Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 18-20)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ } الآية ، لما استدل أولاً على كمال القدرة بخلق الإنسان ، ثم استدل ثانياً بخلق السموات ، استدّل ثالثاً بنزول الأمطار ، وكيفية تأثيرها في النبات . واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة ، وهو مع ذلك سبب لحصول النعم ، فلا جَرم ذكره الله أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً . قال أكثر المفسرين : إنه تعالى يُنزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية ، ولقوله : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] . وقال بعضهم : المراد بالسماء السحاب ، وسماه سماء لعلوه ، والمعنى : أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض ، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد ، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله على قدر الحاجة إليه ، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ، ولا بماء البحر لملوحته ، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض ، لأنّ البحار هي الغاية في العمق ، وهذه الوجوه التي يتحملها من ينكر الفاعل المختار ، فأمّا من أَقرَّ به فلا حاجة به إلى شيء منها . وقوله : " بِقَدَرٍ " قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة من الزرع والغرس والشرب ، ويَسْلَمُون معه من المضرة . وقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } قيل : جعلناه ثابتاً في الأرض ، قال ابن عباس : أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سَيْحُونَ وجَيْحُونَ ودجلة والفرات والنيل أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل - عليه السلام - ، ثم استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } ، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ، ويرفع أيضاً القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله : { وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فَقَدَ أَهْلُها خير الدنيا والدين . وقيل : معنى : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } : ما تبقّى في الغدران والمستنقعات ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر . وقيل : فأسكناهُ في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء . قوله : { وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } " عَلَى ذَهَابٍ " متعلق بـ " لقَادِرُونَ " واللام كما تقدم غير مانعة من ذلك ، و " بِهِ " متعلق بـ " ذَهَابٍ " ، وهي مرادفة للهمزة كهي في " لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ " أي : على إذهابه والمعنى : كما قَدَرْنا على إنزاله كذلك نَقْدِر على رفعه وإزالته فتهلكوا عطشاً ، وتهلك مواشيكم وتخرب أرضكم . قال الزمخشري : قوله : { عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ } من أوقع النكرات وأحزها للمفصل ، والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ، وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء ، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] واعلم أنه تعالى لمّا نبّه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ } ، أي : بالماء { جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ، وإنما ذكر النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفاكهة رطباً ويابساً ، وقوله : { لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } أي : في الجنات فكما أن فيها النخيل والأعناب فيها الفواكه الكثيرة ، " وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ " شتاءً وصيفاً . قال الزمخشري : يجوز أن يكون هذا من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يعملها ، يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه ، كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم . قوله : " وشَجَرَةً " عطف على " جَنَّات " ، أي : ومما أنشأنا لكم شجرة ، وقرئت مرفوعة على الابتداء . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " سِينَاء " بكسر السين ، والباقون بفتحها والأعمش كذلك إلا أنه قصرها . فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس في الكلام ( فِعْلاَء ) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق بِسرْدَاح وقرطاس ، فهي كعِلْبَاء ، فتكون الهمزة منقلبة عن ياء أو واو ، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة متطرفاً بعد ألف زائدة قُلب همزة كَرِدَاء وكِسَاء قال الفارسي : وهي الياء التي ظهرت في درْحَاية ، والدرحاية الرجل القصير السمين . وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلاً مثل : حِمْلاَق ، إذ ليس في الكلام مثل : سيناء . يعني : مادة ( سين ونون وهمزة ) . وهذا مخالف لما تقدم من كونها بدلاً من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم ، وعلى هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث ، لأنها اسم بقعة بعينها ، وقيل : للتعريف والعجمة . قال بعضهم : والصحيح أن سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت فيه لغاتها ، فقالوا : ( سَيْنَاء ) كحمراء وصفراء ، و ( سِينَاء ) كعِلْبَاء وحِرْبَاء وسينين كخِنْذِيدِ ، وزحْلِيل ، والخِنْذِيد الفحل والخصي أيضاً ، فهو من الأضداد ، وهو أيضاً رأس الجبل المرتفع . والزحْلِيل : المتنحي من زحل إذ انتحى وقال الزمخشري : " طُورِ سَيْنَاء " وطُورِ سِينِينٍ لا يخلو إمّا أَنْ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإمّا أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس وكبعلبك ، فيمن أضاف ، فَمَن كَسَر سِين " سِيْنَاء " فقد منع الصرف للتعريف والعُجمة أو التأنيث ، لأنها بقعة ، وفِعْلاء لا يكون ألفه للتأنيث كَعِلْبَاء وحِرْبَاء . قال شهاب الدين : وكون ألف ( فِعْلاء ) بالكسر ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة ، وأَمَّا الكوفيون فعندهم أَنّ ألفها يكون للتأنيث ، فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحَمْراء وبابها . وكسر السين من ( سَيْنَاء ) لغة كنانة وأمَّا القراءة الثانية : فألفها للتأنيث ، فمنع الصرف واضح . قال أبو البقاء : وهمزته للتأنيث ، إذ ليس في الكلام ( فَعْلاَل ) بالفتح ، وما حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خَزْعَالٌ لا يثبت ، وإن ثبت فهو شاذ لا يحمل عليه . وقد وهم بعضهم فجعل ( سَيْنَاء ) مشتقة من ( السنا ) وهو الضوْء ، ولا يصح ذلك لوجهين : أحدهما : أنه ليس عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم . الثاني : أَنّا وإنْ سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين ( السنَا ) نون وعين ( سَيْناء ) ياء . كذا قال بعضهم . وفيه نظر ؛ إذْ لقائل أن يقول : لا نُسلّم أن عين ( سيناء ) ( ياء ) بل عينها ( نون ) ، وياؤها مزيدة ، وهمزتها منقلبة عن واو ، كما قلبت ( السنا ) ، ووزنها حينئذ ( فِيعَال ) و ( فِيعَال ) موجود في كلامهم ، كِميلاَع وقيتَال مصدر قاتل . قوله : " تَنْبُتُ " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " تُنْبِت " بضم التاء وكسر الباء والباقون بفتح التاء وضم الباء . فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه : أحدها : أن أنبت بمعنى ( نَبَت ) فهو مما اتفق فيه ( فَعَل ) و ( أَفْعَل ) وأنشدوا لزهير : @ 3788 - رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِم قَطِيناً بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ @@ وأنكره الأصمعي ، أي : نَبَت . الثاني : أنّ الهمزة للتعدية ، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي : تنبت ثمرها ، أو جناها ، و " بالدُّهْنِ " حال ، أي : ملتبساً بالدهن . الثالث : أن الباء مزيدة في المفعول به كهي في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] ، وقول الآخر : @ 3789 - سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ @@ وقول الآخر : @ 3790 - نَضْرِبُ بالسَّيْفِ ونَرْجُوا بِالفَرَج @@ وأمّا القراءة الأخرى فواضحة ، والباء للحال من الفاعل ، أي ملتبسة بالدهْنِ يعني وفيها الدهن ، كما يقال : ركب الأمير بجنده . وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز " تنبت " مبنيًّا للمفعول من أنبتها الله و " بالدُّهْنِ " حال من المفعول القائم مقام الفاعل أي : ملتبسة بالدُّهن . وقرأ زِرّ بن حبيش " تُنْبِتُ الدُّهْنَ " من أنبت ، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من أثبتها . والأشهب وسليمان بن عبد الملك " بالدِّهَان " وهو جمع دُهْن كرُمْح ورماح وأمّا قراءة أُبّي : " تُتْمِر " ، وعبد الله : " تُخْرِج " فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد ، والدّهن : عصارة ما فيه دسم ، والدَّهن - بالفتح - المسح بالدُّهن مصدر دَهَن يَدْهُنُ ، والمُدَاهَنَة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه ليقر خاطره . فصل اختلفوا في " طُورِ سَيْنَاء " وفي " طُورِ سِينِينَ " . فقال مجاهد : معناه البركة أي : من جبل مبارك . وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن . وقال الضحاك : معناه بالنبطية : الحسن . وقال عكرمة : بالحبشية . وقال الكلبي : معناه : المشجر أي : جبل وشجر . وقيل : هو بالسريانية : الملتف بالأشجار . وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة ، فهو سَيْناء ، وسِينِين بلغة النبط . وقال ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة . وقال مجاهد : سَيْناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده . والمراد بالشجرة التي تُنْبِتُ بالدُّهْنِ أي : تثمر الدهن وهو الزيتون . قال المفسرون : وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل ، لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ، ولأن معظمها هناك . قوله : " وَصِبْغٍ " العامة على الجر عطفاً على الدُّهنِ . والأعمش : " وَصِبْغاً " بالنصب نسقاً على موضع " بالدُّهنِ " ، كقراءة " وأَرْجُلَكُمْ " في أحد محتملاته . وعامر بن عبد الله : " وصِباغ " بالألف ، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ " بالدِّهَان " . والصِبْغ والصِبَاغ كالدِبْغ والدِبَاغ ، وهو اسم ما يفعل به . قال الزمخشري : هو ما يصطبغ به أي : ما يصبغ به الخبز . و " للآكِلِينَ " صفة ، والمعنى : إدام للآكلين . فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة ، لأنها تخرج الثمرة التي يكثر الانتفاع بها ، وهي طرية ومدخرة ، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ، ويعظم وجوه الانتفاع به .