Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 27-29)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } الآية . لما ذكر حكم الرمي والقذف ذكر ما يليق به ، لأن أهل الإفك ( إنما توصلوا ) إلى بهتانهم لوجود الخلوة ، فصارت كأنها طريق التهمة ، فأوجب الله تعالى ألا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام ، لأن الدخول على غير هذا الوجه يوقع التهمة ، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به . قوله : " تَسْتَأنِسُوا " يجوز أن يكون من الاستئناس ، لأنَّ الطارق يستوحش من أنه هل يؤذن له أو لا ؟ فزال استيحاشه ، وهو رديف الاستئذان فوضع موضعه . وقيل : من الإيناس ، وهو الإبصار ، أي : حتى تستكشفوا الحال . وفسره ابنُ عباس : " حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا " وليست قراءة ، وما ينقل عنه أنه قال : " تَسْتَأنِسُوا " خطأ من الكاتب ، إنما هو ( تَسْتَأْذِنُوا ) فشيء مفترى عليه . وضعفه بعضهم بأن هذا يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح هذين البابين يطرق الشك إلى كل القرآن وإنه باطل . وروي عن الحسن البصري أنه قال : " إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فالمعنى : حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا " . وهذا أيضاً خلاف الظاهر . وفي قراءة عبد الله : { حَتَّى تُسَلِّمُوا وَتَسْتَأْذِنُوا } وهو أيضاً خلاف الظاهر . واعلم أن هذا نظير ما تقدم في الرعد : ( في ) { أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } [ الرعد : 31 ] وتقدم القول فيه . والاستئناس : الاستعلام ( والاستكشاف ، من أنس الشيء : إذا أبصره ، كقوله : { إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] ، والمعنى : حتى تستعلموا الحال ، هل يراد دخولكم ؟ ) قال : @ 3825 - كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا يَوْمَ الجَلِيلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ @@ وقيل : هو من " الإنْس " بكسر الهمزة ، أي : يَتَعرَّف هل فيها إنْسٌ أم لا ؟ وحكى الطبري أنه بمعنى : " وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ " . قال ابن عطية : وتصريف الفعل يَأْبَى أن يكونَ مِنْ " أَنَس " . فصل قال الخليل : الاستئناس : الاستبصار من ( أنس الشيء إذا أبصره ) كقوله : { آنسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] أي : أبصرت . وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو بتنحنح يؤذن أهل البيت . وجملة حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان . واختلفوا : هل يقدم الاستئذان أو السلام ؟ فقيل : يقدم الاستئذان ، فيقول : أأدخل ؟ سلام عليكم ، لقوله : " حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا " أي : تستأذنوا { وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا } . والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم ، أأدخل ؟ ( " لما روي أن رجلاً دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسلم ولم يستأذن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ارجع فقُل : السلام عليكم ، أأدخل " ) وروى ابن عمر أن رجلاً استأذن عليه فقال : أأدخل ؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم ، فسلَّم ، فأذِنَ له . وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلاّ قدم الاستئذان ثم يسلم . والحكمة في إيجاب تقديم الاستئذان ألاَّ يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة ، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه من الأحوال . فصل عدد الاستئذان ثلاثاً لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الاستئذان ثلاثٌ ، الأولى يستضيئون ، والثانية يستصلحون ، والثالثة يأذنون أو يردون " وعن أبي سعيد الخدري قال : " كُنت جالساً في مجلس الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعاً ، فقلنا له : ما أفزعك ؟ فقال : أخبرني عمر أن آتيه فأتيته ، فاستأذنت ثلاثاً ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي ، وقد قال عليه السلام - : " إذا استأذنَ أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع " . فقال : لتأتيني ( على هذا ) بالبينة ، أو لأعاقبنك ، فقال أبو سعيد : لا يقوم معك إلا صغير القوم ، قال : فقام أبو سعيد ، فشهد له " . وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى : لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله . وعن قتادة : " الاستئذانُ ثلاثةٌ : الأول ليسمع الحي ، والثاني ليتهيأ ، والثالث إن شاء أذن وإن شاء ردّ " . وهذا من محاسن الآداب ، لأنه في أول كرَّة ربما منعهم بعض الأشغال من الإذن ، وفي الثانية ربما كان هناك ما يمنع ، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع . ويجب أن يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما . فأما قرع الباب بعنف ، والصياح بصاحب الدار فذاك حرام ، لأنه إيذاء ، وكذا قصة بني أسد وما نزل فيها من قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] . فصل في كيفية الوقوف على الباب روى أبو سعيد قال : استأذن رجلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل الباب ، فقال عليه السلام : " لا تستأذِنْ وأنت مستقبلُ البابِ " . " وروي أنه عليه السلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : " السلامُ عليكُمْ " وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور . فصل كلمة " حَتَّى " للغاية ، والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها ، فقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ } يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن . والجواب أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس ، ولا يحصل إلا بعد الإذن . وأيضاً فإنّا علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان ألا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه ، فإنّ ذلك مما يسوؤه ، وهذا المقصود لا يحصل إلا بعد الإذن . وأيضاً قوله : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا ( حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ } ) فمنع الدخول إلا مع الإذن ، فدل على أن الإذن شرط في إباحة الدخول في الآية الأولى . وإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من الإذن أو ما يقوم مقامه ، لقوله عليه السلام " إذا دُعِيَ أحدُكُم فجاء مع الرسول فإنَّ ذلك له إذن " . وقال بعضهم : إن من جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان . واعلم أن ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقاً سواء كان الآذن صبياً أو امرأة أو عبداً أو ذمياً ، فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة ، وكذلك قبول إحضار هؤلاء في الهدايا ونحوها . فصل ويستأذن على المحارم ، " لما روي أن رجلاً سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أأستأذن على أختي ؟ " فقال عليه السلام : " نَعَمْ ، أتحب أن تراها عريانة ؟ " وسأل رجل حذيفة : " أأستأذن على أختي ؟ " فقال : " إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك " . ولعموم قوله : { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } [ النور : 59 ] إلا أنَّ ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوه . فصل إذا اطلع إنسان في دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر ، لقوله عليه السلام : " مَن اطَّلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه " . وقال أبو بكر الرازي : هذا الخبر ورد على خلاف قياس الأصول ، فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً ، وكان عليه القصاص إن كان عامداً ، والأرش إن كان مخطئاً ، والداخل قد اطَّلع وزاد على الاطلاع ، فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق ، فإن صحَّ فمعناه : من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم فمنع فلم يمتنع فذهب عينه في حال الممانعة فهي هدر ، فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى : { العَيْن بِالعَيْنِ } [ المائدة : 45 ] إلى قوله : { والجُرُوحَ قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] . وأجيب بأن التمسك بقوله : " العَيْنُ بِالعَيْنِ " ضعيف ، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة ، فإنه لو كانت مستحقة القصاص ، فلم قلت : إن من اطَّلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة ؟ وأما قوله : إنه لو دخل لم يجز فقء عينه ، فكذا إذا نظر . والفرق بينهما أنه إذا دخل ، علم القوم بدخوله عليهم ، فاحترزوا عنه وتستروا ، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه ، فلا يبعد في حُكْم الشرع أن يبالغ هنا في الزجر حسماً لهذه المفسدة . وأيضاً فردّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا القدر من الكلام ليس جائزاً . فصل إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق ، أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان ؟ فقيل : كل ذلك مستثنى بالدليل . فأما السلام فهو من سنة المسلمين التي أمروا بها ، وهو تحية أهل الجنة ، ومجلبة للمودة ، ونافٍ للحقد والضغائن . قال عليه السلام : " لمَّا خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له الله : يرحمك ربك يا آدم ، اذهب إلى هؤلاء الملائكة ( وهم ) ملأ منهم جلوس فقل : السلام عليكم ، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية ذريتك " وعن عليّ بن أبي طالب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " حق المسلم على المسلم ست : يسلِّم عليه إذا لقيه ، ويجيبه إذا دعاه ، وينصح له بالغيب ، ويشمِّته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويشهد جنازته إذا مات " . وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن سرَّكم أن يسل الغل من صدروكم فأفشوا السلام بينكم " . قوله : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . أي : إن فعل ذلك خير لكم وأولى بكم من الهجوم بغير إذن " لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " أي : لتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ } أي : فإن لم تجدوا في البيوت " أَحَداً " يأذن لكم في دخولها { فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمُ } لجواز أن يكون هناك أحوال مكتومة ، { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ } وذلك أنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار ، فكذلك الوقوف على الباب قد يكرهه ، فلا جرم كان الأولى له أن يرجع { هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ } أي : الرجوع هو أطهر وأصلح لكم . قال قتادة : إذا لم يؤذن له فلا يقعد على الباب ، فإنَّ للناس حاجات ، وإذا حضر فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز . كان ابن عباس يأتي الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ( حتى يخرج ) ولا يستأذن ، فيخرج الرجل ويقول : " يا ابنَ عم رسول الله لو أخبرتني " فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم . وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً " لما روي أن رجلاً اطلع على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستر الحجرة ، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - مدراء ، فقال : " لو علمتُ أن هذا ينظرني حتى آتيه لَطَعْنتُ بالمدراء في عينه ، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر " قوله : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي : من الدخول بالإذن وغير الإذن . ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير مسكونة فقال : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } . قال المفسرون : لما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ليس فيها ساكن ؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } . أي : بغير استئذان { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } أي : منفعة لكم . قال محمد ابن الحنفية : إنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين . وقال ابن زيد : هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء ، وهو المنفعة قال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت السوق إذن . وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول : السلام عليكم ، أأدخل ؟ ثم يلج . وقال عطاء : هي البيوت الخربة ، و " المَتَاعُ " هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط . وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها . وقيل : هي الحمامات . وروي أن أبا بكر قال : يا رسولَ الله ، إن الله قد أنزلَ عليكَ آيةً في الاستئذان ، وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات ، أفلا ندخلها إلا بإذن ؟ فنزلت هذه الآية . والأصح أنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية ، لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة ، فإن لم يخف ذلك فله الدخول ، لأنه مأذون فيها عرفاً . { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وهذا وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة .