Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 36-38)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ } الآية . واعلم أن قوله : " فِي بُيُوتٍ " يقتضي محذوفاً يكون فيها ، وذكروا فيه ستّة أوجه : أحدها : أن قوله : " في بُيُوتٍ " صفة لـ " مِشْكَاةٍ " أي كَمِشْكَاةَ في بُيُوتٍ ، أي : في بيتٍ من بُيُوت الله . ( الثاني : أنه صفة لـ " مصباح " ) وهذا اختيار أكثر المحققين . واعترض عليه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني من وجهين : الأول : أن المقصود من ذكر " المصباح " المثل ، وكون المصباح في بيت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود ، لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة . والثاني : أن الذي تقدم ذكره في وجوه يقتضي كونه واحداً ، كقوله : { كَمشْكَاةٍ } [ النور : 35 ] وقوله : { فيهَا مِصْبَاحٌ } [ النور : 35 ] وقوله : { فِي زُجَاجَةٍ } [ النور : 35 ] وقوله : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } [ النور : 35 ] ، ولفظ " البُيُوت " جمع ، ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت . وأجيب عن الأول : أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم ، فكان أضوأ ، فكان التمثيل به أتم وأكمل . وعن الثاني : أنه لما كان القصد بالمثل هذا الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل مشكاة فيها مصباح في زجاجة يتوقد من الزيت ، فتكون الفائدة في ذلك أن ضوءه يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى ، كقولك : " الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وقناعة يلزم بيته " لكان وإن ذكر بلفظ الواحد ، فالمراد النوع ، فكذا ههنا . الثالث : أنه صفة لـ " زجاجة " … الرابع : أنه يتعلق بـ " يُوقَدُ " أي : يُوقَد في بيوت ، والبيوت هي المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : المساجد بيوت الله في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض . وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على " عَلِيمٌ " . الوجه الخامس : أنه متعلق بمحذوف كقوله : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } [ النمل : 12 ] أي : سبحوه في بيوت . السادس : أنه متعلق بـ " يُسَبِّحُ " أي : يسبح رجال في بيوت ، و " فيهَا " تكرير للتوكيد كقوله : { فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] وعلى هذين القولين فيوقف على " عَلِيمٌ " . قوله : " أَذِنَ اللَّهُ " في محل جر صفة لـ " بُيُوت " ، و " أَنْ تُرْفَع " على حذف الجار ، أي : في أن ترفع . ولا يجوز تعلق " فِي بُيُوتٍ " بقوله : " وَيُذْكرَ " لأنه عُطِفَ على ما في حيز " أَنْ " وما بعد " أن " لا يتقدم عليها . فصل قال أكثر المفسرين : المراد بـ " البيوت " ههنا : المساجد . وقال عكرمة : هي البيوت كلها . والأول أولى ، لأن في البيوت ما لا يوصف بأن الله أذن أن ترفع ، وأيضاً فإن الله تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة ، وذلك لا يليق إلا بالمساجد . ثم القائلون بأنها المساجد قال بعضهم : بأنها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة . وبيت المقدس بناه داود وسليمان - عليهما السلام - ومسجد المدينة بناه النبي - عليه السلام - ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله ابن بريدة . وعن الحسن أن ذلك بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل . وهذا تخصيص بغير دليل . وقال ابن عباس : المراد جميع المساجد كما تقدم . قوله : " أَنْ تُرفَعَ " . قال مجاهد : تبنى كقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ } [ البقرة : 127 ] ، وهو مرويّ عن ابن عباس . وقال الحسن والزجاج : تُعَظَّم وتُطَهَّر عن الأنجاس ولغو الأفعال . وقيل : مجموع الأمرين { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } . قال ابن عباس : يتلى فيها كتابه . وقيل : عام في كل ذكر { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } . قرأ ابن عامر وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثَّلاث ، والأَوْلَى منها بذلك الأَوَّل ، لاحتياج العامل إلى مرفوعه ، فالذي يليه أولى ، و " رِجَالٌ " على هذه القراءة مرفوع على أحد وجهين : إمَّا بفعل مُقدَّر لتعذّر إسناد الفعل إليه ، وكأنَّه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : " مَنْ يُسَبِّحُهُ " ؟ فقيل : " يُسَبِّحُهُ رجالٌ " ، وعليه في أحد الوجهين قول الشاعر : @ 3835 - ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لخُصُومةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوَائِح @@ كأنه قيل : من يَبْكيه ؟ فقيل : يَبْكيه ضارعٌ ، إلاَّ أَنَّ في اقتباس هذا خلافاً : منهم من ( جَوَّزهُ وقاس ) عليه : " ضُرِبَتْ هندٌ زيدٌ " أي : ضَرَبَهَا زيدٌ . ومنهم من مَنَعهُ . والوجه الثاني في البيت أن " يَزِيدُ " منادى حذف منه حرفُ النِّداء ، أي : ما يزيد وهو ضعيفٌ جداً . الثاني : أن " رِجَالٌ " خبر مبتدأ محذوف ، أي : المُسَبِّحةٌ رجالٌ . وعلى هذه القراءة يوقف على " الآصالِ " . وباقي السبعة بكسر الباء مبنياً للفاعل ، والفاعلُ " رِجَالٌ " فلا يوقف على " الآصَالِ " . وقرأ ابن وثَّاب وأبو حَيْوَة " تُسَبِّحُ " بالتاء من فوق ، وكسر الباء ، لأن جمع التكسير يُعَامَل معاملة المؤنث في بعض الأحكام ، وهذا منها . وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنه فتح ( الباء ) . وخرَّجَها الزمخشري على إسناد الفعل إلى " الغُدُوّ والآصَالِ " على زيادة الباء ، كقولهم : " صيد عليه يومان " ( والمراد : وحشهما ) . وخرَّجها غيره على أن القائم مقام الفاعل ضمير التَّسبيحة ، أي : تُسَبَّح التَّسبيحَةُ على المجاز المُسَوّغ لإسناده إلى الوقتين ، كما خرجوا قراءة أبي جعفر أيضاً : " لِيُجْزَى قَوْماً " أي : " لِيُجْزَى الجَزَاء قَوْماً " ، بل هذا أولى من آية الجاثية ، إذ ليس هنا مفعول صريح . فصل اختلفوا في هذا التسبيح . فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، وهؤلاء منهم من حمله على صلاة الصبح والعصر ، فقال : كانتا واجبتين في بدء الحال ثم زيد فيهما ، وقال عليه السلام : " من صلى صلاة البردين دخل الجنة " وقيل : أراد الصلوات المفروضة ، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الفجر ، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الأصيل يجمعهما ، و " الآصال " جمع أَصيل ، وهو العشي . وإنما وحد " الغدو " لأنه مصدر في الأصل لا يجمع ، و " الأَصِيل " اسم فجمع . قال الزمخشري : " بالغدو ، أي بأوقات الغد ، أي بالغدوات " . وقيل : صلاة الضحى ، قال عليه السلام : " من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهِّر ، فأجره كأجر الحاجِّ المُحْرم ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المُعْتَمِر ، وصلاةٌ على إثر صلاة لا لَغْوَ بينهما كتاب في عِلِّيِّين " وقال ابن عباس : " إنّ صلاة الضحى لفي كتاب الله ( مذكورة ) ( وتلا هذه ) الآية . وقيل : المراد منه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله ؛ لأنه قد عطف على ذلك الصلاة والزكاة فقال : { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ } . وهذا الوجه أظهر . وقرئ : " بالغدو والإيصَالِ " وهو الدخول في الأصل . قوله : " لا تُلْهِيهِمْ " في محل رفع صفة لـ " رِجَالٌ " . ( و ) خص الرجال بالذكر في هذه المساجد ، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد . " لاَ تُلْهِيهِمْ " : تشغلهم ، " تِجَارَةٌ " قيل : خص التجارة بالذكر ، لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات . قال الحسن : أما والله إنهم كانوا يتجرون ، ولكن إذا جاءتهم فرائض الله لم يلههم عنها شيء ، فقاموا بالصلاة والزكاة . فإن قيل : البيع داخل في التجارة ، فلم أعاد البيع ؟ فالجواب من وجوه : الأول : أن التجارة جنس يدخل تحته أنواع الشراء والبيع ، وإنما خص البيع بالذكر لأن الالتهاء به أعظم ، لكون الربح الحاصل من البيع معين ناجز ، والربح الحاصل من الشراء مشكوك مستقبل . الثاني : أن البيع تبديل العرض بالنقدين ، والشراء بالعكس ، والرغبة في تبديل النقد أكثر من العكس . الثالث : قال الفراء : التجارة لأهل الجَلْب ، يقال : تجر فلان في كذا : إذا جلبه من غير بلده ، والبيع ما باعه على يديه . الرابع : أراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً ، لأنه ذكر البيع بعده كقوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً } [ الجمعة : 11 ] يعني : الشراء . قوله : { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } عن حضور المساجد لإقامة الصلاة . فإن قيل : فما معنى قوله : " وَإقَامِ الصَّلاَةِ ؟ " فالجواب قال ابن عباس : المراد بإقامة الصلاة : إقامتها لمواقيتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة . ويجوز أن يكون قوله : " الصَّلاَة " تفسيراً لذكر الله ، فهم يذكرون قبل الصلاة . قال الزجاج : وإنما حذفت الهاء ، لأنه يقال : أقمت الصلاة إقامة ، وكان الأصل : إقواماً ، ولكن قُلِبَت الواو ألفاً ، فاجتمعت ألفان ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي : أقَمْتُ الصلاة إقاماً ، فأدخلت الهاء عوضاً عن المحذوف ، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة وهذا إجماع من النحويين . فصل المراد : الصلوات المفروضة لما روى سالم ( عن ) ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة ، فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم ، فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت هذه الآية : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ } . وقوله : " وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ " يريد : المفروضة . قال ابن عباس : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها . وروي عن ابن عباس أيضاً : المراد من الزكاة : طاعة الله والإخلاص . وهذا ضعيف لأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء ، وهذا لا يحتمل إلا ما يعطى من حقوق المال . قوله : " يخَافُونَ يَوْماً " يجوز أن يكون نعتاً ثانياً لـ " رِجَالٌ " ، وأن يكون حالاً من مفعول " تُلْهِيهِمْ " و " يَوْماً " مفعول به لا ظرف على الأظهر ، و " تَتَقَلَّبُ " صفة لـ " يَوْماً " . قوله : { تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ } : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتنفتح الأبصار من الأغطية بعد أن كانت مطبوعة عليها لا تبصر ، وكلهم انقلبوا من الشك إلى اليقين ، كقوله : { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] وقوله : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] . وقيل : تتقلب القلوب تطمع في النجاة وتخشى الهلاك ، وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤخذ أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم ، أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال ؟ والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل ، لأنهم قالوا : إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة ، وأهل العقاب لا يرجون العفو . وقيل : إن القلوب تزول من أماكنها فتبلغ الحناجر ، والأبصار تصير زرقاً . وقيل : تقلب البصر : شخوصه من هول الأمر وشدته . ( وقال الجبائي : تقلب القلوب والأبصار ) : تغير هيئاتها بسبب ما ينالها من العذاب . قال : ويجوز أن يريد به تقليبها على جمر جهنم كقوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] . قوله : " لِيَجْزِيَهُمْ " . يجوز تعلقه بـ " يُسَبِّحُ " أي : يُسَبِّحون لأجل الجزاء . ويجوز تعلقه بمحذوف ، أي : فعلوا ذلك ليجزيهم . وظاهر كلام الزمخشري أنه من باب الإعمال ، فإنه قال : والمعنى : يُسبِّحونَ وَيَخَافُونَ ( لِيَجْزيهمْ " ) . ويكون على إعمال الثاني للحذف من الأول . وقوله : { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي : ثواب أحسن ، أو أحسن جزاء ما عملوا ، و " ما " مصدرية ، أو بمعنى الذي ، أو نكرة . فصل المراد بالأحسن : الحسنات أجمع ، وهي الطاعات فرضها ونفلها . قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن لأنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم ، بل يغفرها لهم . وقيل : يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشر إلى سبعمائة . ثم قال : { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } أي : ما لم يستحقوه بأعمالهم . فإن قيل : هذا يدل على أن لفعل الطاعة أثر في استحقاق الثواب ، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل ، وأنتم لا تقولون بذلك ، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئاً ؟ قلنا : نحن نثبت الاستحقاق بالوعد ، فذلك القدر هو الذي يستحق ، والزائد عليه هو الفضل . ثم قال : { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وذلك تنبيه على كمال قدرته ، وكمال جوده ، وسعة إحسانه ، فكأنه تعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة ، وهم مع ذلك في نهاية الخوف ، فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم .