكان كل واحد من المجتهدين أفضل منه في هذا الباب . فإن قيل : إنما يلزم لو لم يكن درجته أعلى من الاعتبار ، وليس الأمر كذلك لأنه كان يستدرك الأحكام وحياً على سبيل اليقين ، فكان أرفع درجة من الاجتهاد ( قصاراه الظن . فالجواب : لا يمتنع أن لا يجد النص في بعض المواضع ، فلو لم يكن من أجل الاجتهاد ) لكان أقل درجة من المجتهد الذي يمكنه تعرف ذلك الحكم من الاجتهاد ، وأيضاً فقد تقدم أن الله لما أمره بالاجتهاد كان ذلك مفيداً للقطع . الرابع : قوله - عليه السلام - " العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ " فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الاجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك . الخامس : قوله تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] فذاك الإذْنُ إن كان بإذن الله - تعالى - استحال له " لِمَ أَذِنتَ " وإن كان بهوى النفس فهو جائز . وإن كان بالاجتهاد فهو المطلوب . فصل قال الجبائي : لو جوزنا الاجتهاد من الأنبياء ففي هذه المسألة لا نجوزه لوجوه : أحدها : أن الذي وصل إلى صاحب الزرع من دَر الماشية وصوفها ومنافعها مجهول المقدار ، فكيف يجوز الاجتهاد وأخذ المجهول عوضاً عن الآخر . وثانيها : أنَّ اجتهاد داود عليه السلام - إن كان صواباً لزم أن لا ينقض لأنَّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، وإن كان خطأ وجب أن يبين الله توبته كسائر ما حكاه عن الأنبياء - عليهم السلام - ، فلما مدحهما بقوله : { وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } دَلَّ على أنه لم يقع الخطأ من داود عليه السلام . وثالثها : لو حكم بالاجتهاد لكان الحاصل هناك ظناً لا علماً لكن الله تعالى قال : { وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } . ورابعها : كيف يجوز أن يكون عن اجتهاد مع قوله : " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ " . وأجيب عن الأول : بأنَّ الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجِعَالاَت ، وحكم المصرّاة . وعن الثاني : لعلَّ خطأه كان من باب الصغائر . وعن الثالث : إنّ المتمسك بالقياس فإن الظن واقع في طريق الحكم ، فأمَّا الحكم فمقطوع به . وعن الرابع : أنّ المجتهد إذا تأمل واجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم كأن الله - تعالى - فهمه من حيث بين له طريق ذلك . فهذا جملة الكرم في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد . وأما بيان أنه لا يمتنع أيضاً أنْ يكون اختلافهما فيه بسبب النص ، فوجهه أنْ يقال : إنَّ داود - عليه السلام - كان مأموراً بالحكم من قبل الله - تعالى - ثم إنه تعالى نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان خاصة ، وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعاً . وقوله : " فَفَهَّمْناها سُلَيْمَانَ " أي : أوحينا إليه . فإن قيل : هذا باطل لوجهين : الأول : لما أنزل الله الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضاً على داود لا على سليمان . الثاني : أن الله تعالى مدح كل واحد منهما على الفهم ، ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح . واعلم أنَّ القول الأول أولى ، لأنه روي في الأخبار الكثيرة أن داود لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أنَّ غير ذلك أولى ، وفي بعضها أنّ داود ناشده لكي يورد ما عنده ، ولو كان نصاً لكان يظهره ولا يكتمه . ووجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس : أن داود - عليه السلام - قوّم قدر الضرر في الكرم فكان مساوياً لقيمة الغنم وكان عنده أنّ الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع ، فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه . وأما سليمان فأداه اجتهاده إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد وأما مقابلته بالزوائد فغير جائز ، لأنه يقتضي الحيف ، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازنة فحكم به ، كما قال الشافعي : فيمن غصب عبداً فأبق من يده أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإيزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادّا . فصل إذا ثبت أنّ تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد ، فهل تدل هذه القصة على أَنَّ المصيب واحد ، أو الكل مصيبين ؟ فمن قال : إنَّ المصيب واحد استدل بقوله تعالى " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ " قال : ولو كان الكل مصيبون لم يكن لتخصيص سليمان بهذا التفهيم فائدة . وأما القائلون بأنَّ الكل مصيبون فمنهم من استدل بقوله تعالى { وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } ، ولو كان المصيب واحداً ومخالفه مخطئاً لما صح أن يقال : { وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } قال ابن الخطيب : وكلا الاستدلالين ضعيف أما الأول : فلأنّ الله - تعالى - لم يقل إنه فهم الصواب ، فيحتمل أنه فهمه الناسخ ، ولم يفهم ذلك داود ، فكل واحد منهما مصيب فيما حكم به على أن أكثر ما في الآية أنَّها دالة على أنَّ داود وسليمان ما كانا مصيبين ، وذلك لا يوجب أن يكون الأمر كذلك في شرعنا . واما الثاني : فلأنه تعالى لم يقل : كلاًّ آتيناه فيما حكم به هنا ، بل يجوز أنْ يكون إيتاؤه حكماً وعلماً بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام ، على أن لا يلزم من كون كل مجتهد مصيب في شرعهم أنْ يكون الأمر كذلك في شرعنا . قوله تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } هذه من النعم التي خصَّ بها داود فقوله : " يُسَبِّحْنَ " في موضع نصب على الحال . " والطَّيْرَ " يجوز أن ينتصب نسقاً على " الجِبَالَ " ، وأن ينتصب على المفعول معه وقيل : " يسبِّحْنَ " مستأنف فلا محل له . وهو بعيد . وقرىء " وَالطَّيْرُ " رفعاً وفيه وجهان : أحدهما : أنه مبتدأ والخبر محذوف ، أي : والطير مسخرات أيضاً . والثاني : أنه نسق على الضمير في " يُسَبِّحْنَ " ، ولم يؤكد ولم يفصل ، وهو موافق لمذهب الكوفيين . فصل قال ابن عباس : ( كان يفهم ) تسبيح الحجر والشجر . وقال وهب : كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح ، وكذلك الطير . وقال قتادة : " يُسَبِّحْنَ " أي : يصلين معه إذا صلى . وقيل : كان داود إذا فتر سمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه . وقال بعض المفسرين : إنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] وتخصيص داود - عليه السلام - بذلك إنما كان بسبب أنه كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقيناً وتعظيماً . وقالت المعتزلة : لو حصل الكرم في الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله فيه ، والأول محال ، لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة ، وما لا يكون حياً قادراً عاقلاً يستحيل منه الفعل . والثاني محال ، لأن المتكلم عندهم من كان فاعلاً للكلام لا من كان محلاً للكلام فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله لكان المتكلم هو الله لا الجبال . فثبت أنَّه لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، فعند هذا قالوا : معنى قوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ } قوله : { يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } [ سبأ : 10 ] أي : تصرفي معه وسيري بأمره . ومعنى " يُسَبِّحْنَ " من السبح الذي هو السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ولو أفرد لقيل : اسبحي ، فلما كثر قيل سبحي معه ، أي : سيري وهو كقوله : { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً } [ المزمل : 7 ] أي : تصرفاً ومذهباً ، إذا ثبت هذا فنقول : إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله . واعلم أنّ مدار هذا القول على أن بنية الجبال لا تقبل الحياة ، وأن المتكلم من فعل الكلام ، وكلاهما ممنوع ، وأما " الطّيْر " فلا امتناع أن يصدر عنها الكلام ، ولكن أجمعت الأمة على أنّ المكلفين إمَّا الجن والإنس والملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف بل يكن حاله كحال الطفل في أن يُؤْمر ويُنْهَى . وإن لم يكن مكلفاً فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق . وأيضاً فيه دلالة على قدرة الله وعلى تنزيهه عمّا لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال . وقدم الجبال على الطير ، لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، لأنها جماد والطير حيوان . ثم قال : " وَكُنَّا فَاعِلِينَ " أي : قادرين على أنْ نفعل وإنْ كان عجباً عندكم وقيل : نفعل ذلك بالأنبياء - عليهم السلام - . الإنعام الثاني قوله : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ } الجمهور على فتح اللام من " لَبُوسٍ " وهو الشيء المعد للبس قال الشاعر : @ 3730 - أَلْبَسُ لكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا إِمَّا نَعِيْمَهَا وَإمَّا بُوسَهَا @@ والمراد باللبوس هنا الدرع لأنها لا تلبس ، وهي في اللغة اسم لكل ما يلبس . ويستعمل في الأسلحة كلها ، وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب . وقرىء " لُبُوس " بضم اللام ، وحينئذ إما أنْ يكون جمع لُبْس المصدر الواقع موقع المفعول ، وإما أنْ لا يكون واقعاً موقعه ، والأول أقرب . و " لَكُمْ " يجوز أن يتعلق بـ " عَلَّمْنَاه " ، وأن يتعلق بـ " صَنْعَةَ " قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْد . وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " لَبُوس " . قال قتادة : أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود وإنما كانت صفائح . قوله : " لِتُحْصِنَكُم " . هذه لام كي ، وفي متعلقها أوجه : أحدها : أن تتعلق بـ " عَلَّمْنَاهُ " ، وهذا ظاهر على القولين الآخرين وأما على القول الثالث فيشكل ، وذلك أنه يلزم تعلق جر في جر متحدين لفظاً ومعنى . ويجاب عنه بأن يجعل بدلاً من " لَكُمْ " بإعادة العامل كقوله تعالى : { لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] وهو بدل اشتمال ، وذلك أنَّ أنْ الناصبة للفعل المقدرة مؤولة هي ومنصوبها بمصدر ، وذلك المصدر بدل من ضمير المخاطب في " لَكُمْ " بدل اشتمال ، والتقدير : وعلمناه صنعة لبوس لتحصنكم . والثاني : أن تتعلق بـ " صَنْعَةَ " على معنى أنه بدل من " لَكُم " كما تقدم تقريره وذلك على رأي أبي البقاء ، فإنه علَّق " لَكُمْ " بـ " صَنْعَةَ " . والثالث : أنها تتعلق بالاستقرار الذي تعلق به " لَكُمْ " إذا جعلناه صفة لما قبله . وقرأ الحرميان والأخوان وأبو عمرو : " لِيُحْصِنَكُمْ " بالياء من تحت ، والفاعل الله تعالى ، وفيه التفات على هذا الوجه ، إذ تقدمه ضمير المتكلم في قوله " وَعَلَّمْنَاهُ " . أو داود ، أو التعليم ، أو اللبوس . وقرأ حفص وابن عامر بالتاء من فوق ، والفاعل الصنعة أو الدرع ، وهي مؤنثة ، أو اللبوس ، لأنها يراد بها ما يلبس ، وهو الدرع ، والدرع مؤنثة كما تقدم . وقرأ أبو بكر " لِنُحْصِنَكُمْ " بالنون جرياً على " عَلَّمْنَاهُ " . وعلى هذه القراءات الثلاث الحاء ساكنة والصاد مخففة . وقرأ الأعمش " لِيحَصِّنكم " وكذا النعيمي عن أبي عمرو بفتح الحاء وتشديد الصاد على التكثير إلاَّ أن الأعمش بالتاء من فوق وأبو عمرو بالياء من تحت وقُدِّمَ ما هو الفاعل . فصل معنى " لِنُحْصِنَكُم " أي : لنحرزكم ونمنعكم من بأسكم أي : حرب عدوكم . وقال السُّديّ : من وقع السلاح فيكم . ذكر الحسن أن لقمان الحكيم - صلوات الله عليه - حضر داود وهو يعمل الدرع ، فأراد أن يسأله عمَّا يفعل ثم كف عن السؤال حتى فرغ منها ولبسها على نفسه ، فقال عند ذلك : الصمت حكمة وقليل فاعله . ثم قال تعالى : { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } يقول لداود وأهل بيته وقيل : يقول لأهل مكة ، فهل أنتم شاكرون نعمي بطاعة الرسول . قوله تعالى : " وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ " العامة على النصب ، أي : وسخرنا لسليمان ، فهي منصوبة بعامل مقدر . وقرأ ابن هرمز وأبو بكر عن عاصم في رواية بالرفع على الابتداء ، والخبر الجار قبله . وقرأ الحسن وأبو رجاء بالجمع والنصب . وأبو حيوة بالجمع والرفع . وتقدم الكرم على الجمع والإفراد في البقرة ، وبعض هؤلاء قرأ في سبأ كذلك كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . قوله : " عَاصِفَةً " حال ، والعامل فيها على قراءة من نصب " سَخَّرْنَا " المقدر ، وفي قراءة من رفع الاستقرار الذي تعلق به الخبر . يقال : عَصَفتِ الرِّيْحُ تَعْصِفُ عَصْفاً وعُصُوفاً ، فهي عَاصِفٌ وعَاصِفَةٌ . وأسد تقول : أَعصَفَتْ بالألف تعصف ، فهي مُعْصِفٌ وَمُعْصِفَةٌ . والريح تذكر وتؤنث . والعاصفة : الشديدة الهبوب . فإن قيل : قد قال في موضع آخر { تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً } [ ص : 36 ] والرخاء : اللين قيل : كانت الريح تحت أمره ، إن أراد أن تشتد اشتدت ، وإن أراد أن تلين لانت . فإن قيل : قال في داود : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ } ، وقال في حق سليمان " وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ " فذكر في حق داود بكلمة مع وفي حق سليمان باللام وراعى هذا الترتيب أيضاً في قوله { يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } [ سبأ : 10 ] وقال : { فَسَخَّرنَا لَهُ ٱلْرّيحَ تَجْري بِأَمْرهِ } [ ص : 36 ] فما الفائدة في تخصيص داود بلفظ مع ، وسليمان باللام ؟ فالجواب : يحتمل أنّ الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف فما أضيف بلام التمليك ، وأما الريح فلم يصدر منه إلا ما يجري مجرى الخدمة فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك وهذا جواب إقناعي . قوله : " تَجْرِي " يجوز أن تكون حالاً ثانية ، وأن تكون حالاً من الضمير في " عَاصِفَة " فتكون حالين متداخلتين . وزعم بعضهم : أَنَّ { الَّتِي بَارَكْتَا ( فِيهَا } صفة للريح ، وفي الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : الريح التي باركنا فيها ) إلى الأرض . وهو تعسف . والمراد بقوله : { إلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } بيت المقدس . قال الكلبي : كان سليمان - عليه السلام - وقومه يركبون عليها من إصطخر إلى الشام ، وإلى حيث شاء ، ثم يعود إلى منزله . ثم قال : { وَكُنَّا بِكُلِ شَيْءٍ عَالِمِينَ } وكنا بكل شيء عملناه عالمين بصحة التدبير فيه ، علمنا أنما نعطي سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه . قوله : " مَن يَغُوصُونَ " يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة وعلى كلا التقديرين فموضعها إمَّا نصب نسقاً على الريح ، أي : وسخرنا له من يغوصون ، أو رفع على الابتداء والخبر في الجار قبله وجمع الضمير حملاً على معنى " مَنْ " ، وحسن ذلك تقدم الجمع في قوله " الشَّيَاطِينَ " فلما ترشح جانب المعنى روعي ، ونظيره قوله : @ 3731 - وَإنَّ من النِّسْوَانِ مَنْ هِي روضة تهيج الرياض قبلها وتصوح @@ راعى التأنيث لتقدم قوله : وإنَّ من النسوان . و " دُونَ ذَلِكَ " صفة لـ " عَمَلاً " . فصل يحتمل أن يكون من يغوصون منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال ، ويحتمل أنهم فرقة أخرى ، ويكون الكل داخلين في لفظة " مَنْ " والأول أقرب . وظاهر الآية أنه سخرهم لكنه قد روي أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين : أحدهما : إطلاق لفظ الشياطين . والثاني : قوله : { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } فإنَّ المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد ، وإنما يجب ذلك في الكافر . ومعنى " يَغُوصُونَ " أي : يدخلون تحت الماء ، فيخرجون له من قعر البحر الجواهر { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ } أي : دون الغوص ، وهو ما ذكره تعالى في قوله : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } [ سبأ : 13 ] الآية . { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } حتى لا يخرجوا من أمره . وقيل : وكل بهم جمعاً من الملائكة وجمعاً من المؤمنين الجن . وقال ابن عباس : إنَّ سلطانه مقيم يفعل بهم ما يشاء . وفي كونهم محفوظين ثلاثة أوجه : أحدها : أنه تعالى كان يحفظهم لئلا يذهبوا . وثانيها : قال الكلبي : كان يحفظهم من أن يهيجوا أحداً في زمانه . وثالثها : قال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا ، وكان دأبهم أن يعملوا بالنهار ثم يفسدونه بالليل . روي أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً قال له : إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من العمل ولم يشتغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوه وأفسدوه . فصل سأل الجبائي نفسه ، وقال : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم دقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل ، وإنما يمكنهم الوسوسة ؟ وأجاب بأنه - سبحانه - كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان ، فلما مات سليمان - عليه السلام - ردهم إلى الخلقة الأولى ، لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ولو ادعى مثبت النبوة وجعله دلالة ، لكان كمعجزات الرسل ، فلذلك ردهم إلى خلقهم الأول . قال ابن الخطيب : وهذا الكلام ساقط من وجوه : أحدها : لم قلتم إنّ الجن من الأجسام ، ولم يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ، ويكون الجن منهم ؟ فإن قلت : لو كان الأمر كذلك لكان مثلاً للباري تعالى . قلت : هذا ضعيف لأنَّ الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في اللزومات ، فكيف اللوازم السلبية . سلمنا أنه جسم لكن لم يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف ، وكلامه بناء على أن البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف سلمنا أنه لا بُدّ من تكثيف أجسامهم ، لكن لم قلت : بأنه لا بُدّ من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان . وقوله : بأنه يفضي إلى التلبيس ، قلنا : التلبيس غير لازم ، لأن النبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فللمدعوّ أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن قوة أجسامهم كانت معجزة لنبي آخر . ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به . واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة . أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد ، وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود - عليه السلام - قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة ، فأي بعد أنْ يجعل التراب اليابس جسماً حيوانياً . وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار ، وقد جعلها الله - تعالى - معجزة لسليمان - عليه السلام ، أما الهواء فقوله : { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ } [ ص : 36 ] . وأما النار فلأنَّ الشياطين مخلوقون من النار ، وقد سخرهم الله - تعالى - له ، ثم كان يأمرهم بالغوص في المياه ، والنار تطفأ بالماء ، ولم تكن تضرهم وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد .