Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 30-31)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الآية . الغض : إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية . قال : @ 3826 - فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبا @@ وفي " مِنْ " أربعة أوجه : أحدها : أنها للتبعيض ، لأنه يُعْفَى عن الناظر أول نظرة تقع من غير قصد . والثاني : لبيان الجنس ، قاله أبو البقاء . وفيه نظر من حيث إنَّه لم يَتَقَدَّم مُبهمٌ يكونُ مُفَسَّراً بـ " مِنْ " . الثالث : أنها لابتداء الغاية ، قاله ابن عطية . الرابع : قال الأخفش : إنها مزيدة . فصل قال الأكثرون : المراد غض البص عما يحرم والاقتصار به على ما يحل . فإن قيل : كيف دخلت " مِنْ " في غض البصر دون حفظ الفرج ؟ فالجواب : أن ذلك دليل على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن ، وكذا الجواري المستعرضات ، وأما أمر الفروج فمضيق . وقيل : معنى { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي : ينقصوا من نظرهم بالبصر إذا لم يكن من عمله فهو مغضوض . وعلى هذا " مِنْ " ليست زائدة ، ولا هي للتبعيض ، بل هي صلة للغض ، يقال : غضضت من فلان : إذا نقصت منه . فصل العورات تنقسم أربعة أقسام : عورة الرجل مع الرجل . وعورة المرأة مع المرأة . وعورة المرأة مع الرجل . وعورة الرجل مع المرأة . أما الرجل مع الرجل ، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا العورة ، وهي ما بين السرة والركبة ، والسرة والركبة ليسا بعورة . وعند أبي حنيفة : الركبة عورة . وقال مالك : " الفخذ ليس بعورة " . وهو مردود بقوله عليه السلام : " غَطِّ فَخَذَكَ فإنَّهَا مِنَ العَوْرَةِ " . وقوله لعلي : " لا تُبْرِزْ فَخذَكَ ، وَلاَ تَنْظُر إلى فَخِذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ " . فإن كان أمر ولم يحل النظر إلى وجهه ، ولا إلى شيء من سائر بدنه بشهوة ، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لقوله عليه السلام : " لا يُفضي الرجل إلى الرجل في فراش واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد " وتكره معانقة الرجل للرجل وتقبيله إلا لولده شفقة لما روي عن أنس قال : " قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له ؟ قال : لا . قال : أيلزمه ويقبله ؟ قال : لا . قال : أفيأخذ يده فيصافحه ؟ قال : نعم " . ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المكاعمة والمكامعة ، وهي : معانقة الرجل للرجل وتقبيله . وأما عورة المرأة مع المرأة ، فهي كالرجل مع الرجل فيما ذكرنا سواء . والذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة ؟ فقيل : هي كالمسلمة مع المسلمين . والصحيح أنه لا يجوز لها ( النظر ) لأنها أجنبية في الدين لقوله تعالى : " أَوْ نِسَائِهِنَّ " وليست الذمية من نسائنا . وأما عورة المرأة مع الرجل ، فإما أن تكون ( أجنبية ، أو ذات محرم ، أو مستمتعة . فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة . فإن كانت ) حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين ، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء ، والمراد : الكف إلى الكوع . واعلم أن النظر إلى وجهها ينقسم ثلاثة أقسام : إما ألاّ يكون فيه غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون فيه غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون لشهوة . فإن كان لغير غرض فلا يجوز النظر إلى وجهها ، فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } . وقيل : يجوز مرة واحدة إذا لم تكن فتنة ، وبه قال أبو حنيفة . ولا يجوز تكرار النظر لقوله عليه السلام : " لا تُتْبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة " . وقال جابر : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة ، فأمرني أن أصرف بصري . فإن كان فيه غرض ولا فتنة ، وهو أمور : أحدها : أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيْها لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله أنْ يتزوج امرأة من الأنصار : " انظُرْ إليْهَا ، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً " وقال عليه السلام : " إذا خطب أحدُكُم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان ينظر إليها للخطبة " . وقال المغيرة بن شعبة : " خطبت امرأة ، فقال عليه السلام : نظرت إليها ؟ فقلت : لا . قال : فانظر فإنه أحْرى أن يؤدم ( بينكما ) " . وذلك يدل على جواز النظر بشهوة إلى الوجه والكفين إذا أراد أن يتزوجها ولقوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } [ الأحزاب : 52 ] ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن . وثانيها : أنه إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة . وثالثها : عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة . ورابعها : ينظر إليها عند تحمل الشهادة ، ولا ينظر إلى غير الوجه . فإن كان النظر لشهوة فهو محرم لقوله عليه السلام : " العينان تزنيان " . وأما النظر إلى بدن الأجنبية فلا يجوز إلا في صور : أحدها : يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمعالجة والختان ، ينظر إلى فرج المختون للضرورة . وثانيها : أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين ليشهد على الزنا ، وكذلك ينظر إلى فرجها ليشهد على الولادة ، وإلى ثدي المرضعة ليشهد على الرضاع . وقال بعض العلماء لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع ، لأن الزنا مندوب إلى ستره ، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء ، فلا حاجة إلى نظر الرجال . وثالثها : لو وقعت في غرق أو حرق له أن ينظر إلى بدنها لتخليصها . فإن كانت الأجنبية أمة فقيل : عورتها ما بين السرة والركبة . وقيل : عورتها ما لا يبين في المهنة ، فخرج منه عنقها وساعدها ونحرها ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال إلا لحاجة ، لأن اللمس أقوى من النظر ، لأن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره . فصل فإن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل . وقيل : عورتها ما لا يبدو عند المهنة ، وهو قول أبي حنيفة . وستأتي بقية التفاصيل - إن شاء الله تعالى - في تفسير الآية . فصل فإن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج ، إلا أنه يكره النظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه ، لأنه يروى أنه يورث الطمس . وقيل : لا يجوز ( النظر ) إلى فرجها ، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمة قِنّ أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة . فإن كانت مجوسية ، أو مرتدة ، أو وثنية ، أو مشتركة بينه وبين غيره ، أو مزوجة ، أو مكاتبة فهي كالأجنبية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا زوَّج أحدُكُم جاريتَه عبدَه أو أجيره فعورته معها ما بين السرة والركبة " . فصل فأما عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ، ولا تكرير النظر إلى وجهه لما " روت أم سلمة أنَّها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة ، إذ أقبل ابن أم مكتوم ، فقال : " احتجبَا عنه " فقالت : يا رسول الله ، أليس هو أعمى لا يبصرُنا ؟ فقال عليه السلام : " أَفعمياوان أنْتُمَا ؟ ألستما تبصرانه " ؟ . وإن كان محرماً لها فعورته ما بين السرة والركبة . وإن كان زوجها أو سيدها الذي له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه ، غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها . فصل ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خالٍ وله ما يستر عورته ، لأنه عليه السلام سئل عنه فقال : " الله أحق أن يُسْتَحيَى منه " وقال عليه السلام : " إيَّاكُمْ والتَّعَرِّي ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله " . قوله : " وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ " أي : عما لا يحل . وقال أبو العالية : كلُّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه . وهذا ضعيف ، لأنه تخصيص من غير دليل ، والذي يقتضيه الظاهر حفظ الفروج عن سائر ما حرم عليهما من الزنا واللمس والنظر . قوله : { ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ } . أي : غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم ، أي : خير لهم وأطهر { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } عليمٌ بما يفعلون . قوله : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } الكلام فيه كما تقدم وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ، والبلوى فيه أشد وأكثر ، ولا يكاد يقدر على الاحتراز منه . قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أي : لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، والمراد بالزينة : الخفية ، وهما زينتان : خفية وظاهرة . فالخفية : مثل الخلخال والخضاب في الرِّجْل ، والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها . والمراد بالزينة : موضع الزينة . وقيل : المراد بالزينة : محاسن الخَلْق التي خلقها الله ، وما تزين به الإنسان من فضل لباس ، لأن كثيراً من النساء ينفردن بخَلْقِهِنَّ من سائر ما يُعَدُّ زينة ، فإذا حملناه على الخِلْقَة وفينا العموم حقه ، ولا يمنع دخول ما عدا الخِلْقة فيه ، ولأنَّ قوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } يدل على أن المراد من الزينة ما يعم الخِلْقة وغيرها ، فكأنها تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن ، موجباً سترها بالخمار . قوله : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } . أما الذين حملوا الزينة على الخلقة فقال القفال : معنى الآية : إلا ما يظهره الإنسان في العادة ، وذلك من النساء : الوجه والكفان ، ومن الرجال : الوجه واليدان والرجلان ، فرخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه ، وأدت الضرورة إلى إظهاره ، وأمرهم بستر ما لا ضرورة في كشفه . ولما كان ظهور الوجه والكفين ضرورة لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة . وأما القدم فليس ظهوره ضرورياً فلا جرم اختلفوا فيه هل هو من العورة أم لا ؟ والصحيح أنه عورة . وفي صوتها وجهان : أصحهما ليس بعورة ، لأن نساء النبي - عليه السلام - كن يروين الأخبار للرجال . وأما الذين حملوا الزينة على ما عد الخلقة ، قالوا : إنه تعالى إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف في أنه يحل النظر إليها حال ( انفصالها عن أعضاء المرأة ، فلما حرم الله النظر إليها حال ) اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة . وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوَشمَة والغُمْرَة ، وزينة بدنها من الخضاب والخواتيم والثياب ، لأن سترها فيه حرج ، لأن المرأة لا بد لها من مزاولة الأشياء بيديها ، والحاجة إلى كشف وجهها للشهادة والمحاكمة والنكاح . قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي : " الزينة الظاهرة التي استثنى الله الوجهُ والكفان " . وقال ابن مسعود : هي الثياب ، لقوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 31 ] . وقال الحسن : الوجه والثياب . وقال ابن عباس : الكحْل والخاتم والخضاب في الكف . فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئاً منها غض البصر . فصل واتفقوا على تخصيص قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } بالحرائر دون الإماء والمعنى فيه ظاهر ، لأن الأمة مالٌ ، فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها ، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء . قوله : " وَلْيَضْرِبْنَ " . ضمن " يضْرِبْنَ " معنى " يُلْقِينَ " فلذلك عداه بـ " على " . وقرأ أبو عمرو في رواية بكسر لام الأمر . وقرأ طلحة : " بِخُمْرهنَّ " بسكون الميم . وتسكين " فَعْل " في الجمع أولى من تسكين المفرد . وكسر الجيم من " جِيُوبِهِنَّ " ابن كثير والأخوان وابن ذكوان . والخُمُر : جمع خمار ، وفي القلة يجمع على أخْمِرة . قال امرؤ القيس : @ 3827 - وَتَرَى الشَّجْراءَ فِي رِيِّقِهِ كَرُؤُوسٍ قُطِعَتْ فِيهَا الخُمُرْ @@ والجيب : ما في طوق القميص يبدو منه بعض الجسد . فصل قال المفسرون : إنَّ نساء الجاهلية كنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرهن من خلفهن ، وإن جيوبهن كانت من قدام ، وكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتغطي بذلك أعناقهن ونحورهن . قالت عائشة : رحم الله نساءَ المهاجرات الأُوَل ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } شققن مروطهن فاختمرن بها . قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } يعني الزينة الخفية التي لم يبح لهنَّ كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عد الوجه والكفين " إِلاَّ لِبُعولَتهنَّ " قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة إلا الزوج فإنه يجوز له أن ينظر على ما تقدم ، وهؤلاء محارم . فإن قيل : أيحل لذي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل في المؤمنة ؟ فالجواب : إذا ملك المرأة من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة فإن قيل : فما القول في العم والخال ؟ فالجواب : أن الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر ، وهو قول الحسن البصري قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع ، وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ } الآية [ الأحزاب : 55 ] ولم يذكر فيها البعولة ، وقد ذكره هنا . وقال الشعبي : إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفها العم عند ابنه ، والخال كذلك . والمعنى : أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وابناهما ، وإذا رآها الأب وصفها لابنه وليس بمحرم ، وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب . فصل والسبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن واحتياج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار في النزول والركوب . قوله : " أَوْ نِسَائِهِنَّ " . قال أكثر المفسرين : المراد اللاَّئِي على دينهن . قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ، ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها . وكتب عُمَر إلى أبي عبيدة أن تمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات . وقيل : المراد بـ " نِسَائِهِنَّ " جميع النساء . وهذا هو الأولى ، وقول السلف محمول على الاستحباب . قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } . وهذا يشمل العبيد والإماء ، واختلفوا في ذلك : فقال قوم : عبد المرأة مَحْرَم لها يجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم ، وهو ظاهر القرآن ، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة . " وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قَنعْت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال : " إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغُلامك " وعن مجاهد : " كنَّ أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم " . وكانت عائشة تمتشط والعبد ينظر إليها . وقال ابن مسعود والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته . وهو قول أبي حنيفة . وقال ابن جريج : المراد من الآية : الإماء دون العبيد ، وأن قوله : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أنه لا يحل لامرأةٍ مسلمة أن تتجرد بين امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المشركة أمةً لها . قوله : { أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ } . قرأ ابن عامر وأبو بكر : " غَيْرَ " نصباً ، وفيها وجهان : أحدهما : أنه استثناء . وقيل : على القطع ، لأن " التَّابِعِينَ " معرفة و " غَيْر " نكرة . والثاني : أنه حال . والباقون : " غيرِ " بالجر نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً . والإِرْبَةُ : الحاجةُ . وتقدم اشتقاقها في " طه " . ( قوله : " مِنَ الرِّجَالِ " حال من " أُولِي " ) . فصل المراد بـ { ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ } . قال مجاهد وعكرمة والشعبي : هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم ، لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء . وعن ابن عباس : أنه الأحمق العنين . وقال الحسن : " هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن " . وقال سعيد بن جبير : المعتوه . وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو المخنّث . وقال مقاتل : هو الشيخ الهرم والعنِّين والخَصِيّ والمجبوب ونحوه . واعلم أن الخَصِيّ والمجبوب ومن يشاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع ، ويكون له إربة فيما عداه من التمتع ، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد ، فيجب أن يحمل المراد على من لا إربة له في سائر وجوه التمتع لما روت عائشة قالت : " كانَ رجلٌ مخنَّثٌ يدخل على أزواج - النبي صلى الله عليه وسلم - فكانوا يَعدُّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمانٍ . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أَلاَ أرى هذا يعلم ما هَهُنا ، لا يَدْخُلَنَّ هَذا " فحجبوه " . وفي رواية عن زينب بنت أم سلمة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلَ عليها وعندها مخنَّث ، فأقبل على أخي أم سلمة ، فقال : " يا عبد الله ، إن فتح الله غداً لكم الطائف دللتك على بنت غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان " . فقال عليه السلام : " لا يدخُلَنَّ عليكم هذا " فأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخول المخنث عليهن ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهنَّ علم أنه من أولي الإربة ، فحجبه . وفي الخَصِيّ والمجبوب ثلاثة أوجه : أحدها : استباحة الزينة الباطنة . والثاني : تحريمها . ( والثالث : تحريمها ) على المَخْصِيّ دون المجبوب . قوله : { أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ } . تقدم في الحج أن الطفل يطلق على المثنى والمجموع ، فلذلك وصف بالجمع . وقيل : لما قصد به الجنس روعي فيه الجمع كقولهم : " أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَار الحمْر والدِّرْهَمُ البِيضُ " . و " عَورَاتِ " جمع عَوْرَةٍ ، وهو ما يريد الإنسان ستره من بدنه ، وغلب في السَّوأَتَيْن . والعامة على " عوْرات " بسكون الواو ، وهي لغة عامة العرب ، سكنوها تخفيفاً لحرف العلة . وقرأ ابن عامر في رواية " عَوَرَاتِ " بفتح الواو . ونقل ابن خالويه أنها قراءة ابن أبي إسحاق والأعمش ، وهي لغة هذيل بن مدركة . قال الفراء : وأنشد في بعضهم : @ 3828 - أَخُو بَيَضَاتٍ رائِحٌ مُتَأوِّبٌ رَفِيقٌ بمَسْحِ المَنْكبَيْنِ سَبوح @@ وجعلها ابنُ مجاهد لحناً وخطأ ، يعني : من طريق الرواة ، وإلا فهي لغة ثانية . ( فصل ) الظهور على الشيء يكون بمعنى العلم به ، كقوله تعالى : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } [ الكهف : 20 ] أي : يشعروا بكم . ويكون بمعنى الغلبة عليه ، كقوله : " فَأَصْبَحُوا ظَاهِرينَ " . فلهذا قال مجاهد وابن قتيبة : معناه : لم يطلعوا على عورات النساء ، ولم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر . وقال الفراء والزجاج : لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء . وقيل : لم يبلغوا حدّ الشهوة . فصل فأما المراهق فيلزم المرأة أن تستُر منه ما بين سرتها وركبتها ، وفي لزوم ستر ما عداه وجهان : الأول : لا يلزم ، لأن القلم غير جار عليه . والثاني : يلزم كالرجل ، لأنه مشتهى ، والمرأة قد تشتهيه ، واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم وأما الشيخ فإن بقيت له شهوة فهو كالشاب ، وإن لم تبق له شهوة ففيه وجهان : أحدهما : أن الزينة الباطنة معه مباحة ، والعورة معه ما بين السرة والركبة . والثاني : أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة . وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى ، ( والرضاع كالنسب ) . قوله : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } . قال ابن عباس وقتادة : كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخالها ، فنُهِينَ عن ذلك ؛ لأن الذي تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة إلى مشاهدتهن ، وعلل تعالى ذلك بقوله : { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } وفي الآية فوائد : الأولى : لما نهي عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة ، فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى . الثانية : أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب ، إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة ( من صوت خلخالها ، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت ، والمرأة منهية عنه . الثالثة : تدل على تحريم النظر إلى وجهها بشهوة ، لأن ذلك أقرب إلى الفتنة ) . قوله تعالى : { وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } . قال ابن عباس : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة . وقيل : تُوبُوا من التقصير الواقع منكم في أمره ونهيه . وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة . قوله : " أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ " . العامة على فتح الهاء وإثبات ألف بعد الهاء ، وهي " ها " التي للتنبيه . وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف " يأَيُّهُ السَّاحِر " [ الزخرف : 49 ] وفي الرحمن " أَيُّهُ الثقلان " [ الرحمن : 31 ] بضم الهاء وصلاً ، فإذا وقف سكن . ووجهها : أنه لما حذفت الألف لالتقاء الساكنين استحقت الفتحة على حرف خفي ، فضمت الهاء إتباعاً . وقد رُسِمَتْ هذه المواضع الثلاثة دون ألف ، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف والباقون بدونها اتباعاً للرسمِ ، ولموافقة الخط للفظ . وثبتت في غير هذه المواضع حَمْلاً لها على الأصل نحو : { يَأَيُّهَا النَّاسُ } [ الحج : 1 ] ، { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } [ النساء : 71 ] وبالجملة فالرسم سنة متبعة .