Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 31-41)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } الآيات . قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هذه قصة هود لقوله تعالى حكاية عن هود { وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [ الأعراف : 69 ] ، ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف ، وهود ، والشعراء . وقال بعضهم : هي قصة صالح لأنَّ قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة وتقدم كيفية الدعوى في قصة نوح . قوله : " فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ " قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : حق " أَرْسَلَ " أن يتعدى بـ " إلى " كأخواته التي هي : وَجَّهَ ، وأَنْفَذَ وبَعَثَ ، فما له عدي في القرآن بـ ( إلى ) تارة وبـ ( في ) أخرى كقوله : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيۤ أُمَّةٍ } [ الرعد : 30 ] { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } [ سبأ : 34 ] . قُلْتُ : لم يعد بـ ( في ) كما عُدّي بـ ( إلى ) ، ولم يجعل صلة مثله ، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال ، كقول رؤبة : @ 3791 - أرسلت فيها مصعباً ذا أقحام @@ وقد جاء ( بَعَثَ ) على ذلك ، كقوله تعالى { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } [ الفرقان : 51 ] . قوله : { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } يجوز أن تكون المصدرية أي : أرسلناه بأن اعبدوا الله . أي : بقوله اعبدوا ، وأن تكون مفسرة . " أَفَلاَ تَتَّقُونَ " قال بعضهم : هذا الكلام غير موصول بالأول ، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه ، وردّوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك خوفهم بقوله : " أَفَلاَ تَتَّقُون " هذه الطريقة مخافة العذاب الذي أنذركم به . ويجوز أن يكون موصولاً بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان ، فدعاهم إلى عبادة الله ، وحذّرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان . قوله : " وقَالَ الملأُ " قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : ذكر مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف ، وسورة هود بغير واو ، { قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } [ الأعراف : 66 ] { قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } [ هود : 53 ] . وههنا مع الواو ، فأيّ فرق بينهما ؟ قُلْتُ : الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال : فماذا قيل له ؟ فقيل له : قالوا : كيت وكيت ، وأمّا الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله ، ومعناه أنه اجتمع في الحصول ، ( أي في هذه الواقعة في ) هذا الكلام الحق وهذا ( الكلام ) الباطل وشتان ما بينهما قال شهاب الدين : ولقائل أن يقول : هذا جواب بنفس الواقع ، والسؤال باق ، إذ يحسن أن يقال : لِمَ لا جعل هنا قولهم أيضاً جواباً لسؤال سائل كما في نظيرتها أو عكس الأمر . قوله { وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ } أي : بالمصير إلى الآخرة " وأَتْرَفْنَاهُم " نعمناهم ووسعنا عليهم { فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ } وقد تقدم شرح هذه الشبهة في القصة الأولى { وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } أي : منه ، فحذف العائد لاستكمال شروطه ، وهو اتحاد الحرف ، والمتعلق ، وعدم قيامه مقام مرفوع ، وعدم ضمير آخر ، هذا إذا جعلناها بمعنى الّذي ، فإن جعلتها مصدراً لم يحتج إلى عائد ، فيكون المصدر واقعاً موقع المفعول . أي : من مشروبكم . وقال في التحرير : وزعم الفراء أن معنى " مِمَّا تَشْرَبُونَ " على حذف أي : تشربون منه . وهذا لا يجوز عند البصريين ، ولا يحتاج إلى حذف ألبتة ، لأن ( ما ) إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت العائد ، ولم تحتج إلى إضمار ( من ) يعني : أنه يقدر تشربونه من غير حرف جر ، وحينئذ تكون شروط الحذف أيضاً موجودة ولكن تفوت المقابلة إذ قوله : " تَأْكُلُونَ مِنْهُ " فيه تبعيض ، فلو قدرت هنا تشربونه من غير ( من ) فاتت المقابلة . ثم إن قوله : وهو لا يجوز عند البصريين ممنوع ، بل هو جائز لوجود شرط الحذف . قوله : { لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } لمغبونون ، جعلوا اتباع الرسول خسراناً ولم يجعلوا عبادة الصنم خسراناً ، قال الزمخشري و " إذا " وقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قولهم قال أبو حيان : وليس واقعاً في جزاء الشرط ، بل واقعاً بين " إنكم " و ( الخبر ) ، و " إنكم " و ( الخبر ) ليس جزاء للشرط بل ذلك جواب للقسم المحذوف قبل " إن " الشرطية ( ولو كانت " إنكم " والخبر جواباً للشرط ) لزمت ( الفاء ) في ( إنكم ) بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلا عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ قال شهاب الدين : يعني أنه إذ توالى شرط وقسم أجيب سابقهما ، والقسم هنا متقدم فينبغي أن يجاب ولا يجاب الشرط ، ولو أجيب الشرط لاختلت القاعدة إلا عند بعض الكوفيين ، فإنه يجيب الشرط وإن تأخر ، وهو موجود في الشعر . قوله : أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ " الآية . في إعرابها ستة أوجه : أحدها : أنّ اسم أنّ الأولى مضاف لضمير الخطاب ، حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والخبر قوله : " إِذَا متُّم " ، و " أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ " تكرير ، لأنَّ الأولى للتأكيد ، والدلالة على المحذوف والمعنى : أنَّ إخراجكم إذا متم وكنتم . الثاني : أنَّ خبر ( أنَّ ) الأولى هو " مُخْرَجُونَ " ، وهو العامل في " إِذَا " وكررت الثانية توكيداً لمَّا طال الفصل وإليه ذهب الجرمي والمبرد والفراء ، ويدل على كون الثانية توكيداً قراءة عبد الله : { أَيَعِدُكُمْ إِذَا متُّمْ وكُنْتُمْ تُراباً وعِظَاماً أَنَّكُم مُخْرَجُونَ } . الثالث : أنّ " أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ " مؤول بمصدر مرفوع بفعل محذوف ذلك الفعل المحذوف جواب ( إذا ) الشرطية ، و ( إذا ) الشرطية وجوابها المقدر خبر لـ ( أنَّكُم ) الأولى تقديره : يحدث أنكم مخرجون . الرابع : كالثالث في كونه مرفوعاً بفعل مقدر إلا أنَّ هذا الفعل المقدر خبر لـ ( أَنَّ ) الأولى وهو العامل في ( إذا ) . الخامس : أنّ خبر الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه ، فتقديره : أنكم تبعثون ، وهو العامل في الظرف ، و ( أنَّ ) الثانية وما في حيزها بدل من الأولى ، وهذا مذهب سيبويه . السادس : أن يكون " أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ " مبتدأ وخبره الظرف مقدماً عليه ، والجملة خبر عن ( أَنَّكُمْ ) الأولى ، والتقدير : أيعدكم أنكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم . ولا يجوز أن يكون العامل في " إذَا " " مُخْرَجُونَ " على كل قول لأن ما في حيز ( أنَّ ) لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها " متم " ، لأنه مضاف إليه ، و " أَنَّكُمْ " وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف الحرف إذ الأصل : أيعدكم بأنكم ويجوز أن لا يقدر حرف جر ، فيكون في محل نصب فقط نحو : وعدت زيداً خيراً . قوله : " هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ " . " هَيْهَاتَ " اسم فعل معناه : بَعُدَ ، وكُرر للتوكيد وليست المسألة من التنازع ، قال جرير : @ 3792 - فَهَيْهَات هَيْهَاتَ العقيقُ وأهلهُ وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُوَاصِلُه @@ وفسره الزجاج في عبارته بالمصدر ، فقال : البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ ، أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُون فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه ، ويمكن أن يكون فسّر المعنى فقط . و " هَيْهَات " اسم لفعل قاصر برفع الفاعل ، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجروراً باللام فمنهم من جعله على ظاهره وقال " مَا تُوعدُون " فاعل به ، وزيدت فيه اللام التقدير : بَعُدَ بَعُدَ ما تُوعدُون ، ، وهو ضعيف : إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل . ومنهم من جعل الفاعل مضمراً لدلالة الكلام عليه ، فقدره أبو البقاء : هيهات التصديق ، أو : الصحة لما توعدون . وقدّره غيره : بَعُدَ إخْرَاجُكُم . و ( لِمَا تُوعَدُونَ ) للبيان ، قال الزمخشري : لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في " هَيْتَ لَكَ " لبيان المهيت به . وقال الزجاج : " البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ " فجعله مبتدأ والجار بعد الخبر . قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ( مَا تُوعَدُونَ ) هو المستبعد ، فمن حقه أن يرتفع بـ " هَيْهَاتَ " كما ارتفع بقوله : @ 3793 - هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ العَقِيقُ وأَهْلُه @@ فما هذه اللام ؟ قُلتُ : قال الزجاج في تفسيره : البعْدُ لِمَا تُوعدُونَ أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُونَ فيمن نَوّن ، فنزّله منزلة المصدر . قال أبو حيان : وقول الزمخشري ( فمن نَوّنه نزّله منزلة المصدر ) ليس بواضح ، لأنهم قد نَوّنُوا أسماء الأفعال ولا نقول : إنها إذا نُوّنت تنزلت منزلة المصادر . قال شهاب الدين : الزمخشري لم يقل كذا ، إنما قال : فيمن نَوَّن نزله منزلة المصدر لأجل قوله : أو بُعْد ، فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزلاً منزلة المصدر ، فإنّ أسماء الأفعال ما نُوّن منها نكرة ، وما لم يُنوّن معرفة نحو : صَهْ وصَهٍ يقدر الأول بالسكوت ، والثاني بسكوت ما . وقال ابن عطية : طوراً تلي الفاعل دون لام ، تقول : هيهات مجيء زيد أي : بَعُدَ ، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً عند اللام ، كهذه الآية ، والتقدير : بَعُدَ الوجودُ لمَا تُوعَدُونَ . ولم يستجيده أبو حيان من حيث قوله : حذف الفاعل ، والفاعل لا يحذف ، ومن حيث إنّ فيه حذف المصدر ، وهو الموجود ، وإبقاء معموله وهو " لِمَا تُوعَدُون " و " هَيْهَاتَ " الثاني تأكيد للأول تأكيداً لفظياً ، وقد جاء غير مؤكد كقوله : @ 3794 - هَيْهَاتَ مَنْزِلُنَا بِنَعْفِ سُوَيْقَةٍ كانت مُبَارَكَةً على الأَيَّامِ @@ وقال آخر : @ 3795 - هَيْهَاتَ نَاسٌ مِنْ أُنَاس دِيَارُهُمْ دُقَاق ودَارُ الآخِرِينَ الأَوَائِنُ @@ وقال رؤبة : @ 3796 - هَيْهَاتَ مِن مُنْخَرِقٍ هَيْهَاؤُه @@ قال القيسي شارح أبيات الإيضاح : وهذا مثل قولك : " بَعُدَ بُعْدَهُ " وذلك أَنَّه بَنَى من هذه اللفظة ( فَعْلاَلاً ) فجاء به مجيء القَلْقَال والزلزَال . والألف في " هَيْهَاتَ " غير الألف في ( هَيْهَاؤُه ) ، وهي في " هَيْهَاتَ " لام الفعل الثانية كقاف الحَقْحَقَة الثانية ، وهي في ( هَيْهَاؤُه ) ألف الفعلال الزائدة . وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين ، ذكر منها الصَّاغَانِي ستة وثلاثين لغة ، وهي : ( هَيْهَاتَ ) ، وأَيْهَاتَ ، وهَيْهَانَ ، وأَيْهَانَ وهَيْهَاه ، وأَيْهَاه كل واحد من هذه الستة مضمومة الآخر ومفتوحته ، ومكسورته ، وكل واحدةٍ منها منوّنة وغير منوّنة ، فتكون ستًّا وثلاثين . وحكى غيره : هَيْهَاك ، وأَيْهَاكَ - بكاف الخطاب - ، وأَيْهاء ، وأَيْهَا ، وهَيْهَاء ، فأمّا المشهور ما قرئ به . فالمشهور " هَيْهَاتَ " بفتح التاء من غير تنوين بُني لوقوعه موقع المبني ، أو لشبهه بالحرف ، وتقدم تحقيق ذلك وبها قرأ العامة وهي لغة أهل الحجاز . و " هَيْهَاتاً " بالفتح والتنوين ، وبها قرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس . و " هَيْهَاتٌ " بالضم والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة . وبالضم من غير تنوين ، ويروى عن أبي حيوة أيضاً ، فعنه فيها وجهان وافقه أبو السمال في الأولى دون الثانية . و " هَيْهَاتٍ " بالكسر والتنوين ، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس . وبالكسر من غير تنوين ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة ، وتُروى عن عيسى أيضاً وهي لغة تميم وأسد . و " هَيْهَاتْ " بإسكان التاء ، وبها قرأ عيسى بن عمر الهمداني أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج و " هَيْهَاه " بالهاء آخراً وصلاً ووقفاً . و " أيْهَاتَ " بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء ، وبهاتين قرأ بعض القراء فيما نقل أبو البقاء . فهذه تسع لغات قد قرئ بهنّ لم يتواتر منها غير الأولى . ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة . و " أَيْهَان " بالنون آخراً . و " أَيْهَا " بألف آخراً . فمن فتح التاء قالوا : فهي عنده اسم مفرد ، ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزَيْنَبَات وهِنْدَات . ويُعْزَى هذا لسيبويه ، لأنه قال : هي مثل بَيْضَات ، فنسب إليه أنه جمع من ذلك ، حتى قال بعض النحويين : مفردها ( هَيْهَة ) مثل بَيْضَة . وليس بشيء بل مفردها ( هَيْهَاتَ ) . قالوا : وكان ينبغي على أصله أن يقال فيها : ( هَيْهَيَات ) بقلب ألف ( هَيْهَاتَ ) ياء ، لزيادتها على الأربعة نحو : مَلْهَيَات ، ومَغْزَيات ، ومَرْمَيات ، لأنها من بنات الأربعة المضعّفة من الياء من باب حَاحَيْتَ وصِيْصِية ، وأصلها بوزن القَلْقلة والحَقْحَقَة فانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت : هَيْهَاة كالسلْقَاة والجَعْبَاة . وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف سلْقَاة وجَعْبَاة زائدة ، وياء هَيْهية أصلاً ، فلما جمعت كان قياسها على قولهم : أَرْطَيَاتٍ وعَلْقَيَاتٍ أن يقولوا فيها : ( هَيْهَياتٍ ) ، إلاّ أنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين لمّا كانت في آخر اسم مبني كما حذفُوها في ( ذان ) ، و ( اللَّتان ) و ( تان ) : ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية ، والألفات في أواخر المتمكنة ، وعلى هذا حذفوها في أولات وذَوَات ، لتخالف ياء حَصَيات ونَوَيات . وقالوا : من فتح تاء ( هَيْهَاتَ ) فحقه أن يكتبها هاء ، لأنها في مفرد كتَمْرة ونَواة ، ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء ، لأنها في جمع كهِنْدَات ، وكذلك حكم الوقف سواء ، ولا التفات إلى لغة : كيف الإخوهْ والأخواهْ ، ولا هذه ثمرت ، لقلتها ، وقد رسمت في المصحف بالهاء . واختلف القراء في الوقف عليها ، فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزيّ عن ابن كثير . ومنهم من وقف بالتاء وهم الباقون . وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين : أحدهما : موافقة الرسم . والثاني : أنهم قالوا : المفتوح اسم مفرد أصله هَيْهَيَة كَوَلولة وقَلْقَلة في مضاعف الرباعي ، وقد تقدم أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء . وأمّا التنوين فهو على قاعدة تنوين أسماء الأفعال دخوله دال على التنكير ، وخروجه دال على التعريف . قال القيسي : من نَوّن اعتقد تنكيرها ، وتصوَّرَ معنى المصدر النكرة ، كأنه قال : بُعْداً بُعْداً . ومن لم يُنوّن اعتقد تعريفها ، وتصوَّر معنى المصدر المعرفة ، كأنه قال : البُعْدُ البُعْدُ فجعل التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف انتهى . ولا يوجد تنوين التنكير إلا في نوعين : أسماء الأفعال وأسماء الأصوات ( نحو صَهْ وصَهٍ ، وبَخْ وبَخٍ ، والعلم المختوم بـ ( ويه ) ) نحو سيبويهِ وسيبويهٍ ، وليس بقياس بمعنى : أنه ليس لك أن تنوّن منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره . والذي يقال في القراءات المتقدمة : إنّ من نوّن جعله للتنكير كما تقدم . ومن لم ينوّن جعل عدم التنوين للتعريف . ومن فتح فللخفةِ وللاتباع . ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ، ومن ضم فتشبيهاً بقَبْل وبَعْد . ومن سَكّن فلأنّ أصل البناء السكون . ومن وقف بالهاء فاتباعاً للرسم ، ومن وقف بالتاء فعلى الأصل سواء كُسرت التاء أو فتحت ، لأنّ الظاهر أنهما سواء ، وإنما ذلك من تغيير اللغات وإن كان المنقول عن مذهب سيبويه ما تقدم . هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة . وقال ابن عطية فيمن ضم ونوّن : إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء ، وخبره " لِمَا تُوعدُونَ " أي : البُعْد لوعدكم ، كما تقول : النجح لسعيك . وقال الرازي في اللوامح : فأمَّا مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرفوعين ، خبرهما من حروف الجر بمعنى : البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ ، والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسماً للفعل ، والضم للبناء مثل : حُوبُ في زجر الإبل لكنه نَوّنه ( لكونه ) نكرة . قال شهاب الدين : وكان ينبغي لابن عطية وأبي الفضل أن يجعلاه اسماً أيضاً في حالة النصب مع التنوين على أنه مصدر واقع موقع الفعل وقرأ ابن أبي عبلة : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا تُوعَدُونَ } من غير لام جر . وهي واضحة ، مؤيدة لمدعي زيادتها في قراءة العامة . و " ما " في " لِمَا تُوعَدُونَ " تحتمل المصدرية ، أي : لوعدكم ، وأن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : توعدونه . قوله : " إنْ هِيَ " " هي " ضمير يفسره سياق الكلام ، أي : إن الحياة إلا حياتنا . وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يُراد به إلاَّ بما يتلوه من بيانه ، وأصله : إن الحياة { إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } ، فوضع " هي " موضع " الحياة " لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها ، ومنه : هي النَّفْس تتحمل مَا حُمِّلَتْ ، وهي العَرَبُ تقول ما شَاءَتْ . وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظاً ورتبةً ، ونسبه إلى الزمخشري متعلقاً بما نقلناه عنه . قال شهاب الدين : ولا تعلق له في ذلك . قوله : " نَمُوتُ ونَحْيَا " جملة مفسرة لما ادّعوه من أنَّ حياتهم ما هي إلا كذا . وزعم بعضهم أنَّ فيها دليلاً على عدم الترتيب في الواو ، إذ المعنى : نحيا ونموت إذ هو الواقع . ولا دليل فيها لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرًّا يسير إلى انقراض العصر ويخلف غيره مكانه . وقل : نموت نحن ويحيا أبناؤنا . وقيل : القوم كانوا يعتقدون الرجعة أي : نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت . فصل اعلم أنَّ القوم طعنوا في نبوّته بكونه بشراً يأكل ويشرب ، ثم جعلوا طاعته خسراناً : أي : إنكم إن أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع ، فذلك هو الخسران ، ثم طعنوا في صحة الحشر والنشر ، فقالوا : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } معادون أحياء للمجازاة ، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى قرنوا به الاستبعاد العظيم ، فقالوا : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } ثم أكدوا ذلك بقولهم : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } ولم يريدوا بقولهم : " نَمُوتُ ونَحْيَا " الشخص الواحد ، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا ، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا : { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد { ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } . واعلم أنَّ الله - تعالى - ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى : فتقدم الجواب عنها . وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه ، أنّه لمّا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر ، وأيضاً : فلولا الإعادة لكان تسليط القويِّ على الضعيف في الدنيا ظلماً ، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } [ طه : 15 ] . واعلم أنَّ الرسول لمّا يئس من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال : { رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } وقد تقدّم تفسيره . فأجاب الله سؤاله وقال : { عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } . قوله : " عَمَّا قَلِيلٍ " في ( ما ) هذه وجهان : أحدهما : أنّها مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد كما زيدت الباء نحو : " فَبِمَا رَحْمَةٍ " ، وفي من نحو " مِمَّا خَطَايَاهُمْ " . و " قَلِيلٍ " صفة لزمن محذوف ، أي : عن زمن قليل . والثاني : أنّها غير زائدة ، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن ، و " قَلِيلٍ " صفتها ، أو بدل منها ، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنّه متعلق بقوله : " لَيُصْبِحُنَّ " ، أي : ليصبحن عن زمن قليل نادمين . الثاني : أنه متعلق بـ " نَادِمِين " ، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم ، وذلك أنّ فيها ثلاثة أقوال : جواز تقديم معمول ما بعدها عليها مطلقاً ، وهو قول الفراء وأبي عبيدة . والثاني : المنع مطلقاً ، وهو قول جمهور البصريين . والثالث : التفصيل بين الظرف وعديله وبين غيرهما ، فيجوز للاتساع ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في : والله لأضربن زيداً ، زيداً لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله . والثالث من الأوجه المتقدمة : أنّه متعلق بمحذوف تقديره : عَمّا قَلِيلٍ تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه ، وهو قوله : " رَبّ انْصُرْنِي " . وقرئ : " لَتُصْبِحُنَّ " بتاء الخطاب على الالتفات ، أو على أنَّ القول صدر من الرسول لقومه بذلك . قوله : " عَمَّا قَلِيلٍ " الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلال فعند ذلك يحصل لهم الحسرة والندامة على ترك القبول . ثم بيّن تعالى الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ } قيل : إن جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحةً عظيمةً فهلكوا . وقال ابن عباس : الصيحة الرجفة . وعن الحسن : الصيحة نفس العذاب والموت . كما يقال فيمن يموت : دعي فأجاب . وقيل : هي العذاب المصطلم ، قال الشاعر : @ 3797 - صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان @@ والأول أولى لأنه الحقيقة . قوله : " بالحقِّ " أي : دمرناهم بالعدل ، من قولك : فلانٌ يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضائه . وقال المُفضل : " بالحقِّ " بما لا مدفع له كقوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [ ق : 19 ] . قوله : " فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً " الجعل بمعنى : التصيير ، و " غُثَاءً " مفعول ثان ، والغُثَاء : قيل : هو الجفاء ، وتقدم في الرعد ، قاله الأخفش وقال الزجاج : هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل خالط زبده واسود ، ومنه قوله : " غُثَاءً أَحْوَى " وقيل : كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به ، وبه يُضْربُ المثل في ذلك ولامه واو ، لأنه من غَثَا الوادي يَغْثُو غَثْواً ، وكذلك غَثَتِ القِدر ، وأمّا غَثِيَتْ نَفْسُهُ تَغْثِي غَثَيَاناً ، أي : خَبُثَتْ . فهو قريب من معناه ، ولكنه من مادة الياء . وتشدد ( ثاء ) الغُثَاء ، وتُخفَّف ، وقد جمع على أَغْثَاء ، وهو شاذ ، بل كان قياسه أن يجمع على أغْثِية ، كَأغْرِيَة ، وعلى غِيثَان ، كغِرْبَان ، وغِلْمَان وأنشدوا لامرئ القيس : @ 3798 - مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءُ فَلْكَةُ مِغْزَلِ @@ بتشديد الثاء ، وتخفيفها ، والجمع ، أي : والأَغْثَاء . قوله : { فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } " بُعْداً " مصدر يذكر بدلاً من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم ، والأصل : بَعُدَ بُعْداً وبَعَداً نحو رَشُدَ رُشْداً ورَشَداً وفي هذه اللام قولان : أظهرهما : أنها متعلقة بمحذوف للبيان ، كهي في سَقْياً له ، وجَدْعاً له . قاله الزمخشري . والثاني : أنَّها متعلقة بـ " بُعْداً " قاله الحوفي . وهذا مردود ، لأنه لا يُحفظ حذف هذه اللام ، ووصول المصدر إلى مجرورها ألبتة ، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [ محمد : 8 ] لأن اللام لا تتعلق بـ " تَعْساً " بل بمحذوف ، وإن كان الزمخشري جَوَّز ذلك ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى . فصل " فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً " صيرناهم هلكى فَيَبِسُوا يَبْسَ الغثاء من نبات الأرض ، " فَبُعْداً " بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير " لِلقَوْمِ الظَالِمِينَ " الكافرين ، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم .