Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 20-25)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ } الآية " تَفَقَّدَ الطَّيْرَ " : طلبها وبحث عنها ، والتفقد طلب ما فقد ، والمعنى طلب ما فقد من الطير ، واختلفوا فيما تفقده من أجله ، فقيل : لأنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها ، وقيل : لأن هندسة الماء كانت لديه ، وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة وكان يعرف قربه وبعده في عمق الأرض . قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : يا وصاف ، انظر ما يقول : إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب ، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ ، حتى يقع في عنقه ، فقال له ابن عباس : ويحك إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر ، وهذا القول فيه نظر ، لأن الجن أعرف بالأرض من الهدهد ، فإنهم سكانها ، وقيل : لأنه كان يظله من الشمس . قوله : { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ } ، هذا استفهام توقيف ولا حاجة إلى ادعاء القلب وأن الأصل : ما للهدهد لا أراه ؟ إذ المعنى قوي دونه ، والهدهد معروف ، وتصغيره على هديهد ، وهو القياس ، وزعم بعض النحويين أنه تقلب ياء تصغيره ألفاً ، فيقال : هداهد ، وأنشد : @ 3945 - كَهُدَاهِـدٍ كَسَـرَ الرُّمَـاةُ جَنَاحَـهُ يَدْعُـوا بِقَارِعَـةِ الطَّرِيـقِ هَدِيـلاً @@ كما قالوا : دُوَابَّة وشُوَابَّة ، في : دُوَيْبَة وشُوَيْبَة ، ورده بعضهم بأن الهداهد الحمام الكثير ترجيع الصوت . تزعم العرب أن جارحاً في زمن الطوفان اختطف فرخ حمامة تسمى الهديل ، قالوا : فكل حمامة تبكي فإنما تبكي على الهديل . قوله : " أم كان " ، هذه " أم " المنقطعة ، وتقدم الكلام فيها ، وقال ابن عطية : قوله { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ } مقصد الكلام : الهدهد غاب ، ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله " مَا لِيَ " ناب مناب الألف التي تحتاجها " أم " ، قال أبو حيان : فظاهر كلامه أن " أم " متصلة ، وأن الاستفهام الذي في قوله : " ما لي " ناب مناب ألف الاستفهام ، فمعناه : أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل ، ولم أشعر بغيبته ؟ . قال شهاب الدين : ولا يظن بأبي محمد ذلك ، فإنه لا يجهل أن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام أو التسوية لا مطلق الاستفهام . قوله : " عذاباً " ، أي تعذيباً ، فهو اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد كـ { أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، وقد كتبوا : " أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ " بزيادة ألف بين لام ألف والذال ، ولا يجوز أن تُقْرَأ بها ، وهذا كما تقدم أنهم كتبوا : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } [ التوبة : 47 ] بزيادة ألف بين لام ألف والواو . قوله : " أو لَيَأْتِينِّي " ، قرأ ابن كثير بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية ، وهذا هو الأصل ، واتبع مع ذلك رسم مصحفه ، والباقون بنون مشددة فقط ، والأظهر أنها نون التوكيد الشديدة ، توُصِّلَ بكسرها لياء المتكلم ، وقيل : بل هي نون التوكيد الخفيفة أدغمت في نون الوقاية ، وليس بشيء لمخالفة الفعلين قبله ، وعيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة لم يصلها بالياء . فصل قال المفسرون : معنى الآية : ما للهدهد لا أراه ، تقول العرب : ما لي أراك كئيباً ؟ فقال : ما لي لا أرى الهدهد ، على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه ، ثم أدركه الشك في غيبته فقال : أم كان من الغائبين ، يعني أكان من الغائبين ؟ والميم صلة ، وقيل : أم بمعنى بل ، ثم أوعد على غيبته ، فقال : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } ، فقيل : بنتف ريشه ووضعه لهوام الأرض ، وقيل : بحبسه في القفص ، وقيل : بأن يفرق بينه وبين إلفه ، وقيل : بحبسه مع ضده ، { أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } حُجَّة ظاهرة . قوله : " فَمَكَثَ " قرأ عاصم بفتح الكاف ، والباقون بضمها ، وهما لغتان ، إلا أن الفتح أشهر ، ولذلك جاءت الصفة على ماكث ، دون مكيث ، واعتذر عنه بأن فاعلاً قد جاء لفَعُل بالضم ، نحو : حَمُضَ فهو حامض ، وخَثُر فهو خاثر ، وفَرُهَ فهو فاره . قوله : " غَيْرَ بعِيدٍ " ، يجوز أن يكون صفة للمصدر ، أي مكثاً غير بعيد ، وللزمان أي : زماناً غير بعيد ، وللمكان أي : مكاناً غير بعيد ، والظاهر أن الضمير في مكث للهدهد ، وقيل : لسليمان - عليه السلام - فقال : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } ، والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، يقول : علمت ما لم تعلم ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك . قوله : " مِنْ سَبَأ " ، قرأ البزِّيّ ، وأبو عمرو بفتح الهمزة ، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة ، فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث ، وعليه قوله : @ 3946 - مِـنْ سَبَـأَ الحَاضِـرِينَ مَـأْربَ إِذْ يَبْنُـونَ مِـنْ دُون سَيْلِـهِ العَرِمَـا @@ وقرأ قُنْبُل بسكون الهمزة ، كأنه نوى الوقف وأجرى الوصل مجراه ، والباقون بالجر والتنوين ، جعلوه اسماً للحيِّ او المكان ، وعليه قوله : @ 3947 - الـوَارِدُونَ وَتَيْـمٌ فِـي ذُرَى سَبَـأٍ قَـدْ عَـضَّ أَعْنَاقَهُـمْ جِلْـدُ الجَوَامِيـسِ @@ وهذا الخلاف جارٍ بعينه في سورة سبأ . وفي قوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } فيه من البديع التجانس ، وهو : تجنيس التصريف ، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف كهذه الآية ، ومثله : { تَفْرَحُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] . وفي الحديث : " الخَيْلُ مَعْقُود بِنَواصِيهَا الخَيْرُ " وقال آخر : @ 3948 - لِلَّـهِ مَـا صَنَعَـتْ بِنَـا تِلْـكَ المَعَاجِـرُ وَالمَحَاجِـرْ @@ وقال الزمخشري : وقوله { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً ، أو يصنعه عالم بجوهر هذا الكلام ، يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء هنا زائداً على الصحة ، فحسن وبدع لفظاً ومعنى ، ألا ترى أنه لو وضع مكان : " بنبأ " : " بخبر " لكان المعنى صحيحاً ، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال . يريد بالزيادة : أن النبأ أخص من الخبر ، لأنه لا يقال إلا فيما له شأن من الأخبار ، بخلاف الخبر ، فإنه يطلق على ما له شأن ، وعلى ما لا شأن له ، فكلّ نبأ خبر من غير عكس . وبعضهم يعبر عن نحو : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } في علم البديع بالترديد ، قاله صاحب التحرير ، وقال غيره : إن الترديد عبارة عن رد أعجاز البيوت على صدورها ، أو ردّ كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، فمثال الأول قوله : @ 3949 - سَـرِيـعٌ إِلَـى ابْـنِ العَـمِّ يَلْطـمُ وَجْهَـهُ وَلَيْـسَ إلَـى دَاعِـي الخَنَـا بِسَرِيـعِ @@ ومثال الثاني قوله : @ 3950 - وَاللَّيَـالِـي إِذَا نَأَيْتُـمْ طِـوَالٌ واللَّيَالِـي إذَا دَنَوْتُـمْ قِصَـارُ @@ وقرأ ابن كثير في رواية : " مِنْ سباً " مقصوراً منوناً ، وعنه أيضاً : " مِنْ سَبْأَ " بسكون الباء وفتح الهمزة ، جعله على فَعْل ومنعه من الصرف ، لما تقدم . وعن الأعمش : " من سَبَإِ " بهمزة مكسورة غير منونة ، وفيها إشكال ؛ إذ لا وجه للبناء ، والذي يظهر أن تنوينها لا بد وأن يقلب ميماً وصلاً ، ضرورة ملاقاته للباء ، فسمعها الراوي ؛ فظن أنه كسر من غير تنوين . وروي عن أبي عمرو : " مِنْ سَبَا " بالألف صريحة ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا . وكذلك قرىء " بِنَبَا " بألف خالصة ، وينبغي أن يكونا لقارىء واحد وسبأ في الأًصل : اسم رجل من قحطان ، واسمه : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وسبأ لقب له ، وإنما لقب به : لأنه أول من سبأ . قوله : { إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } لما قال الهدهد لسليمان : { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } ، قال سليمان : وما ذاك ؟ قال : { إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن من نسل يعرب بن قحطان ، وكان ملكاً عظيم الشأن ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤاً لي ، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها : ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها ، وفي الحديث : " إن أحد أبوي بلقيس كان جنِّياً " وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس ، والضمير في " تملكهم " راجع إلى " سبأ " ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر ، وإن أريد المدينة فمعناه : تملك أهلها ، قال عليه السلام لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى : " لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة " . قوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } يجوز أن يكون معطوفاً على " تَمْلِكُهُمْ " ، وجاز عطف الماضي على المضارع ، ( لأن المضارع ) بمعناه ، أي : ملكتهم ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من مرفوع " تملكهم " . و " قَدْ " معها مضمرة عند من يرى ذلك . وقوله : { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } عام مخصوص بالعقل ؛ لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان . قوله : " وَلَهَا عَرْشٌ " يجوز أن تكون هذه جملة مستقلة بنفسها سيقت للإخبار بها ، وأن تكون معطوفة على " أُوتِيَتْ " ، وأن تكون حالاً من مرفوع " أُوتِيَتْ " ، والأحسن أن يجعل الحالَ الجارُّ ، " وعَرْشٌ " مرفوع به ، وبعضهم يقف على " عَرْشٌ " ويقطعه عن نعته . قال الزمخشري : ومن نَوْكى القُصَّاصِ من يقف على قوله : " وَلَهَا عَرْشٌ " ، ثم يبتدىء ، " عَظِيمٌ وَجَدْتها " ، يريد : أمرٌ عظيم أَنْ وجدتها ، فرَّ من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيم ، وهي مسخ كتاب الله . قال شهاب الدين : النَّوكَى : الحمقى جمع أَنْوَك وهذا الذي ذكره من أمر الوقف نقله الدّاني عن نافع وقرره أبو بكر بن الأنباري ورفعه إلى بعض أهل العلم ، فلا ينبغي أن يقال ( نَوْكَى القُصَّاص ) ، وخرجه الداني على أن يكون " عَظِيمٌ " مبتدأ ، و " وَجَدْتُهَا " الخبر ، وهذا خطأ ، كيف يبتدىء بنكرة من غير مسوِّغ ، ويخبر عنها بجملة لا رابط بينهما وبينه ، والإعراب ما قاله الزمخشري من أن عظيماً صفة لمحذوف خبراً مقدماً ، و " وَجَدْتُهَا " مبتدأ مؤخراً مقدراً معه حرف مصدري أي : أمر عظيم وجداني إياها وقومها غير عابدي الله . قوله : " وَجَدْتُهَا " ، هي التي بمعنى لقيت وأصبت ، فيتعدى لواحد ، فيكون " يَسْجُدُونَ " حالاً من مفعولها وما عطف عليه ، فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ، وأيضاً : فكيف سوَّى بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم ؟ . فالجواب عن الأول : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان ، فاستعظم لها ذلك العرش ويجوز أن يكون لسليمان - مع جلالته - مثله كما قد يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله للسلطان . وعن الثاني : أنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، وَوَصْفُ عرشِ اللَّهِ بالعظم تعظيمٌ له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض . قال المفسرون : العرش السرير الضخم كان مضروباً من الذهب مكلّلاً بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد ، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق . قال ابن عباس : كان عرشها ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً . واعلم أن قوله : { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } [ النمل : 26 ] إن قلنا : إنه من كلام الهدهد ، فالهدهد قد استدرك على نفسه ، واستقلّ عرشها بالنسبة إلى عظمة عرش الله ، وإن قلنا : إنه من كلام الله تعالى ، فالله رد عليه استعظامه لعرشها . فصل طعنت الملاحدة في هذه القصة من وجوه : أحدها : أَنَّ هذه الآيات اشتملت على أنَّ النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك إلاَّ عن العقلاء وذلك يجر إلى السَّفْسَطَة ، فإنَّا لو جوَّزنا ذلك لما أمِنّا من النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أَنْ تكون أعلم بالهندسة من إقليدس ، وبالنحو من سيبويه ، وكذا القول في القملة والضئبان ، ولجوزنا أن يكون فيهم الأنبياء والمعجزات والتكاليف ، ومعلوم أنَّ مَنْ جوّزه كان إلى الجنون أقرب . وثانيها : أنَّ سليمان - عليه السلام - كان بالشام ، فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ، ثم رجع إليه ؟ . وثالثها : كيف خفي على سليمان ( عليه السلام ) ؟ تلك المملكة العظيمة مع أنَّ الجن والإنس كانوا في طاعته ، وأنه - عليه السلام - كان ملك الدنيا كلها ، وكان تحت طاعة بلقيس - على ما يقال - اثنا عشر ألف تحت يد كل واحد منهم مائة ألف ، مع ما يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلاَّ مسيرة ثلاثة أيام ؟ رابعها : من أين حصل للهدهد إنكار سجودهم للشمس وإضافته للشيطان وتزيينه ؟ والجواب عن الأول : أنّ ذلك الاحتمال قائم في أول العقل ، وإنما يدفع ذلك بالإجماع . وعن البواقي : أنَّ الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك . فصل قالت المعتزلة : قوله { يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } يدل على أنَّ فعل العبد من جهته ، لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ، وأورده مورد الذم ، وبين أنهم لا يهتدون . والجواب من جوه : أحدها : أَنَّ هذا قول الهدهد فلا يكون حجة . وثانيها : أنه متروك الظاهر : فإنه قال : { فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } ، وعندكم الشيطان ، فإنه ما صدّ الكافر عن السبيل ، إذ لو صدّه الشيطان عن السبيل لكان معذوراً ممنوعاً ، فيسقط عنه التكليف فلم يبق إلاَّ التمسك بالمدح والذم ، وجوابه قد تقدم . قوله : " ألاَّ يَسْجُدُوا " قرأ الكسائي بتخفيف " أَلاَ " ، والباقون بتشديدها ، فأمَّا قراءة الكسائي ، " أَلاَ " فيها تنبيه واستفتاح ، و " يَا " بعدها حرف نداء ، أو تنبيه أيضاً على ما سيأتي ، و " اسْجُدُوا " : فعل أمرٍ ، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون يَا اسجُدُوا ، ولكن الصحابة أسقطوا ألف " يَا " وهمزة الوصل من " اسْجُدُوا " خَطاً لما سقط لَفْظاً ، ووصلوا الياء بسين " اسْجُدُوا " ، فصارت صورته " يَسْجُدُوا " كما ترى ، فاتحدت القراءتان لفظاً وخطّاً ، واختلفا تقديراً . واختلف النحويون في " يَا " هذه ، هل هي حرف تنبيه أو للنداء والمنادى محذوف ، تقديره : يَا هَؤُلاَءِ اسْجُدُوا ، وقد تقدم ذلك عند قوله في سورة النساء : " يَا لَيْتَنِي " والمُرَجَّحُ أَنْ تكون للتنبيه ، لِئَلاَّ يؤدي إلى حذفٍ كثير من غير بقاءِ ما يدلّ على المحذوف ، ألا ترى أنَّ جملة النداء حذفت ، فلو ادَّعَيْتَ حَّذْفَ المنَادى كَثُرَ الحذف ، ولم يبق معمولٌ يدل على عامله ؛ بخلاف ما إذا جعلتَها للتنبيه . ولكن عَارَضنا هنا أَنَّ قبلها حرف تنبيه آخر ، وهو " أَلا " وقد اعتُذِر عن ذلك بأنه جُمِعَ بينهما تأكيداً ، وإذا كانوا قد جمعوا بين حرفن عاملين للتأكيد ، كقوله : @ 3951 - فَأَصْبَحْـنَ لاَ يَسْأَلْنْنِـي عَـنْ بِمَـا بِـهِ @@ فغير العاملين أولى ، وأيضاً فقد جمعوا بين حرفين عاملين مُتّحدي اللفظ والمعنى كقوله : @ 3952 - فَـلاَ وَاللَّـهِ لاَ يُلْفَـى لِمَـا بِـي وَلاَ لِلمـا بِهِـمْ أَبَـداً دَوَاءُ @@ فهذا أولى ، وقد كثر مباشرة " يا " لفعل الأَمر ، وقبلها " أَلاَ " التي للاستفتاح ، كقوله : @ 3953 - أَلاَ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِ @@ وقوله : @ 3954 - أَلاَ يَا اسْلَمِي دَارَ مَيٍّ عَلَى البِلَى وَلاَ زالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِـكَ القَطْـرُ @@ وقوله : @ 3955 - أَلاَ يا اسْلَمِي ذَات الدَّمَالِيـجِ وَالعُقَـد وذات اللثاث الحُمِّ والفَاحِمِ الجَعْـدِ @@ وقوله : @ 3956 - أَلاَ يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ وَإِنْ كَانَ حَيَّانا عِدًى آخِرَ الـدَّهْـرِ @@ وقوله : @ 3957 - أَلاَ يَـا اسْقِيَـانِي قَبْلَ خَيْـلِ أَبِـي بَكْـر لَعَلَّ مَنَايانَا قَرُبـنَ ولاَ نَـدْرِي @@ وقوله : @ 3958 - أَلاَ يـا اسْقِيانِي قَبْلَ غَـارَةٍ سنجـال @@ وقوله : @ 3959 - فَقَالَـتْ أَلاَ يَا اسْمَـعْ أَعِظْـكَ بخطبـةٍ وقلتُ سمِعْنَـا فَانطِقِـي وأَصِيبِي @@ وقد جاء ذلك وإن لم يكن قبلها " أَلاَ " ، كقوله : @ 3960 - يـا دَارَ هِنْـدٍ يَـا اسْلَمِـي ثُـمَّ اسْلَمِـي بِسَمْسَـمٍ أَوْ عَـنْ يَمِيـنِ سَمْسَـمِ @@ فعلم أنه قراءة الكسائي قوية ، لكثرة دَوْرِها في لغتهم ، وقد سمع ذلك في النَّثْر ، سُمِعَ بَعْضُهم يقول : أَلاَ يَا ارحَمُوني ، أَلاَ يا تصدَّقُوا علينا ، وأما قوله : @ 3961 - يَا لَعْنَةُ اللَّهِ والأَقْوَامِ كُلِّهِم والصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جِارِ @@ فيحتمل أن تكون " يَا " للنداء ، والمنادى محذوف ، وأن يكون للتنبيه ، وهو الأرجح لِمَا مَرَّ . واعلم أَنَّ الوقف عند الكسائي على " يَهْتَدُونَ " تام ، وله أن يقف على " أَلاَ يَا " معاً ، ويبتدىء " اسْجُدُوا " بهمزة مضمومة . وله أن يقف على " أَلاَ " وحدها ، وعلى " يَا " وحدها ، لأنهما حرفان منفصلان وهذا الوقفان وقفاً اخْتبارٍ لا اختيار ، لأنهما حرفان لا يتم معناهما إلاَّ بما يتصلان به ، وإنما فعله القراء امتحاناً وبياناً . فهذا توجيه قراءة الكسائي ، والخَطْبُ فيها سهل . وأما قراءة الباقين فتحتاج إلى إِمْعَان نظرٍ ، وفيها أوجه كثيرة : أحدها : أنَّ " أَلاَّ " أصلها : أَنْ لا ، فأَنْ ناصبة للفعل بعدها ، ولذلك سقطت نون الرفع ، و " لاَ " بعدها حرفُ نَفْي ، وأَنْ وما بعدها في موضع مفعول " يَهْتَدُونَ " على إسقاط الخافض أي : إلى أَنْ لا يسجُدُوا ، و " لاَ " مزيدة كزيادتها في : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [ الحديد : 29 ] ، والمعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . الثاني : أنه بدل من " أَعْمَالَهُمْ " وما بينهما اعتراض تقديره : وزَيَّنَ لهم الشيطانُ عدم السجود لله . الثالث : أنه بدل من " السَّبِيلِ " على زيادة " لاَ " أيضاً ، والتقدير : فَصَدَّهُمْ عن السجود لله . الرابع : أَنَّ " أَلاَّ يَسْجُدُوا " مفعولاً له ، وفي متعلّقه وجهان : أحدهما : أنه " زَيَّنَ " أي : زيَّنَ لهم لأجل أَلاَّ يسجدوا . والثاني : انها متعلق بـ " صَدَّهُمْ " ، أي : صَدَّهُمْ لأجل أن لاَ يسجُدُوا ، وفي " لاَ " حينئذٍ وجهان : أحدهما : انها ليست مزيدة ( بل باقية على معناها من النفي . والثاني : أنها مزيدة ) والمعنى : وزيَّنَ لهم لأجل توقعه سجودهم ، أو لأجل خوفه من سُجُودهم ، وعدم الزيادة أظهر . الخامس : أنه خبرأ مبتدأ مضمر ، وهذا المبتدأ إما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على " أَعْمَالَهُمْ " ، والقدير هي ألا يسجدوا ، فتكون " لاَ " على بابها من النفي ، وإما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على " السَّبِيل " ، التقدير : هو أن لا يسجدوا ، فتكون " لاَ " مزيدة - على ما تقدم - ليصح المعنى . وعلى الأوجه الأربعة المتقدمة لا يجوز الوقفُ على " يَهْتَدُونَ " ، لأنَّ ما بعده إمَّا معمول له أو لِمَا قبله من " زَيَّنَ " و صَدَّ " أو بدل مما قبله أيضاً من " أَعْمَالَهُمْ " أو من " السَّبِيل " على ما قُرِّرَ ، بخلاف الوجه الخامس ، فإنه مَبنيٌّ على مبتدأ مضمر ، وإنْ كان ذلك الضمير مُفَسراً بما سبق قبله ، وقد كتبت " أَلاَّ " موصولة غير مفصولة ، فلم تُكْتَبْ " أَنْ " منفصلة من " لاَ " ، فمن ثَمَّ : امتنع أن يُوقَف هؤلاء في الابتلاء والامتحان على " أَنْ " وحدها ، لاتصالها بلا في الكتابة ، بل يُوقَف لهم على " أَلاَّ " بجملتها ، كذا قال القُرَّاءُ ، والنحويون متى سُئِلوا عن مثل ذلك وقفوا لأجل البيان على كل كلمةٍ على حدتها . لضرورة البيان ، كونها كُتِبَت متصلة بـ " لا " غير مانعٍ من ذلك . ثُمَّ قول القُرَّاءِ : كتبت متصلة فيه تجوُّزٌ وتسامُح ، لأَنَّ حقيقة هذا أن يُثْبِتُوا صورة نُونٍ ويصلونها بلاء ، فيكتبونها " أَنْلاَ " ، ولكن لما أدغمت فيما بعدها لفظاً ، وذهب لفظها إلى لفظ ما بعدها قالوا ذلك تسامحاً . وقد رتَّبَ أبو إسحاق على القراءتين حُكْماً ، وهو وجوب سجود التلاوة وعدمه ، فَأَوْجَبَهُ مع قراءة الكسائي ، وكأنه لأجل الأمرِ بِهِ ، ولم يوجبه في قراءة الباقين لعدم وجود الأمر فيها ، إِلاَّ أَنَّ الزمخشري لم يرتضه منه ، فإنه قال : فَإِنْ قُلْتَ : أَسَجدةُ التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أو في واحدة منهما ؟ قُلْتُ : هي واجبة فيهما . وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك ، وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد مرجوع إليه . قال شهاب الدين : وكأن الزجاج أخذ بظاهر الأمر ، وظاهره الوجوب وهذا لو خلينا الآية لكان السُّجُودُ واجباً ، ولكن دلَّت السنةُ على استحبابه دون وجوبه ، على أَنَّا نقول : هذا مبنيٌّ على نظر آخر ، وهو أَنَّ هذا الأمر من كلام الله تعالى أو من كلام الهدهد محكيّاً عنه ، فإن كان من كلام الله تعالى فيقال : يقتضي الوجوب إلاَّ أَنْ يجيء دليل يصرفه عن ظاهره ، وإنْ كان من كلام الهدهد - وهو الظاهر - ففي انتهاضة دليلاً نظر ، وهذا الذي ذكروه ليس بشيء ، لأنَّ المراد بالسجود هاهنا عبادة الله لا عبادة الشمس ، وعبادة الله واجبة وليس المراد من الآية سجود التلاوة ، وأين كانت التلاوة في زمن سليمان عليه السلام ولم يكن ثم قرآن . وقرأ الأعمش " هَلاَّ " و " هَلاَ " بقلب الهمزة هاء مع تشديد " لاَ " وتخفيفها ، وكذا هي في مصحف عبد الله ، ( وقرأ عبد الله ) " تَسْجُدُونَ " بتاء الخطاب ونون الرفع ، وقرىء كذلك بالياء من تحت ، فَمَنْ أَثْبَتَ نون الرفع فـ " أَلاَّ " بالتشديد أو التخفيف للتحضيض ، وقد تكون المخففة للعرض أيضاً نحو أَلاَ تنزلُ عندنا فتحدَّثُ ، وفي حرف عبد الله أيضاً { أَلاَ هَلْ تَسْجُدُونَ } بالخطاب . قوله : { ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ } يجوز أن يكون مجرور المحل نعتاً " للَّه " أو بدلاً منه أو بياناً ، و " منصوبة على المدح ، ومرفوعة على خبر ابتداءٍ مضمر . و " الخَبْءَ " مصدر خَبَأْتُ الشيء أَخْبَؤُهُ خَبْئاً أي : سَتَرَْتُهُ ، ثم أطلِقَ على الشيء المَخْبُوءِ وَنَحْوُهُ { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 11 ] قال المفسرون : الخَبْء في السَّماواتِ المطر ، وفي الأرض النبات ، والخَابِيَةُ من هذا إلاَّ أَنَّهُم التزموا فيها ترك الهمزة كالبَريَّة والذّريّة عند بعضهم . وقيل : الخبء الغيب أي : يعلم غيب السموات والأرض ، وقرأ أبيّ وعيسى " الخَبَ " بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة فيصير نحو : رأيت لَبَ ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار " الخَبَا " بألفٍ صريحةٍ ، وجهها أنه أبدل الهمزة ألفاً فلزم تحريك الباء ، وذلك على لغة مَنْ يقف من العرب بإبدال الهمزة حرفاً يجانس حركتها ، فيقول : هذا الخَبُو ، ورأيت الخبا ، ومررت بالخبي ، ثم أُجْرِي الوَصْلُ مَجْرَى الوقْفِ ، وقيل : إنه لمَّا نَقَلَ حركة الهمزة إلى الساكن قبلها لم يحذفها بل تركها ، فَسَكَنَتْ بعد فتحةٍ فَدُبِرَتْ بحركة ما قبلها وهي لغة ثابتة ، يقولون : المراة والكماة بألف مكان الهمزة بهذه الطريقة ، وقد طعن أبو حاتم على هذه القراءة وقال : لا يجوز في العربية ، لأَنَّه إن حذف الهمزة أَلْقَى حركتها على الباء ، فقال الخَبَ ، وإن حوَّلَها قال الخَبْي ، بسكون الباء وياء بعدها . قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ، لم يَلْحَقْ بهم إلاَّ أنه إذا خرج من بلدهم لم يلق أَعْلَم منه . قوله : " في السَّماوَاتِ " فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلق بـ " الخَبْءَ " ، أي ؛ المَخْبُوءُ في السموات . والثاني : أنه متعلق بـ " يُخْرِجُ " على أنَّ معنى ( في ) بمعنى ( مِنْ ) ، أي : يخرجه من السموات ، و " مِنْ " و " فِي " يتعاقبان ، يقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، أي منكم - قاله الفراء - ، وقرأ عبد الله : { يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّماواتِ } . قوله : " مَا تُخْفُونَ " قرأ الكسائي وحفص بالتاء من فوق فيهما ، والباقون بالياء من تحت ، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي ، لأن ما قبله أَمرهُمْ بالسجود وخطابهم به والغيبة على قراءة الباقين غير حفص ظاهرة أيضاً ، لتقدم الضمائر الغائبة في قوله : " لَهُمْ " ، و " أَعْمَالَهُمْ " و " صَدَّهُمْ " و " فَهُمْ " وأما قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أَتَمَّ قصة أهل سبأ ، ويجوز أن يكون التفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر ، فخاطبه ملتفتاً إليه . وقال ابن عطية : القراءة بياء الغيبة تُعْطِي أَنَّ الآية من كلام الهدهد ، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله لأُمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم أن الظاهر أنه من كلام الهدهد مطلقاً .