Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 35-35)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية . هذه جملة من مبتدأ وخبر ، إما على حذف مضاف ، أي : ذو نور السموات والمراد بالنور : عَدْلُهُ ، ويؤيد هذا قوله : " مَثَلُ نُورِهِ " وأضاف النور لهذين الظرفين إما دلالة على سَعَةِ إِشْرَاقِهِ ، وَفشُوّ إضاءته حتى تضيء له السمواتُ والأرضُ ، وإمَّا لإرادة أهل السموات والأرض ، وأنهم يَسْتَضِيئُونَ به . ويجوز أن يُبَالَغَ في العبادة على سبيل المدح كقولهم : فلان شَمْسُ البلادِ وقمرُها قال النابغة : @ 3831 - فإِنَّك شَمْسٌ والمُلُوكُ كَوَاكِبٌ إذَا ظَهَرتْ لم يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ @@ وقال ( آخر ) : @ 3832 - قَمَرُ القَبَائِلِ خَالِدُ بن يزيد @@ ويجوز أن يكون المصدر واقعاً اسم الفاعل ، أي : مُنَوِّرُ السَّمواتِ . ويؤيد هذا الوجهَ قراءة أمير المؤمنين وزيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي : " نَوَّر " فعلاً ماضياً ، وفاعله ضمير الباري تعالى ، " السموات " مفعوله ، وكَسْرُهُ نَصْبٌ ، و " الأَرْضُ " بالنصب نَسَقٌ عليه . وفَسَّرَهُ الحسنُ فقال : " اللَّهُ مُنوِّرُ السَّمواتِ " . فصل قال ابن عباس : هادي أهل السموات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون ، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون . وقال الضحاك : منوِّر السموات والأرض ، يقال : نوّر الله السماء بالملائكة ونوّر الأرض بالأنبياء . وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض . وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية : مزَيّن السموات والأرض ، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم ، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين . وقيل : بالنبات والأشجار . وقيل : معناه : الأنوار كلها منه ، كما يقال : فلان رحمة ، أي : منه الرحمة . وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح ، كقول القائل : @ 3833 - إذا سارَ عبدُ اللَّهِ من مَرْوَ لَيْلَةً فقد سارَ منها نورُها وجمالُها @@ قوله : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة إيضاحٌ وتفسيرٌ لِمَا قبلها ، فلا محلَّ لها ، وثمَّ مُضَاف محذوف ، أي : كَمَثَلِ مِشْكَاةٍ . قال الزمخشري : أي : صفةُ نُورِهِ العجيبةُ الشأنِ في الإضاءة " كَمِشْكَاةٍ " أي : كصفة ( مشكاة ) . واختلفوا في الضمير في " نُورِهِ " : فقيل : هو الله تعالى ، أي : مثل نور الله - عزَّ وجلَّ - في قلب المؤمن ، وهو النور الذي يهتدى به ، كما قال : { فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] . وكان ابن مسعود يقرأ " مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ المُؤْمِن " وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : " مثل نوره الذي أعطى المؤمن " وعلى هذا المراد بالنور : الإيمان ، والآيات البيّنات . وقيل : يعود على المؤمنين أو المؤمن ، أو من آمن به ، أي مثل نور قلب المؤمن . وكان أبيّ يقرأ بهذه الألفاظ كلها ، وأعاد الضمير على ما قرأ به . والمراد بالنور : الإيمان والقرآن لقوله تعالى : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] يعني : القرآن . وقال سعيد بن جبير والضحاك : الضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يتقدم لهذه الأشياء ذِكْر . وأما عوده على المؤمنين في قراءة أبيّ ، ففيه إشكال من حيث الإفراد . قال مكّيٌّ : يُوقَف على الأرض في هذه الأقوال الثلاثة . وقيل : أراد بـ " النور " الطاعة ، سمى طاعة الله نوراً ، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلاً . فصل واختلفوا في هذا التشبيه : ( هل هو ) تشبيه مركب ، أي : أنه قصد تشبيه جملة بجملة من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء ، بل قصد تشبيه هُدَاهُ وإتْقَانهُ صُنْعَتَهُ في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي يتخذونه ، وهو أبلغ صفات النور عندكم أو تشبيه غير مركب ، أي : قصد مقابلة جزء بجزء . ويترتب الكلام فيه بحسب الأقوال في الضمير في " نورِهِ " . و " المِشْكَاةُ " : الكُوَّةُ غير النَّافِذة . وهل هي عربية أم حبشيّة مُعَرَّبَةٌ ؟ خلاف . قال مجاهد : " هي القنديل " . وقيل : هي الحديدةُ أو الرَّصاصةُ التي يُوضع فيها الذُّبالُ ، وهو الفتيل ، ويكون في جوف الزجاجة . وقيل : هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح . وقيل : ما يعلق منه القنديل من الحديدة . وأمال " المِشْكَاة " الدُّوري عن الكسائي لِتقدُّم الكسر وإن وُجِدَ فاصل ورُسِمَتْ بالواو كـ " الزكوة " و " الصلواة " . والمصباح : السِّراج الضَّخم ، وأصله من الضوء ومنه الصبح . والزّجاجة : واحدة الزّجاج ، وهو جوهَر معروف ، وفيه ثلاث لغات : فالضم : لغة الحجاز ، وبها قرأ العامة . والكسر والفتح : لغة قيس . وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد . وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في رواية عنه ، وأبو رجاء . وكذلك الخلاف في قوله : " الزُّجَاجَةُ " . والجملة من قوله : " فِيهَا مِصْبَاح " صفة لـ " مشكاة " ، ويجوز أن يكون الجار وحده هو الوصف ، و " مِصْبَاح " مرتفع به فاعلاً . قوله : " دُرِّي " . قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال ، وياء بعدها همزة . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياء بعدها همزة . والباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز . وهذه الثلاثة في السبع . وقرأ زيد بن عليّ والضحاك وقتادة بفتح الدال وتشديد الياء . وقرأ الزهري بكسرها وتشديد الياء . وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وقتادة أيضاً " دَرِّيءٌ " فتح الدال وياء بعدها همزة فأما الأولى فقراءة واضحة ، لأنه بِنَاءً كثيرٌ ، يوجد في الأسماء نحو : " سِكِّين " وفي الصفات نحو " سِكِّير " . وأما القراءة الثانية فهي من " الدرء " بمعنى : الدفع ، أي : يدفع بعضها بعضاً ، أو يدفع ضوؤها خفاءها . قيل : ولم يوجد شيء وزنه " فُعِّيل " إلا " مُرِّيقاً " للعُصْفر ، و " سُرِّيّة " على قولنا : إنها من السّرور ، وأنه أبدل من إحدى المُضَعَّفَات ياء ، وأُدْغِمت فيها ياء " فُعِّيل " ، و " مُرِّيخاً " للذي في داخل القرن اليابس ، ويقال بكسر الميم أيضاً ، و " عُلِّيّة " و " دُرِّيءٌ " في هذه القراءة ، و " دُرِّيَّة " أيضاً في قولٍ ، وقال بعضهم : وزن " دريء " في هذه القراءة " فُعُّول " كسُبُّوح قُدُّوس فاستثقل توالي الضم فنُقِل إلى الكسر ، وهذا منقول أيضاً في " سُرِّيّة " و " دُرِّيّة " . وأما القراءة الثالثة فتحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون أصلها الهمز كقراءة حمزة إلا أنه أُبدل من الهمز ياءً ، وأُدغِم ، فيتحد معنى القراءتين . ويحتمل أن تكون نسبة إلى الدُّرِّ لصفائها ، وظهور ( إشراقها ) . وأما قراءة تشديد الياء مع فتح الدال وكسرها ، فالذي يظهر أنه منسوب إلى الدُّرّ . والفتح والكسر في الدال من باب تغييرات النسب . وأما فتح الدال مع المد والهمز ففيها إشكال . قال أبو الفتح : وهو بناءٌ عزيز لم يُحْفَظ منه إلاّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين . قال شهاب الدين : وقد حكى الأخفش فعلية السَّكِّينَة والوَقَار ، وكَوْكَبٌ دَرِّيءٌ من ( دَرَأْتُه ) . قوله : " تُوقَدُ " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " تَوَقَّدَ " بزنة " تَفَعَّلَ " فعلاً ماضياً فيه ضمير فاعله يعود على " المِصْبَاح " ، ولا يعود على " كَوْكَبٍ " لفساد المعنى . والأخوان وأبو بكر : " تُوقَدُ " بضم التاء من فوق وفتح القاف مضارع " أَوقَدَ " ، وهو مبني للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير يعود على " زُجَاجَة " فاستتر في الفعل . وباقي السبعة كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، والضمير المستتر يعود " المِصْبَاح " . وقرأ الحسن والسُّلمي وابن مُحيصن ورُويَتْ عن عاصم من طريق المُفضَّل كذلك إلا أنه ضمَّ الدَّال ، جعله مضارع " تَوَقَّدَ " ، والأصل " تَتَوَقَّد " بتاءين فحذف إحداهما كـ " تَتَذَكّر " ، والضمير أيضاً للزجاجة . وقرأ عبد الله " وُقِّدَ " فعلاً ماضياً بزنة " قُتِّلَ " مشدداً ، أي : " المصْبَاحُ " وقرأ الحسن وسلام أيضاً " يَوَقَّدُ " بالياء من تحت وضم الدال مضارع " توقد " ، والأصل " يتوقد " بياء من تحت وتاء من فوق ، فحذف التاء من فوق ( و ) هذا شاذٌ ، إذ لم يَتَوال مِثلان ، ولم يَبْقَ في اللفظ ما يدل على المحذوف ، بخلاف " تَنَزَّلُ " و " تَذَكَّرُ " وبابه ، فإن فيه تاءين ، والباقي يدل على ما فُقِدَ . وقد يُتَمَحَّلُ لصحته وجه من القياس ، وهو أنهم قد حملوا " أَعِدُ " و " تَعِدُ " و " نَعِدُ " على " يَعِدُ " في حذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، فكذلك حملوا " يَتَوَقّدُ " بالياء والتاء على " تَتَوَقَّدُ " بتاءين وإن لم يكن الاستثقال موجوداً في الياء والتاء . قوله : " مِنْ شَجَرَةٍ " مِنْ لابتداء الغاية ، وثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : من زيت ( شَجَرَةٍ ) . و " زَيْتُونَةٍ " فيها قولان : أشهرهما : أنها بدل من " شَجَرَةٍ " . الثاني : أنها عطف بيانٍ ، وهذا مذهب الكوفيين ، وتبعهم أبو علي . وتقدم هذا في قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] . قوله : " لاَ شَرْقِيَّةٍ " صفة لـ " شجرةٍ " ودخلت " لاَ " لتفيد النفي . وقرأ الضَّحَّاكُ بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي : لاَ هِيَ شَرْقِيةٌ ، والجملة أيضاً في محل جر نعتاً لـ " شَجَرَةٍ " . ( قوله : " يَكَادُ " هذه الجملة أيضاً نعت لـ " شَجَرَةٍ " ) . قوله : { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } جوابها محذوف ، أي : لأضاءت ، لدلالة ما تقدم عليه ، والجملة حالية . وتقدم تحرير هذا في قولهم : أعطوا السائل وَلَوْ جاء على فَرَسٍ . وأنها لاستقصاء الأحوال حتى في هذه الحالة . وقرأ ابن عباس والحسن : " يَمْسَسْهُ " بالياء ، لأن التأنيث مجازي ، ولأنه قد فصل بالمفعول أيضاً . فصل في كيفية هذا التمثيل قال جمهور المتكلمين : معناه : أن هداية الله قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات ، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي يكون فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح ( يتّقد بزيت ) بلغ النهاية في الصفاء . فإن قيل : لم شبهه بذلك مع أن ضوء الشمس أعظم منه ؟ فالجواب : أنه تعالى أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة ، لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات ( وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات ) وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس ، لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص ، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة ، فلا جرم كان هذا المثل أليق وأوفق . فصل اعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء . فأولها : أن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته ، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أشد إنارة ، ويحقق ذلك أن المصباح ينعكس شعاعه من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض ، لما في الزجاجة من الصفاء والشفافة ، فيزداد بسبب ذلك الضوء والنور ، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف النور الظاهر ، حتى إنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء ، فإذا انعكست تلك الأشعة من كل جانب من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية . وثانيها : أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد فيه ، فإذا كان الدهن صافياً خالصاً كانت حاله بخلاف حاله إذا كان كدراً ، وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت ، فربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه . وثالثها : أن الزيت يختلف باختلاف شجرته ، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس ( في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجاً ، فكان زيته أكثر صفاءً ، لأن زيادة تأثير الشمس ) تؤثر في ذلك ، فإذا اجتمعت هذه الأمور وتعاونت صار ذلك الضوء خالصاً كاملاً ، فيصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى . فصل قال بعضهم : " هذه الآية من المقلوب والتقدير : مثل نوره كمصباح في مشكاة ، لأن المشبه به هو الذي يكون معدناً للنور ومنبعاً له ، وذلك هو المصباح لا المشكاة " . فصل قال مجاهد : " المِشْكَاة " : القنديل ، والمعنى : كمصباح في مشكاة . المصباح في زجاجة ، يعني : " القنديل " قال الزجاج : إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين في كل شيء ، وضوؤه يزيد في الزجاج . ثم وصف الزجاجة فقال : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } . والدَّرُّ : الدفع ، لأن الكواكب تدفعُ الشياطينَ من السماء . وشبيه حالة الدفع ، لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور . وقيل : " دري " أي : طالع ، يقال : درى النجم : إذا طلع وارتفع ، ويقال : هو من درأ الكوكب : إذا اندفع منْقضاً فيضاعف ضوؤه في ذلك الوقت ) ( ويقال : درأ علينا فلان ، أي : طلع وظهر . وقيل : الدري أي ضخم مضى ، ودراري النجوم : عظامها . وقيل : الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام ، وهي : زحل ، والمريخ والمشتري ، والزهرة وعطارد . وقيل : الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي في المعظم الأول . فإن قيل : لم شبهه بالكوكب ولم يشبهه بالشمس والقمر ؟ . فالجواب لأن الشمس والقمر يلحقها الخسوف ، والكواكب لا يلحقها الخسوف . " توقّد " يعني : المصباح ، أي : اتَّقَدَ . ويقال : توقدت النار ، أي : اتقدت ، يعني : نار الزجاجة ، لأن الزجاجة لا توقد . هذا على قراءة من ضم التاء وفتح القاف . وأما على قراءة الآخرين فـ " توقد " يعني المصباح { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } أي : من زيت شجرة مباركة ، فحذف المضاف بدليل قوله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ } . وأراد بالشجرة المباركة : الزيتون وهي كثيرة البركة والنفع : لأن الزيت يسرج به وهو أضوأ وأصفى الأدهان ، وهو إدام وفاكهة ، ولا يحتاج في استخراجه إلى عصار ، بل كل أحد يستخرجه . وقيل : أول شجرة نبتت بعد الطوفان ، وبارك فيها سبعون نبياً منهم الخليل . وجاء في الحديث أنه مصحة من الباسور ، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها . وقال عليه السلام : " كُلُوا الزَّيْتَ وادهنُوا بِهِ فإِنَّهُ من شَجَرة مُبَارَكةٍ " . وقيل : المراد زيتون الشام ، لأنه في الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه الشجرة بأنها { لا شرقية ولا غربية } واستدلوا على ذلك بوجوه : أحدها : أن الشام وسط الدنيا ، فلا توصف شجرتها بأنها شرقية أو غربية . وهذا ضعيف ، لأن من قال : " الأرض كرة " لم يثبت للمشرق والمغرب موضعين معينين ، بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة ، لأن المثل مضروب لكل من ( يعرف ، الزيت ) وقد ) يوجد في غير الشام كوجوده فيه . وثانيها : قال الحسن : " لأنها من شجر الجنة ، إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية " . وهذا أيضاً ضعيف ، لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه ، وهم ما شاهدوا شجر الجنة . وثالثها : أنها شجرة يلتف بها ورقها التفافاً شديداً ، ولا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية أو غربية ، وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان . وهذا أيضاً ضعيف ، لأن الغرض صفاء الزيت ، وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون ، وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله . ورابعها : قال ابن عباس : " المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال ، أو صحراء واسعة ، فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب " . وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة . وقال الفراء والزجاج : " لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها ، ولكنها شرقية غربية ، كما يقال : فلان لا مسافر ولا مقيم ، إذا كان يسافر ويقيم ، أي : تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها ، فتكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين ، فيكون زيتها أضوأ ، كما يقال : فلان ليس بأسود ولا أبيض ، يريد : ليس بأسود خالص ولا بأبيض خالص ، بل اجتمع فيه الأمران ، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض ، أي : اجتمع فيه الحلاوة والحموضة " . وهذا هو المختار ، لأن الشجرة إذا كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء ، وحينئذ يكون مقصود التمثيل أتم . وقيل : المراد بـ " المِشْكَاة " صدر محمد ، ( و " الزجاجة " قلب محمد ) و " المصباح " ما في قلب محمد من الدين ، { يوقد من شجرة } يعني : { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ النساء : 125 ] والشجرة : إبراهيم ، ثم وصف إبراهيم بقوله : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي : لا يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى ، بل كان عليه السلام يصلي إلى الكعبة ، ثم قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } لأن الزيت إذا كان خالصاً ثم رئي من بعيد يرى كأن له شعاعاً ، فإذا مسته النار ازْدَاد ضَوءاً على ضوئه كذلك . قال ابن عباس : " يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد نوراً على نور ، وهدى على هدى " . وقال الضحاك : " يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي " . قال عبد الله بن رواحة : @ 3834 - لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آياتٌ مبينةٌ كانتْ بديهتُه تُنْبِيكَ بالخَبر @@ وقال محمد بن كعب القرظي : المشكاة : إبراهيم ، والزجاجة : إسماعيل والمصباح محمد - صلى الله عليه وسلم - سماه الله مصباحاً كما سماه سراجاً فقال { وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 46 ] { يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } وهي إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وسماه مباركاً ، لأن أكثر الأنبياء من صلبه { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي لم يكن إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ، ولكن كان حنيفاً ، لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } يكاد محاسن محمد - صلى الله عليه وسلم - تظهر للناس من قبل أن يوحى إليه ، { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } نبي من نسل نبي ( نور محمد على نور إبراهيم ) . قوله : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } خبر مبتدأ مضمر أي : ذلك نور ، و " عَلَى نُورٍ " صفة لـ " نُورٌ " . والمعنى : أن القرآن نور من الله - عزَّ وجلَّ - لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن ، فازدادوا بذلك نوراً على نور . { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } . قال ابن عباس : " لدين الإسلام ، وهو نور البصيرة " . وقيل : القرآن . ( قال إن المؤمن يتقلب في خمسة أنوار : قوله نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصير إلى نور ) . واستدل أهل السنة بهذه الآية على صحة مذهبهم فقالوا : " إنه تعالى بعد أن بين أن هذه الدلائل التي بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه ، قال : " يَهْدِي اللَّهُ " بإيضاح هذه الأدلة { لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أي : وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان " . قوله : { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } يبين الله الأشباه للناس ، أي : للمكلفين ، تقريباً لأفهامهم ، وتسهيلاً لنيل الإدراك . { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } وهذا كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله ، ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات . قالت المعتزلة : قوله تعالى { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } ذكره في معرض النعمة ، وإنما يكون نعمة عظيمة لو أمكنكم الانتفاع به وتقدم جوابه .