Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 87-88)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } الآية . " ذَا " بمعنى صاحب و " النون " الحوت . ويجمع على نِينَان كحوت وحيتان والمراد بذي النون يونس - عليه السلام - وسمي بذلك ، لأنَّ النون ابتلعه . وقد تقدم أن الاسم إذا دار بين أن يكون مفيداً ولقباً فحمله على المفيد أولى خصوصاً إذا علمت الفائدة التي لذلك الوصف . قوله : " مُغَاضِباً " حال من فاعل " ذَهَبَ " والمفاعلة هنا تحتمل أن تكون على بابها من المشاركة ، أي : غاضب قومه وغاضبوه حين لم يؤمنوا في أول الأمر ، وفي بعض التفاسير : مغاضباً لربه فإن صح ذلك عمن يعتبر قوله ، فينبغي أن تكون اللام للتعليل لا التعدية للمفعول ، أي : لأجل ربه ولدينه . ويحتمل أن يكون بمعنى غضبان ، فلا مشاركة كعاقبت وسافرت . والعامة على " مُغَاضِباً " اسم فاعل . وقرأ أبو شرف " مُغَاضَباً " بفتح الضاد على ما لم يسم فاعله كذا نقله أبو حيان . ونقله الزمخشري عن أبي شرف " مُغْضباً " دون ألف من أغضبته فهو مغضب . قوله : " أن لَّن " " أن " هذه المخففة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، و " لَن نَقْدِرَ " هو الخبر ، والفاصل حرف النفي . والمعنى : لن نضيق عليه كقوله : { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] . والعامة على " نَقْدِرَ " بنون العظمة مفتوحة وتخفيف الدال ، والمفعول محذوف أي : الجهات والأماكن . وقرأ الزهري بضمها وتشديد الدال . وقرأ ابن أبي ليلى وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب " يُقْدَر " بضم الياء من تحت ، وفتح الدال خفيفة مبنياً للمفعول . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر بفتح الياء وكسر الدال خفيفة وعلي بن أبي طالب واليماني بضم الياء وكسر الدال مشددة . والفاعل على هذين الوجهين ضمير يعود على الله تعالى . قوله : { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتََ } يجوز في " أَنْ " وجهان : أحدهما : أنها المخففة من الثقيلة فاسمها كما تقدم محذوف ، والجملة المنفية بعدها الخبر . والثاني : أنها تفسيرية ، لأنَّها بعد ما هو بمعنى القول دون حروفه . فصل معنى الآية : واذكر صاحب الحوت ، وهو يونس بن متى { إذْ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } قال ابن عباس : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين ، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً ، وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله إلى شعيا النبي أن اذهب إلى حزقيل الملك ، وقل له حتى يوجه نبياً قوياً أميناً ، فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل . فقال الملك : ومن ترى ؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال : يونس بن متى فإنه قوي أمين ، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج ، فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا . قال : هل سماني لك ؟ قال : لا . قال : فهاهنا أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه ، فخرج مغاضباً للنبي وللملك ولقومه . فأتى بحر الروم ، فوجد قوماً هيأوا سفينة فركب معهم . وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة : إذ ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذ كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم . فكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم ، واستحيى منهم ، ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب عنهم ، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده ، وأن يسمى كذاباً لا كراهية لحكم الله . وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد ، فغضب . والمغاضبة هاهنا هي المفاعلة التي تكون من واحد كالمسافرة والمعاقبة . فمعنى قوله : " مُغَاضِباً " أي : غضبان . وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم ، قال : ألتمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك ، فغضب ، فانطلق إلى السفينة . وقال وهب : إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً ، وكان في خلقه ضيق ، فلما حمل عليه أثقال النبوة تَفَسَّخَ تَحْتَها الرَّبع تحت الحمل الثقيل . فقذفها من يده ، وخرج هارباً منها ، فلذلك أخرجه الله من أولي العزم ، فقال لنبيه محمد - عليه السلام - : { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] ، قال : { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [ القلم : 48 ] . قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي : أن نقضي عليه بالعقوبة . قال مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية العوفي عن ابن عباس : يقال : قدّر الله شيئاً تقديراً ، وقدر يقدر قدراً بمعنى واحد . ومنه قوله : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } [ الواقعة : 60 ] في قراءة من خفّفها دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري { فَظَنَّ أَن لَّن نُقَْدِّرَ عَلَيْهِ } بالتشديد . وقال عطاء وكثير من العلماء : معنا فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى : { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] أي : يضيق . وقال ابن زيد : هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر ( عليه ؟ ) وعن الحسن قال : بلغني أنَّ يونس لما أصاب الذنب انطلق مغاضباً لربه ، واستزله الشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليه ، وكان له سلف عبادة ، فأبى الله أن يجعله للشيطان ، فقذفه في بطن الحوت ، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة . وقال عطاء : سبعة أيام ، وقيل : ثلاثة أيام . وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة . وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة ، فتاب إلى ربه في بطن الحوت ، وراجع نفسه ، فقال : { لاَّ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } حين عصيتك ، وما صنعت من شيء ، فلم أعبد غيرك ، فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته . فصل احتج القائلون بجواز الذنب على الأنبياء بهذه الآية من وجوه : أحدها : أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضباً لربه ، قيل : هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب ، واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير ، وإذا كان كذلك فمغاضبة الله من أعظم الذنوب ، ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله بل كان مع ذلك الملك ، أو مع القوم ، فهو أيضاً محظور لقول الله تعالى : { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [ القلم : 48 ] وذلك يقتضي أن ذلك الفعل من يونس محظور . وثانيها : قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } وذلك يقتضي كونه شاكاً في قدرة الله . وثالثها : قوله : { إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } والظلم مذموم قال تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [ هود : 18 ] . ورابعها : أنه لو لم يصدر منه الذنب ، فلم عاقبه الله بأن ألقاه في البحر في بطن الحوت . وخامسها : قوله : { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 142 ] والمليم هو ذو الملامة ومن كان كذلك فهو مذنب . وسادسها : قوله : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [ القلم : 48 ] فإن لم يكن صاحب ذنب لم يجز النهي عن التشبّه به وإن كان مذنباً فهو المطلوب . وسابعها : قوله : { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [ القلم : 48 ] وقال : { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ } [ الأحقاف : 35 ] وهذا يقتضي أنّ ذلك الفعل مخرج أن يكون يونس من أولي العزم . والجواب : أنه ليس في الآية من غاضبة ، فلا نقطع على نبي الله بأنه غاضب ربه ، لأنّ ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي ، والجاهل بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون نبياً . وأما ما روى من أنه خرج مغاضباً لأمر يرجع إلى الاستعداد فمما يرتفع حال الأنبياء عنه ، لأنّ الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه ، لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] وقوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } [ النساء : 65 ] . فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم . وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضباً لغير الله ، والغالب أنه إنما يغاضب من يعصه فيما يأمره به ، فيحمل على مغاضبة قومه ، أو الملك ، أو هما جميعاً ومعنى مغاضبته لقومه أنه غاضبهم لمفارقته لخوف حلول العذاب بهم ، وقرىء " مغضباً " كما تقدم وأما قولهم : مغاضبة القوم أيضاً محظورة لقوله : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [ القلم : 48 ] . فالجواب لا نسلم أنها كانت محرمة ، أما الذهاب ، فلأن الله أمره بتبليغ الرسالة إليهم ، وما أمره بأن يبقى معهم أبداً ، فظاهر الأمر لا يقتضي التكرار ، فلم يكن خروجه من بينهم معصية . وأما الغضب لما لم يكن منهياً عنه قبل ذلك ظن أن ذلك جائز من حيث أنه لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه ، بل كان الأولى أن يصابر وينتظر من الله الأمر بالمهاجرة عنهم ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [ القلم : 48 ] كأن الله تعالى أراد لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل المنازل وأعلاها . وأما الجواب عن قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } فنقول من ظن عجز الله فهو كافر ، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إلى الأنبياء ، فإن لا بدَّ فيه من التأويل ، وفيه وجوه : الأول : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } نضيق عليه كقوله : { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [ الرعد : 26 ] { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] أي : ضيق ، وكذا قوله : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] أي : ضيق ، فمعناه : أن لن نضيق عليه ، وعلى هذا فالآية حجة لنا ، لأن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره ، وكان في المعلوم أنَّ الصلاح في تأخير خروجه ، وهذا من الله بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج لا على تعمد المعصية لكن ظن أنَّ الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر ، وكان الصلاح خلاف ذلك . والثاني : أن يكون هذا من باب التمثيل ، أي : فكانت حاله مماثلة لحال من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه عن قومه من غير انتظار لأمر الله . الثالث : أن يفسر القدر بالقضاء ، والمعنى فظن أن لن نقدر عليه بشدة . قال مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس واختيار الفراء والزجاج : يقال : قَدَرَ الله الشيء قَدْراً وقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فالقدر بمعنى التقدير ، وتقدم قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري بضم النون والتشديد من التقدير . وروي أنه دخل ابن عباس على معاوية ، فقال معاوية : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك . فقال : وما هي ؟ قال : ظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه . فقال ابن عباس : هذا من القدر لا من القدرة . الرابع : فظن أن لن ( نقدر ، أي : فظن أن لن نفعل لأن ) بين القدرة والفعل مناسبة ، فلا يبعد جعل أحدهما مجازاً عن الآخر . الخامس : أنه استفهام بمعنى التوبيخ كما تقدم عن ابن زيد . السادس : قول من قال إن هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس ، فيكون هذا الظن حاصلاً قبل الرسالة ، وإذا كان كذلك فلا يبعد في حق غير الأنبياء أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ، ثم إنه يرده بالحجة والبرهان . وأما الجواب عن قوله { إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } فنقول : إن حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام ، وإن حملناه على ما بعدها فيجب تأويله ، لأنا لو أجريناه على ظاهره ، لاستحق اللعن ، وهذا لا يقوله مسلم ، وإذا وجب التأويل فنقول : لا شك أنه كان تاركاً للفضيلة مع القدرة على تحصيل الأفضل ، فكان ذلك ظلماً . وأما الجواب عن إلقائه في البحر في بطن الحوت ، وأن ذلك عقوبة ، فلا نسلم أنَّ ذلك عقوبة ، إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا بل المراد المحنة . وأما الجواب عن الملامة فإنما كان بسبب ترك الأفضل . فصل قوله { فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ } قال الزمخشري : أي : في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله : { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] وقوله : { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِِ } [ البقرة : 257 ] . وقيل : أراد ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت . { لاَّ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ } نزه ربه عن كل النقائض ، ومنها العجز ، وهذا يدلّ على أنه ما كان مراده من قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أنه ظن العجز ، وإنما قال : " سُبْحَانَكَ " ، لأنّ معناه سبحانك أن تفعل جوراً أو شهوة الانتقام أو عجزاً عن تخليصي عن هذا الحبس ، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة { إنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } أي : ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك كأنه قال : كنت من الظالمين ، وأنا الآن من التائبين النادمين فاكشف عني المحنة . روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " مَا من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له " . قوله : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ } أي : من غمه بسبب كونه في بطن الحوت وبسبب خطيئته . قوله : { وَكَذَلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنينَ } : الكاف نعت لمصدر أو حال من ضمير المصدر أي : كما أنجينا يونس من كرب الحوت إذ دعانا ، أو كإنجائنا يونس كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا . وقرأ العامة " نُنْجِي " بضم النون الأولى وسكون الثانية من أنجى ينجي . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم " نُجِّي " بتشديد الجيم وسكون الياء وفيها أوجه : أحسنها : أن يكون الأصل " نُنَجِّي " بضم الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم فاستثقل توالي مثلين ، فحذفت الثانية كما حذفت في قوله { مَا نُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ } [ الحجر : 8 ] في قراءة من قرأه كما تقدم ، وكما حذفت التاء الثانية في قوله : { تَذَكَّرَونَ } [ الأنعام : 152 ] و { تَظَاهَرُونَ } [ البقرة : 85 ] وبابه . ولكن أبو البقاء استضعف هذا التوجيه بوجهين فقال : أحدهما : أنَّ النون الثانية أصل ، وهي فاء الكلمة ، فحذفها يبعد جداً . والثاني : أنَّ حركتها غير حركة النون الأولى ، ولا يستثقل الجمع بينهما بخلاف " تظاهرون " ألا ترى أنك لو قلت : تتحامى المظالم لم يَسُغْ حذف الثانية . أما كون الثانية أصلاً فلا أثر له في منع الحذف ، ألا ترى أن النحويين اختلفوا في إقامة واستقامة ، أي الألفين المحذوفة من أنَّ الأولى هي الأصل ، لأنها عين الكلمة وأما اختلاف الحركة فلا أثر له أيضاً ، لأن الاستثقال باتحاد لفظ الحرفين على أي حركة كانا . الوجه الثاني : أنّ " نُجِّي " فعل ماض مبني للمفعول ، وإنما سكنت لامه تخفيفاً ، كما سكنت في قوله : { مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } [ البقرة : 278 ] في قراءة شاذّة تقدمت ، قالوا : وإذا كان الماضي الصحيح قد سكن تخفيفاً فالمعتل أولى ، ومنه : @ 3732 - إنَّمَا شِعْرِي قَنْدٌ قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلاَنِ @@ وتقدم من ذلك جملة وأسند هذا الفعل إلى ضمير المصدر مع وجود المفعول الصريح كقراءة أبي جعفر { لِيُجْزَى قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ الجاثية : 14 ] وهذا رأي الكوفيين والأخفش ، وتقدمت شواهد ذلك ، والتقدير : نُجِّي النجاة ، قال أبو البقاء : وهو ضعيف من وجهين : أحدهما : تسكين آخر الفعل الماضي . والآخر : إقامة المصدر مع وجود المفعول الصريح . وقد عرف جوابهما مما تقدم . الوجه الثالث : أن الأصل " نُنْجِي " كقراءة العامة إلا أن النون الثانية قلبت جيماً وأدغمت في الجيم بعدها . وهذا ضعيف جداً ، لأن النون لا تقارب الجيم فتدغم فيها . الوجه الرابع : أنه ماض مسند بضمير المصدر أي : نُجِّي النجاءُ كما تقدم في الوجه الثاني ، إلا أنَّ " المُؤْمِنِينَ " ليس منصوباً بـ " نُجِّي " بل بفعل مقدر . وكأن صاحب هذا الوجه فرَّ من إقامة غير المفعول به مع وجوده فجعله من جملة أخرى . وهذه القراءة متواترة ، ولا التفات على من طعن على قارئها ، وإن كان أبو علي قال : هي لحن . وهذه جرأة منه ، وقد سبقه إلى ذلك أبو إسحاق الزجاج . وأما الزمخشري فإنما طعن على بعض الأوجه المتقدمة ، فقال : ومن تمحل لصحته فجعله فُعِّل ، وقال : نُجِّي النجاء المؤمنين ، وأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ، ونصب المؤمنين فمتعسف بارد التعسف . فلم يرتض هذا التخريج بل للقراءة عنده تخريج آخر ، وقد يمكن أن يكون هو المبتدأ به لسلامته مما تقدم من الضعف .