Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 11-13)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } الآية . قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة : نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصحَّ بها جسمه ، ونتجت فرسه مهراً حسناً ، وولدت امرأته غلاماً ، وكثر ماله قال : هذا دين حسن ، وقد أصبت فيه خيراً واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه ، وقَلَّ مالُه قال ما أصبت منذ دخلت هذا الدين إلا شراً فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة ، فأنزل الله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } . قال أكثر المفسرين : أي : على شك ، وأصله من حرف الشيء ، وهو طرفه . وقيل : على انحراف ، أو على طرف الدين لا في وسطه كالذي يكون في طرف العسكر إن رأى خيراً ثبت وإلا فرَّ . و " عَلَى حَرْف " حال من فاعل " يَعْبُد " أي : متزلزلاً . ومعنى " عَلَى حَرْفٍ " أي على شك أو على انحراف أو على طرف الدين لا في وسطه . فصل لما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه أعقبه بذكر المنافقين فقال : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة ، كالذي يكون على طرف العسكر ، فإن أحس بغنيمة قرّ وإلا فَرّ ، وهذا هو المراد بقوله { فَإن أصَابَهُ خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجه } . قال الحسن : هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه ، { فإن أصابه خير } صحة في جسمه وسَعَة في معيشته " اطمأن به " وسكن إليه ، { وإن أصابته فتنة } بلاء في جسده وضيق في معيشته { انقلب على وجهه } ارتد ورجع إلى ما كان عليه من الكفر . فصل ذكروا في السبب وجوهاً : الأول : ما تقدم . والثاني : قال الضحاك : نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس ، قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصابنا خير عرفنا أنه حق ، وإن كان غير ذلك عرفنا أنه باطل . الثالث : قال أبو سعيد الخدري : " أسلم رجل من اليهود ، فذهب بصره وماله وولده ، فقال : يا رسول الله أقلني فإني ما أصبت من ديني هذا خيراً ذهب بصري ومالي وولدي . فقال عليه السلام : " إنَّ الإسْلاَمَ لاَ يُقَالُ ، إنَّ الإسْلاَمَ يَسْبِكُ كَمَا تَسْبِكُ النَّارُ خَبَثَ الحَدِيد والذَّهَبَ والفِضَّةَ " ونزلت هذه الآية . وهاهنا إشكال ، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن هذه السور مكيَّة إلا ست آيات ذكروها أولها { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ } [ الحج : 19 ] إلى قوله { صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ } [ الحج : 24 ] ولم يعدوا هذه الوقائع ( التي ذكروها في سبب نزول هذه الآية مع أنهم يقولون إن هذه الوقائع ) إنما كانت بالمدينة كما تقدم النقل عنهم . فإن قيل : كيف قال : { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ } والخير أيضاً فِتْنَةٌ ، لأنه امتحان . قال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] . فالجواب : مثل هذا كثيرٌ في اللغة ، لأن النعمة بلاء وابتلاء قال تعالى { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } [ الفجر : 15 ] ولكن إنما يطابق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع ، والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي ، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي ، لأنه لا دين له ؛ فلذلك وردت الآية على ما يعتقده . فإن قيل : إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله { ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ } وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب . فالجواب أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره ، فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب على الحقيقة . فإن قيل : مقابل الخير هو الشر فلما قال { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ } كان يجب أن يقول : وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ . فالجواب : لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى : وإن أصابه شرٌّ بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح . قوله : { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلآُخِرَةَ } قرأ العامة " خسر " فعلاً ماضياً ، وهو يحتمل ثلاثة أوجه : الاستئناف ، والحالية من فاعل " انْقَلَبَ " ، ولا حاجة إلى إضمار ( قد ) على الصحيح . والبدلية من قوله " انقلب " كما أبدل المضارع من مثله في قوله { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 ، 69 ] . وقرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن والجحدري في آخرين " خَاسِر " بصيغة اسم الفاعل منصوب على الحال ، وهو توكيد كون الماضي في قراءة العامة حالاً وقرئ برفعه ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون فاعلاً بـ " انقلب " ، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر ، أي : انقلب خاسر الدنيا والآخرة ، والأصل : انقلب هو . الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو خاسر . وهذه القراءة تؤيد الاستئناف في قراءة المضي على التخريج الثاني . وحق من قرأ " خاسر " رفعاً ونصباً أن يجر " الآخرة " لعطفها على " الدنيا " المجرورة بالإضافة . ويجوز أن يبقى النصب فيها ، إذ يجوز أن تكون الدنيا منصوبة ، وإنما حذف التنوين من " خاسر " لالتقاء الساكنين نحو قوله : @ 3750 - وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلا @@ فصل معنى خسرانه الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ، ولا يبقى ماله ودمه مصوناً ، وأما خسران الآخرة فيفوته الثواب الدائم ، ويحصل له العقاب الدائم ، و { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } . قوله : { يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ } إن عصاه ولم يعبده ، { وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } إن أطاعه وعبده ، و { ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } عن الحق والرشد وهذه الآية تدل على أن الآية الأولى لم ترد في اليهود ؛ لأنهم ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام . والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى الرسول على وجه النفاق . قوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . فيه عشرة أوجه ، وذلك أنه إما أن يجعل " يَدْعُو " متسلطاً على الجملة من قوله : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أو لا ، فإن جعلناه متسلطاً عليها كان فيه سبعة أوجه : الأول : أنّ " يَدْعُو " بمعنى يقول ، واللام للابتداء و " من " موصولة في محل رفع بالابتداء ، و " ضَرُّه " مبتدأ ثان ، و " أَقْرَب " خبره ، وهذه الجملة صلة للموصول ، وخبر الموصول محذوف تقديره : يقول للذي ضره أقرب من نفعه : إله ، أو إلهي ، ونحو ذلك ، والجملة كلها في محل نصب بـ " يَدْعُو " لأنه بمعنى يقول ، فهي محكية به . وهذا قول أبي الحسن وعلى ( هذا فيكون قوله : " لَبِئْسَ المَوْلَى " مستأنفاً ليس داخلاً في المحكي قبله ، لأن الكفار لا يقولون في أصنامهم ذلك ) . ( ورد بعضهم هذا الوجه بأنه فاسد المعنى ) إذ الكافر لا يعتقد في الأصنام أنَّ ضرّها أقرب من نفعها البتة . الثاني : أنَّ " يَدْعُو " مشبه بأفعال القلوب ، لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاده وأفعال القلوب تعلق فـ " يَدْعُو " معلق أيضاً باللام ، و " لَمَنْ " مبتدأ موصول ، والجملة بعدة صلة ، وخبره محذوف على ما مر في الوجه قبله ، والجملة في محل نصب كما يكون كذلك بعد أفعال القلوب . الثالث : أن يضمن " يَدْعُو " معنى يزعم ، فتعلق كما تعلق ، والمعنى . والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله . الرابع : أنَّ الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها ، فاللام معلقة لـ " يَدْعُو " وهو مذهب يونس ، فالجملة بعده والكلام فيها كما تقدم . الخامس : أن " يَدْعُو " بمعنى يسمي ، فتكون اللام مزيدة في المفعول الأول ، وهو الموصول وصلته ، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره : يسمي الذي ضره أقرب من نفعه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك . السادس : أن اللام مزالة من موضعها ، والأصل : يدعو من لضره أقرب ، فقدمت من تأخر . وهذا قول الفراء . ورد هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول . السابع : أن اللازم زائدة في المفعول به وهو " من " التقدير : يدعو من ضره أقرب ، فـ " من " موصولة والجملة بعدها صلتها ، والموصول هو المفعول بـ " يدعو " زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله : " رَدِفَ لَكُمْ " في أحد القولين ورد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان العامل فرعاً أو تقدم المفعول . وقرأ عبد الله " يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ " بغير لام الابتداء ، وهي مؤيدة لهذا الوجه . وإن لم نجعله متسلطاً على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه : أظهرها : أن " يَدْعُو " الثاني توكيد لـ " يدعو " الأول فلا معمول له ، كأنه قيل : ( يدعو يدعو ) من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه ، فعلى هذا تكون الجملة من قوله { ذلك هو الضلال } معترضة بين المؤكد والمؤكد ، لأن فيها تشديداً وتأكيداً ، ويكون قوله : " لَمَنْ ضَرُّهُ " كلاماً مستأنفاً ، فتكون اللام للابتداء ، و " مَنْ " موصولة ، و " ضَرُّهُ " مبتدأ ، و " أقرب " خبره ، والجملة صلة ، و " لَبِئْسَ " جواب قسم مقدر ، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو الموصول . الثاني : أن يجعل " ذلك " موصولاً بمعنى الذي ، و " هو " مبتدأ ، و " الضلال " خبره ، والجملة صلة له ، وهذا الموصول مع صلته في محل نصب مفعولاً بـ " يَدْعُو " ، أي : يَدْعُو الذي هو الضلال وهذا منقول عن أبي علي الفارسي . وليس هذا ماش على رأي البصريين إذ لا يكون عندهم من أسماء الإشارة موصول إلا " ذا " بشروط تقدم ذكرها . ( وأما الكوفيون فيجيزون في أسماء الإشارة مطلقاً ) أن تكون موصولة ، وعلى هذا فيكون { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ } مستأنفاً على ما تقدم . الثالث : أن يجعل " ذَلِكَ " مبتدأ و " هُوَ " جوزوا فيه أن يكون بدلاً أو فصلاً أو مبتدأ ، و " الضلال " خبر " ذَلِكَ " أو خبر " هُوَ " على حسب الخلاف في " هُوَ " و " يَدْعُو " حال ، والعائد منه محذوف تقديره : يدعوه وقدروا هذا الفعل الواقع موقع الحال بـ ( مدعوًّا ) . قال أبو البقاء : وهو ضعيف ، ولم يبين وجه ضعفه . وكأن وجهه أن " يدعو " مبني للفاعل فلا يناسب أن يقدر الحال الواقعة موقعه اسم مفعول بل المناسب أن يقدر اسم فاعل ، فكان ينبغي أن يقدروه داعياً ، ولو كان التركيب يدعى مبنياً للمفعول لحسن تقديرهم : مدعو ، ألا ترى أنك إذا قلت : جاء زيد يضرب ، كيف يقدرونه بضارب لا بمضروب . فصل اختلفوا في المراد بقوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . قيل : المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم ، لأنه يصح منهم أن يضروا ، ويؤيد هذا أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم ، وهذ الآية تقتضي كون المذكور فيها ضاراً نافعاً ، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض . وقيل المراد الأوثان ، ثم أجابوا عن التناقض بوجوه : أحدها : أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ، ولكن عبادتها سبب الضرر ، وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سبباً للضلال ، فكذلك هنا نفى الضرر عنهم في الآية الأولى ، بمعنى كونها فاعلة ، وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر . وثانيها : كأنه سبحانه بيَّن في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية الثانية : ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها . وثالثها : أن الكفار إذا أنصفوا علموا أنه لا يحصل منها لا نفع ولا ضرر في الدنيا ، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها ، فكأنهم يقولون لها في الآخرة إن ضركم أعظم من نفعكم . قوله : { لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ } المولى هو الناصر ، والعشير الصاحب والمعاشر . والمخصوص بالذم محذوف تقديره : لبئس المولى ولبئس العشير ذلك المدعو . واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق ، لأنه لا يكاد يستعمل في الأوثان ، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله الذي هو خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء بقوله تعالى : { لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ } والمراد ذم ما انتصروا بهم .