Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 15-19)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } الآية … والمراد بالعلم أي : علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ، والمعنى : طائفة من العلم ، او علماً سنياً عزيزاً . قوله : " وَقَالاَ " ، قال الزمخشري : فإن قلت : أليس هذا موضع الفاء دون الواو ، كقولك : أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر ؟ قلت : بلى ، ولكن عطفه بالواو إشعار بأنَّ ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيءٌ من مواجبه ، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد ، قال : ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفاه حقَّ معرفته ، وقالا الحمد لله ، انتهى . وإنَّما نكر " عِلْما " تعظيماً له ، أي علماً سنياً ، أو دلالة على التبعيض ، لأنه قليل جداً بالنسبة إلى علمه تعالى . فصل المعنى : { وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا } بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين ، والجن والإنس { عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، ولم يفضلوا أنفسهم على الكل ، وذلك يدل على حسن التواضع . قوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ، قال الحسن : المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث ، وقال غيره : بل النبوة والعلم والملك دون سائر أولاده ، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال لا يورث من الأنبياء ، لقوله عليه السلام : " نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ صدقة " وأيضاً فإن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى ، ولذلك يرثه الولد إذا كان مؤمناً ، ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً ، ولا كذلك النبوة ، لأن الموت لا يكون سبباً لنبوة الولد ، وكان لداود تسعة عشر ابناً ، واعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين ، قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبداً من سليمان ، وكان سليمان شاكراً لنعم الله . { وَقَالَ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ } ، يعني صوته ، سمي صوت الطير منطقاً ، لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس ، روي عن كعب قال : صاح ورشان عند سليمان عليه السلام ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : إنه يقول : لدوا للموت ، وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا لا ، قال فإنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح الطاووس فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، قال : وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاحت طيطوى ، فقال أتدرون ما تقول ؟ قالوا لا ، قال فإنه يقول : كل حي ميت ، وكل جديد بال وصاح خطاف ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ( ملء سمائة وأرضه ، وصاح قمري ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى ) ، قال : والغراب يدعو على العشَّار ، والحدأة تقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء : ويلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ ، والضفدع يقول : سبحان ربِّي القدُّوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده . وعن مكحول قال : صاح دُرَّاج عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] . قوله : { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } تؤتى الأنبياء والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة . وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والريح { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } ، والمراد بقوله : { أُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } كثرة ما أوتي ، لأن كثرة المشاركة سبب لجواز الاستعارة ، فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثرة ، كقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] وقوله : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } ، أي : الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا ، روي أن سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة ( سنة ) وستة أشهر ، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة . فقوله : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } تقرير لقوله : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا } والمقصود منه : الشكر والمحمدة ، كما قال عليه السلام : " أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ " . فإن قيل : كيف قال " عُلِّمنا " و " أُوتِينَا " ، وهو كلام المتكبر ؟ فالجواب من وجهين : الأول : أن يريد نفسه وأباه . والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع ، وكان ملكاً مطاعاً . قوله : " وَحُشرَ لسُلَيْمَانَ " : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له ، فقوله : " مِن الجَنّ " وما بعده بيان لـ " جنوده " فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون هذا الجار حالاً ، فيتعلق بمحذوف أيضاً . قوله : " فهم يُوزَعُون " أي : يمنعنون ويكفُّون ، والوزع : الكف والحبس ، يقال : وزعه يزعه فهو وازع وموزوع ، وقال عثمان - رضي الله عنه - : " مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ القُرْآنُ " ، وعنه : " لاَ بُدَّ لِلقَاضِي مِنْ وَزَعَةٍ " وقال الشاعر : @ 3935 - وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وحَيَاؤُهُ فَلَيْسَ لَهْ مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازعُ @@ وقوله : { أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ } بمعنى ألهمني من هذا ، لأنَّ تحقيقه : اجعلني من حيث أزع نفسي عن الكفر فقوله : " فَهُمْ يُوزَعُونَ " معناه : يحبسون ، وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع متسلط على من يرده ويكفه . قال قتادة : كان كل صنف من جنوده وزعة ترد أولها على آخرها لئلا يتقدمون في المسير ، والوازع : الحابس والنقيب ، وقال مقاتل يوزعون يساقون ، وقال السدي : يوقفون ، وقيل يجمعون . قوله : " حَتَّى إذَا " في المُغَيَّا بـ " حتى " وجهان : أحدهما : هو " يُوزَعُونَ " ، لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا . والثاني : أنه محذوف ، أي فساروا حتى وتقدم الكلام في حتى الداخلة على إذا ، هل هي حرف ابتداء أو حرف جر . قوله : " عَلَى وَادِي " متعلق بـ " أَتَوا " ، وإنما عدِّي بـ " عَلَى " ، لأنَّ الواقع كذا ، لأنهم كانوا محمولين على الريح ، فهم مستعلون . وقيل : هو من قولهم : أتيت عليه ، أي استقصيته إلى آخره ، والمعنى أنهم قطعوا الوادي كله وبلغوا آخره . ووقف القراء كلهم على " وَادِ " دون ياء اتباعاً للرسم ، ولأنها محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين في الوصل ، ولأنها قد حذفت حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين ( نحو { جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } [ الفجر : 9 ] فحذفها وقفاً ، وقد عهد حذفها دون التقاء الساكنين ) ، فحذفها عند التقاء الساكنين أولى ، إلا الكسائي ، فإنه وقف بالياء ، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل ، وقد زال ، فعادت اللام ، واعتذر عن مخالفة الرسم بقوة الأصل . والنَّملُ : اسم جنس معروف واحده نملةٌ ، ويقال : نُمْلَةٌ ونُمْلٌ بضم النون وسكون الميم ، ونُمُلَة ونُمُل بضمّهما ، ونَمْلَة بالفتح ، والضم بوزن سمرة ، ونَمُل بوزن رجل ، واشتقاقه من : التَّنمُّل ، لكثرة حركته ، ومنه قيل للواشي : المُنَمِّل ، يقال : أنْمَلَ بين القوم مُنْمِل ، أي : وشَى وَنَمَّ ، لكثرة تردده ، وحركته في ذلك ، قال : @ 3936 - وَلَسْتُ بِذِي فِيهِمُ وَلاَ مُنْمِشٍ منهم مُنْمِلِ @@ ويقال أيضاً : نَمِل يَنْمِلُ ، فهو نَمِلٌ ونَمَّالٌ ، وتَنَمَّلَ القومُ : تفرقوا للجميع تفرُّق النمل ، وفي المثل : " أجْمَعُ مِنْ نَمْلَةٍ " والنَّمْلةُ أيضاً : قرحةٌ تخرج في الجنب ، تشبيهاً بها في الهيئة ، والنملة أيضاً شقٌّ في الحافر ، ومنه : فرسٌ منمول القوائم ، والأنْمُلة : طرف الإصبع من ذلك ؛ لدقتها وسرعة حركتها ، والجمع : أنامل . فصل قال كعب : كان سليمان إذا سار بعسكره حملته الريح تهوي بهم فسار من اصطخر إلى اليمن ، فمرّ على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقال سليمان : هذه دار هجرة نبي الله في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به ، وطوبى لمن اتبعه ، ورأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله ، فلما جاوز سليمان البيت بكى فأوحى الله إلى البيت : ما يبكيك ؟ قال : يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا عليّ فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك ، فأوحى الله إليه ، لا تبك ، فإني سوف أملأك وجوهاً سجداً ، وأنزل فيك قرآناً جديداً ، وأبعث منك في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني ، وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى أوكارها ، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها ، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان ، ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف ، فأتى على وادي النمل ، هكذا قال كعب إنه واد بالطائف ، وقال مقاتل : إنه وادٍ بالشام كثير النمل ، وقيل وادٍ كان يسكنه الجن ، وأولئك النمل مراكبهم . قوله : " قَالَتْ نَمْلَةٌ " هذه النملة هنا مؤنثة حقيقة ، بدليل لحاق علامة التأنيث فعلها ، لأن نملة تطلق على الذكر وعلى الأنثى ، فإذا أريد تمييز ذلك قيل : نملة ذكر ، ونملة أنثى ، نحو : حَمامَة ويَمَامة . وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه وقف على قتادة وهو يقول : سلوني ، فأمر من سأله عن نملة سليمان : هل كانت ذكراً أو أنثى ، فلم يجب ، فقيل لأبي حنيفة في ذلك ، فقال : كانت أنثى ، واستدل بلحق العلامة . قال الزمخشري : وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على المذكر والمؤنث ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وهو وهي ، انتهى . وقد ردَّ هذا أبو حيان ، فقال : ولحاق التاء في " قالت " لا يدلّ على أن النملة مؤنثة ، بل يصح أن يقال في المذكر : قالت نملة ؛ لأن نملة وإن كانت بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث ، وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحدة تاء التأنيث من الحيوان ، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث ، ( ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث ) على أنه ذكر أو أنثى ، لأن التاء دخلت فيه للفرق لا للدلالة على التأنيث الحقيقي ، بل دالة على الواحد من هذا الجنس ، قال : وكان قتادة بصيراً بالعربية ، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين ، ولحاق العلامة لا يدل ، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ، قال : وإنما استنباط تأنيثه من كتاب الله بـ " قالت " ، ولو كان ذكراً لقيل : " قال " فكلام النحاة على خلافه ، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث ، سواء كان ذكراً أم أنثى . قال : وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة ، فبينهما قدر مشترك يتميز فيهما المذكر من المؤنث فيمكن أن تقول : حمامة ذكر ، وحمامة أنثى فتميزه بالصفة ، وأما تميزه بـ " هو " و " هي " فإنه لا يجوز ، لا تقول هو الحمامة ، ولا هو الشاة ، وأما النملة والقملة فلا يتميز فيه المذكر من المؤنث ، ولا يجوز فيه في الإخبار إلا التأنيث وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان نحو : المرأة ، أو غير العاقل كالدابة ، إلا إن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك ، فيجوز أن تلحق العلامة وأن لا تلحقها ، على ما تقرر في علم العربية . انتهى . قال شهاب الدين : اما ما ذكره ففيه نظر ، من حيث إن التأنيث إما لفظي أو معنوي ، واللفظي لا يعتبر ( في لحاق العلامة ) البتة ، بدليل أنه لا يجوز ( قامت رَبْعَةٌ وأنت تعني رجلاً ، وكذلك ) لا يجوز : قامت طلحة ، ولا حمزة - على مذكر - فتعين أن يكون اللحاق إنما هو للتأنيث المعنوي ، وإنما يعتبر لفظ التأنيث والتذكير في باب العدد على معنى خاص أيضاً ، وهو أنا ننظر إلى ما عاملت العرب ذلك اللفظ به من تذكير أو تأنيث من غير نظر إلى مدلوله ، فهناك له هذا الاعتبار ، وتحقيقه هنا يخرجنا عن المقصود وإنما نبهتك على القدر المحتاج إليه . وأما قوله : وأما النملة والقملة فلا يتميَّز ، يعني لا يتوصَّلُ لمعرفة الذكر منهما ولا الأنثى بخلاف الحمامة والشاة ، فإن الاطلاع على ذلك ممكن ، فهو أيضاً ممنوع إذ قد يمكن الاطلاع على ( ذلك ، وأن الاطلاع على ذكورية الحمامة والشاة أسهل من الاطلاع على ) ذكورية النملة والقملة ، ومنعه أيضاً أن يقال هو الشاة وهو الحمامة ممنوع . وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان : " النّمُلُ " و " نَمُلَة " بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة ، وسليمان التيمي بضمتين فيهما ، وتقدم ان ذلك لغات في الواحد والجمع . قوله " لاَ يَحْطِمَنَّكُم " ، فيه وجهان : أحدهما : أنه نهي . والثاني : أنه جواب للأمر . وإذا كان نهياً ففيه وجهان : أحدهما : أنه نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله من حيث الإعراب ، وإنما هو نهي للجنود في اللفظ ، وفي المعنى للنمل ، أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم ، كقولهم : لا أَرَينَّك ههُنَا . والثاني : أنه بدل من جملة الأمر قبله ، وهي " ادْخُلُوا " ، وقد تعرض الزمخشري لذلك ، فقال : فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو ؟ قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر ، والذي جوَّز أن يكون بدلاً منه أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم ، على طريقة : لاَ أَرَيَنَّكَ هاهُنَا ، أرادت : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاءت بما هو أبلغ ، ونحوه : @ 3937 - عَجِبْـتُ مِـن نَفْسِـي وَمِـنْ إشْفَاقِهَـا @@ قال أبو حيان : أما تخريجه على أنه جواب الأمر ، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش ، فإنه مجزوم مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نهي يعني أن الأعمش قرأ : " لاَ يَحْطَمْكُمْ " بجزم الميم دون نون توكيد ، قال : وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا إن كان في شعر ، وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر فأحرى أن لا جوز في جواب الأمر إلا في الشعر ، وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في علم النحو . ومثال مجيء النون في جواب الشرط قوله الشاعر : @ 3938 - نَبَتُّمْ نَبَاتَ الخَيْزُرَانَةِ في الثَّـرَى حَدِيثاً مَتَى مَا يَأْتِكَ الخَيْرُ يَنْفَعَـا @@ وقول الآخر : @ 3939 - فَمَهْمَـا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تُعْطِكُـمْ ومَهْمَـا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تَمْنَعَـا @@ قال سيبويه : وهو قليل في الشعر شبهوهُ بالنهي حيث كان مجزوماً غير واجب ، قال : وأما تخريجه على البدل فلا يجوز ، لأن مدلول " لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ " مخالف لمدلول " ادخُلُوا " ، وأما قوله : لأنه بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم ، فتفسير معنى لا إعراب ، والبدل من صفة الألفاظ ، نعم لو كان اللفظ القرآني : لا تكونوا بحيث لا يحطمنكم ، لتُخُيِّل فيه البدل ، لأن الأمر بدخول المساكين نهي عن كونهم بظاهر الأرض . وأما قوله : إنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخره ، فيسوغ زيادة الأسماء ، وهو لا يجوز ، بل الظاهر إسناد الحطم إلى جنوده ، وهو على حذف مضاف ، أي : خيل سليمان وجنوده ، إو نحو ذلك مما يصح تقديره ، انتهى . أما منعه كونه جواب الأمر من أجل النون ، فقد سبقه إليه أبو البقاء ، فقال : وهو ضعيف ، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار . وأما منعه البدل بما ذكر فلا نسلم تغاير المدلول بالنسبة لما يؤول إليه المعنى . وأما قوله : فيسوغ زيادة الأسماء فهو لم يسوغ ذلك ، وإنما فسر المعنى - وعلى تقدير ذلك - فقد قيل به شائعاً . وجاء الخطاب في قولها " ادخلوا " كخطاب العقلاء لما عوملوا معاملتهم . وقرأ أُبَيّ : { ادْخُلْنَ مَساكِنَكُنَّ لاَ يَحْطمنَّكُن } - بالنون الخفيفة - جاء به على الأصل . وقرأ شهر به حوشب : " مَسْكَنَكم " بالإفراد وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء والنون مضارع حطمه بالتشديد . وقرأ الحسن أيضاً قراءتان : فتح الياء وتشديد الطاء مع سكون الحاء وكسرها والأصل : يَحطمَنَّكُمْ ، فأدغم وإسكان الحاء مشكل تقدم نظيره في " لا يَهدِّي " ونحوه ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد . والحطم : الكسرُ ، يقال منه : حطمتهُ ، ثم استعمل لكل كسر معناه ، والحطام : ما تكسر يبساً وغلب على الأشياء التافهة ، والحُطَم : السائق السريع ، كأنه يحطم الإبل ، قال : @ 3940 - قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بسواقٍ حَطَـمْ لَيْسَ بـرَاعِي إبِـلٍ وَلاَ غَنَـمْ ولا بِـجَـزَّارٍ ظَـهْـرٍ وَضَـمْ @@ والحُطَمَة : من دركات النار ، ورجل حُطَمَةٌ للأكول ، تشبيهاً لبطنه بالنار ، كقوله : @ 3941 - كَأَنَّمَـا فَـي جَوْفِـهِ تَنُّـورُ @@ وقوله : " وهُمْ لا يشعُرُونَ " جملة حالية . فصل قال الشعبي : كانت تلك النملة ذات جناحين ، فنادت { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } ، ولم تقل : ادخلن ، لأنها لما جعلت لهم قولاً كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين ، " لاَ يَحْطِمَنَّكُنمْ " لا يكسرنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ، فسمع سليمان قولها ، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان . فإن قيل : كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده ، وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض ؟ قيل : كانت جنوده ركباناً وفيهم مشاة على الأرض تطوى بهم ، وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان . وقال المفسرون : علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية ولا ظلم ، ومعنى الآية : أنكم لو لم تدخلوا مساكنكم وطئوكم ولم يشعروا بكم ، وروي أن سليمان لما دخل وادي النمل حبس جنده ، حتى دخل النمل بيوتهم . قال أهل المعاني : في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة : نادت ، ونبّهت ، وسمت ، وأمرت ، ونصت ، وحذرت ، وخصت ، وعمت ، وأشارت ، وأعذرت ، ووجهه : نادت : " يا " نبهت : " ها " سمت : " النمل " ، أمرت " ادخلوا " ، نصت : " مساكنكم " ، حذرت : " لا يحطمنكم " ، خصت : " سليمان " ، عمت و " جنوده " ، أشارت : " وَهُمْ " ، أعذرت : " لا يشعرون " . قوله : " ضاحكاً " قيل : هي حال مؤكدة لأنها مفهومة من ( تبسم ) ، وقيل : بل هي حال مقدرة ، فإن التبسم ابتداء الضحك ، وقيل : لما كان التبسم قد يكون للغضب ، ومنه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الغضبان ، أي تضاحكاً مسبباً له ، قال عنترة : @ 3942 - لَمَّـا رَآنِـي قَـدْ قَصَـدْتُ أُرِيـدُهُ أَبْـدَى نَـوَاجِـذَهُ لِغَيْـرِ تَبَسُّـمِ @@ وتبسَّم : تَفَعَّلَ بمعنى بَسَمَ المجرّد ، قال : @ 3943 - وَتَبْسِـمُ عَـنْ أَلْمَـى كَـأَنَّ مُنَـوَّراً تَخَلَّـلَ حُـرَّ الرَّمْـلِ دِعْـصٌ لَـهُ نَـدِي @@ وقال بعض المولدين : @ 3944 - كَأَنَّمَـا تَبْسِـمُ عَـنْ لُـؤْلُـؤٍ مُنَضَّـدٍ أَوْ بَـرَدِ أَوْ أَقَـاح @@ وقرأ ابن السميفع : " ضحكاً " مقصوراً ، وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مصدر مؤكد معنى تبسم ، لأنه بمعناه . والثاني : أنه في موضع الحال ، فهو في المعنى كالذي قبله . الثالث : أنه اسم فاعل كفرح ، وذلك لأن فعله على فَعِل بكسر العين ، وهو لازم ، فهو كفرح وبطِر . قوله : " أن أشكر " مفعول ثان لـ " أوزعني " ، لأن معناه : ألهمني ، وقيل معناه : اجعلني أزع شكر نعمتك ، أي : أكفه وأمنعه حتى لا ينفلت مني ، فلا أزال شاكراً ، وتفسير الزجاج له بامنعني أن أكفر نعمتك من باب تفسير المعنى باللازم . فصل قال الزجاج أكثر ضحك الأنبياء التبسم ، وقوله : " ضاحكاً " أي : مبتسماً ، وقيل : كان أوله التبسم وآخره الضحك ، قال مقاتل : كان ضحك سليمان من قول النملة تعجباً ، لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك ، وإنما ضحك لأمرين : أحدهما : إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وعلى شهرة حاله وحالهم في التقوى ، وهو قولها : " وهم لا يشعرون " . والثاني : سروره بما آتاه الله ما له يؤت أحداً ، من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه . ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه ، فقال : { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ } ألهمني . { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } وهذا يدل على أن دخول الجنة برحمته وفضله ، لا باستحقاق العبد ، والمعنى : أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم ، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين . فإن قيل : درجات الأنبياء أفضل من درجات الأولياء والصالحين ، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين ، فقال يوسف : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] ، وقال سليمان : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } ؟ . فالجواب : الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية ، وهذه درجة عالية .