Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 30-33)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ } العامة على كسر الهمزتين على الاستئناف جواباً لسؤال قومها ، كأنهم قالوا : ممن الكتاب ؟ وما فيه ؟ فأجابتهم بالجوابين . وقرأ عبد الله : { وَإِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } بزيادة واو عاطفة { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } على قوله : { إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ } [ النمل : 29 ] . وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتح الهمزتين ، صرح بذلك الزمخشري وغيره . ولم يذكر أبو البقاء إلا الكسر في { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } وكأنه سكت عن الثانية ، لأنها معطوفة على الأولى ، وفي تخريج الفتح فيهما أوجه : أحدهما : أنه بدل من " كِتَاب " بدل اشتمال ، أو بدل كلٍّ من كلّ ، كأنه قيل : ألقي إليَّ أنه من سليمان ، وأنه كذا وكذا ، وهذا هو الأصح . والثاني : أنه مرفوع بـ " كَرِيم " ذكره أبو البقاء . الثالث : أنه على إسقاط حرف العلة . قال الزمخشري : ويجوز أن يريد لأنه من سليمان ولأنه ، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره باسم الله . وقال مكي : وأجاز الفراء الفتح فيهما في الكلام ، كأنه لم يطلع على أنها قراءة وقرأ أُبيّ : أنْ من سليمان وأنْ بسم الله بسكون النون فيهما ، وفيها وجهان : أظهرهما : أنها " أن " المفسرة ، لتقدم ما هو بمعنى القول . والثاني : أنها المخففة واسمها محذوف ، وهذا لا يتمشى على أصول البصريين ؛ لأن اسمها لا يكون إلا ضمير شأن وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها . فصل قال المفسرون : أخذ الهدهد هذا الكتاب ، وأتى به إلى بلقيس ، وكان بأرض يقال لها : " مأرب " من صنعاء ، فرمى بالكتاب إليها ، فأخذته بلقيس ، وكانت قارئة ، ومن ثم اتخذ الناس البطائق ، فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت ، لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها ، لطاعة الطير وهيبة الخاتم ، فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد ، فقعدت على سرير ملكها ، وجمعت الملأ من قومها ، وقالت لهم : { إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] قال عطاء والضحاك : سمته كريماً ، لأنه كان مختوماً . وروى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كرمه ختمه " وقال مقاتل والزجاج : كريم أي : حسن ما فيه ، وروي عن ابن عباس أي : شريف لشرف صاحبه . وقيل سمته كريماً ، لأنه مصدر بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ثم بينت ممن الكتاب ، فقالت : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } ، وبينت المكتوب فقالت : { وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } . فإن قيل : لم قدم سليمان اسمه على قوله : { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ؟ فالجواب : حاشاه من ذلك ، بل ابتدأ الكتاب بـ { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، وإنما كتب اسمه عنواناً بعد ختمه ، لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود ، ولذلك قالت : { وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، أي : إنّ الكتاب . … فالتقديم واقع في حكاية الحال . واعلم أن قوله : { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } مشتمل على إثبات الصانع سبحانه ، وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً . فصل وقد استنبط الشيخ الإمام العالم شرف الدين محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري من أسرار البسملة ما أبطل به مذهب النصارى ، فقال : بلغني أن بعض النصارى انتصر لدينه ، وانتزع من البسملة الشريفة دليلاً على تقوية اعتقاده في المسيح وصحة يقينه فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدم فيها وأخر وفكّر وقدر فقتل كيف قدر ، ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ، فقال : قد انتظم من البسملة : " المسيح ابن الله المحرر " . وظن ذلك سراً في قلب البسملة مضمراً ، وعلى جبين الكتاب العزيز مسطراً ، فنظرت إلى ما عزاه إلى البسملة واستخرجه من حروفها المستعملة والمهملة فإذا هو : " لا ما المسيح ابن الله محرر " ، فأسقط في يده ، ونكص على عقبيه ، وقامت حجته من لسانه عليه ، ثم عاد إليّ رسوله يخبر أن الذي صح له نظمه وتمت عنده منها حكمه : " ألم المسيح ابن الله محرراً " ، فقلت : ورسل الله كلهم ألموا وأنبياؤه ، فأي خصوصية لربك بالنبوة ، وأي رتبة زدته بها على النبوة ، فقال : أردت بالألم إثبات ما أنكرته من الصلب ، ونفيته عنه من ألم الطعن والضرب ، وقد شهدت به كتب الله المنزلة ، وشافهتك به حروف البسملة ، فقلت : وهل شهدت لك إلا بالنقيض ، ورحت منها بأخيب قداح المفيض ، وحيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكماً وجوزت منها أحكاماً عليك وحكماً ، فلتنصرن البسملة الأخيار منا على الأشرار ، ولتفضلن أصحاب الجن على أصحاب النار ، وحيث كان مقصودك من ذكر الألم الإفصاح عما أردته من الصلب والطعن والضرب والثلب وسقيه من الخل الممزوج بالمرار بئس الشراب فخذ الجواب عنه ، والله الموفق للصواب : أما دعواك النبوة فقد قالت لك البسملة بلسان حالها : لا ما المسيح ابن الله محرر ، وألحقته بقولها : الحلم ربح رأس المال ، لحملة الإيمان ، الحلم ربح رأس مال الإيمان ، ليس برّاً من أَحَلَّ ما حرم الله ، المسلم له نبي حرم الراح لنبيه ، سلم بالله من يحرم الراح ، لله نبي مسلم حرم الراح ، المسلم للرحمانية رابح ، لا مرحمة للئام أبناء السحرة ، رحم حر مسلم أناب إلى الله ، إنما الله رب للمسيح راحم . وزعمت أنه ربك ، فقالت : حرم من لا رب له إلا المسيح ، وقالت أيضاً : النحر لأمم لها المسيح رب ، وقلت : إنه حمل الله ، فقالت : أسمي لله ابن المحرر حملاً ، وقالت ما أسلم الرب حمله يسخر ، وقالت : ألا يحرس الرب حمله من ألم ؟ وقلت : إنه ألم ، فقالت المحرر من ربه حل الألم ، وقالت : سل حمرنا أربهم يحل الألم ؟ وقالت : حرم حمار ينسب لله الألم ، وقلت : إنه طعن بالحربة مسمراً ، فقالت : من رأى المسيح ألم للحربة ، وقالت : إن ربّاً حلل مسمره لحليم ، وقالت : أحالل ربنا الحليم مسمره ؟ وقالت : أمحالل الرب الحي من سمره ، وقلت : إنه إله يحلل ويحرم ، فقالت : ابن سليل رحم لا إله محرم ، وقالت : سل ابن مريم أحل الحرام ، وقالت : أمحلل لم حرمه رب الناس ، وإن قلت : إنه رسول صدقتك ، وقالت : أيل أرسل الرحمة من بلحم ويرحمه ؛ أيل اسم من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم " بيت لحم " الذي ولد في المسيح . وقلت : إنه ركب الحمار ، فقالت : سلم أن الرب لا يحمله حمار ، وقالت للناس : رب لم يحمله حمار وباهيتها ببسملتك التي لفقها الفلاسفة للأساقفة ، فقالت لم نر أحبار الملة المسيح ، وقالت : أحبار الملة محل مرسلين ، وقال : ما حرر إلا المسيح الأمانة وقلت : إن النصارى لا تمسهم النار ، فقالت : حر لهب النار لأمم المسيح ، وكرهت الإسلام , فقالت للإسلام بحر ما أحلى نميره , الإسلام بحر حلالي منهمر , حلا الإسلام لمحرره بإيمان ، وقالت : من حرم الإسلام لا ربح له ، وقالت : إن المسلم لحري بالرحمة ، وقالت : ما برح الله راحم المسلمين ، وقالت : إن ملة الإسلامة لحرم رحيب ، وقالت : لا راحة لمحارب المسلمين ، وقالت : الإسلام حرم لا رأي لمحاربه . وقالت : المسلم حرب للنار الحامية ، وقالت : حن المسلم إلى رحمة الرب ، وقالت : الأحبار رحمة للمسلمين ، وقالت : المحراب راحة للمسلمين ، ونَقِمْتَ قيام الدين بالسيف ، فقالت : أم الحسام للنبي الرحمة ، وأثنت البسملة على نفسها فقالت : البسملة لأرحم الراحمين ، وقالت : الحرُّ ينال الرحمة ما بسمل . فانظر إلى البسملة قد لاحت لك بارقة من أنوارها وحلت لك عقدة من إزار أسرارها تخبر أن من وراء رجلها خيولاً وليوثاً ، ومن دون طلبها سيولاً وغيوثاً ، وأما بسملتك فلو كان على أصل ثابت ، أو لم تغرس من الكفر على أخبث المنابت ، لهززت إليك بجذعها ، واستدللت على طيب أصلها بخير فروعها ، لكنّي وجدتها شجرة خبيثة ، وثمرة لا تسوغها القديمة ولا الحديثة ، ألفاظها تصم الأسماع ومعانيها تحلّ عقود الإجماع ، والنظر فيها يصدىء الأفهام والعقول ، ويعلم كل غائب ما يقول ، ولذلك ضربت عن ذكرها صفْحاً ، وعددت الإعراض عنها غنيمةً وربحاً ، فكفرها قائم وقاعد ، والمعترف بها سواء والجاحد ، والثلاثة الآلهة فيها يوصفون بالواحد ، وأما بسملة المسلمين : فإنّ الله أودعها من العلوم والحكم ما فضلهم به على سائر الأمم ، وأعلم أنّ منها ألفات اختصرت ، وبين الهجاء مواضعها غابت أو حضرت ، وقد استعملت بعضها في بعض المواضع ؛ لأبين حكمها وأحيي رسمها ، وصرفتها للمسألتين ، وصارت كعبة فضلها للقبلتين ، وتارة توافق حروفها في العدد والعادة ، وتارة تقضي على ألفات الوصل بالزيادة ، وما أخطأت - بحمد الله - منها واحدة صواباً ، ولا عييت جواباً ولا خرجت عن حدها كتابة ولا حساباً ، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة ، فنسجت على منوالها ، وقابلت الواحدة منها بعشر أمثالها ، وما كان ذلك الهذيان مما يُجاب ، لولا ما يداخلك من التيه والإعجاب ، فتظن أنّك جِئْتَ بشيء عُجاب ، أو حكمة كلمك الله بها وحياً أو من وراء حجابٍ ، وتقول لإخوانك الذين يمدُّونك في الغَيّ ويحسبون أنك على شيء : قد أفحمت بكلمتي المسلمين ، وأسكت بمسألتي فُضلاء المتكلمين ، فتذر قومك في طغيانهم ، وتقرهم على فساد إيمانهم ، ولا أنت ممن يجري بمحاكاة كفرك قلمي ، ولا أحرّك به لساني ، ولا أفغر به فمي ، وقد أتيتك بما يتعبك فيبهتك ويسمعك ما يصمّك عن الإجابة ، ويصمتك على أسلوب رأيته في كتب أنبيائك ، وتفاسير علمائك تعلم به أنّ هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ، ومستودع لجوهر سرِّها المكنون ، أَلاَ ترى أَنَّ البسملة إذا حصلت جُمَلها كان عدده سبعمائة وستة وثمانين ب ، س ، م ، ا ، ل ، ل ، ه ، ا ، ل ، ر ، ح ، م ، ن ، ا ، ل ، ر ، ح ، ي ، م ، 2 ، 60 ، 40 ، 1 ، 30 ، 30 ، 5 ، 1 ، 30 ، 200 ، 8 , 40 ، 50 ، 1 ، 30 ، 200 ، 8 ، 10 ، 40 وإذا قُلتَ إِنّ مثل عيسى كآدم وافق جملها سبعمائة وستّة وثمانين ، وإنْ باهيتها ببسملتك التي ترعد من كفرها الفرائص ، وتجوز بالبهتان ما لا يجوز على الله من النقائص ، ردت عليه وقالت : ليس لله من شريك ، جملها سبعمائة وستة وثمانين ، بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة ، وقالت : ولا أشرك بربّي أحداً سبعمائة وستة وثمانين ، وقالت : ما لِعُلُومِ الفلسفة أنوار هداية ، سبعمائة وستة وثمانين ، وقالت : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ : سبعمائة وستة وثمانين ، بإسقاط ألف الجلالة . ولو استشهدت ببسملتك لشهدت لي بالحقّ عليك ، وشكت إلى الله وإلى النّاس مما نسبت من الإفك والبهتان إليك ، إذا ألفاظها - وحاكي الكفر ليس بكافر - تنافي المعقول والمنقول ، وتنافر : " بسم الأب والابن وروح القدس ، إله واحد " ، وباطنها يقول : " ما سبح إلاّ بنور ، الإله القدوس واحد " ، وتقول : بسملوا بالقرآن ، ووحّدُوا الله بلا جسد , فهي كافرة الظاهر مؤمنة الباطن , كَسُورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، ونظرت في محصلها من العدد ، فإذا جملته ستمائة وستة وتسعون ، فإذا قلت : أُفٍّ لها بسملة ما نزّل اللَّه بها من سُلطَانٍ ، وافقت المعنى وطابقت العدد ، وكانت ستمائة وستة وتسعون ، وكذلك ما عطفته عليها من الكلام ، وهو : { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَان } [ الحجرات : 11 ] موافق للمعنى مطابق للعدد : ستمائة وستة وتسعون ، وكذلك قولك : " لا بسملة بحقّ كبسملةِ المسلمين " ستمائة وستة وتسعون ، وقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خُبراً ، وجاءتك بما لم تستطع عليه صبراً ، على الأسلوب الذي تضمنته شريعتكم ، فإنّي رأيت في إنجيلك وقد سَأَلَتْ بنو إسرائيل المسيح أن يُرِيهم آية ، ليؤمنوا به وهو في بيت المقدس ، فقال : تهدمون هذا الهيكل ، وأنا أٌقِيمُه في ثلاثة أيام ، فقالوا : بيت بني في خمسة وأربعين سنة ، يقيمه في ثلاثة أيام ! ! وعلله في الإنجيل أنه أشار إلى هيكل نفسه الذي هو هيكل آدم ، وحمله خمسة وأربعون وفي هذا ردّ عليهم ليس هذا موضعه . ورأيتُ في التوراة في البشارة بإسماعيل بعد قوله : " وأكبره وأنميه بماد ماد " ومعناه بحد جدلها بل أشار بها إلى اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بطريق الحمل ، إذ هو اثنان وتسعون في الموضعين ، وفي قصة يعقوب إذ قال لبنيه { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } [ البقرة : 133 ] ، فقالوا له : أعلم إسرائيل ( الله أحد ) فطابت نفسه ، وعلم أن بنيه الاثني عشر سبطاً يعبدون الله وحده ، لأنّهم عَدَلُوا عن قولهم : " اللَّه واحدٌ " إلى قولهم : " اللَّهُ أَحَدٌ " ، إذ جملها ثلاثة عشر ، وهي إشارة إلى أنّ الاثني عشر سبطاً يعبدون الله الواحد . وفيه أنّ المصلّي إذا دخل في الصلاة تكون على رأسه طيلسان يسمى : " صيصيت " ، وفي طرفه خمسة خيوط وثمان عقد ليجتمع له من جمع صيصيت وهو ستمائة ومن خمسة خيوط وثمان عقد ثلاثة عشر لتتمة ما عليهم من الفرائض ، وهي ستمائة ، وثلاث عشرة فريضة ، ليذكروا بها ما كتب الله عليهم من الفرائض ، والتزموا ( بها ) . ولنرجع إلى الإعراب والتفسير . قوله : " أَلاَّ تَعْلوا " فيه أوجه : أحدها : أن " أَنْ " مفسرة كما تقدم في أحد الأوجه في " أَنْ " قبلها في قراءة عكرمة ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وهو وجه حسن ، لما في ذلك من المشاكلة ، وهو عطف الأمر عليه ، وهو قوله : " وَأْتُونِي " . الثاني : أنها مصدرية في محل رفع بدلاً من " كِتَاب " ، كأنّه قيل : ألقي إليَّ أن لا تعلُوا عَلَيَّ . الثالث : أنها في موضع رفع على خبر ابتداء مضمر ، أي هو أن لا تعلوا . الرابع : أنها على إسقاط الخافض ، أي : بأن لا تعلوا ، فيجيء في موضعها القولان المشهوران . والظاهر أن " لا " في هذه الأوجه الثلاثة للنهي ، وقد تقدّم أن " أَنْ " المصدرية توصل بالمتصرف مطلقاً . وقال أبو حيان : و " أَنْ " في قوله : { أَن لاَّ تَعْلُواْ } في موضع رفع على البدل من " كتاب " ، وقيل في موضع نصب على : { بأَنْ لاَّ تَعْلُوا } ، وعلى هذين التقديرين تكون " أن " ناصبة للفعل . فظاهر هذا أنّها نافية ، إذ لا يتصور أن تكون ناهية بعد " أن " الناصبة للمضارع ، ويؤيّد هذا ما حكاه عن الزمخشري ، فإنّه قال : وقال الزمخشري : و " أن " في أن لا تَعْلُوا مفسرة ، قال : فَعَلَى هذا تكون " لا " في : " لاَ تَعْلُوا " للنهي ، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه فقوله : " فعلى هذا " : إلى آخره صريح بأنّها على غير هذا يعني الوجهين المتقدمين ليس للنهي فيهما ، ثم القول بأنّها للنفي لا يظهر ، إذ يصير المعنى - على الإخبار منه عليه السلام - بأنّهم لا يعلون عليه ، وليس هذا مقصوداً ، وإنّما المقصود أن ينهاهم عن ذلك . وقرأ ابن عباس والعقيلي : " تغلوا " - بالغين المعجمة ، من الغلو ، وهو مجاوزة الحد . فصل قال ابن عباس : " لا تتكبروا عليَّ " ، وقيل : لا تتعظموا ولا ترتفعوا عليَّ أي : لا تمتنعوا من الإجابة ، فإنّ ترك الإجابة من العلوّ والتكبر ، " وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ " : مؤمنين طائعين ، قيل : هو من الإسلام ، وقيل : من الاستسلام . فإنْ قيل : النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد . فالجواب : معاذ الله أن يكون هناك تقليد ؛ وذلك لأنّ رسول سليمان إلى بلقيس الهدهد ، ورسالة الهدهد معجزة ، والمعجزة تدل على وجود الصانع وصفاته ، وتدل على صدق المُدَّعِي للرسالة ، فلمَّا كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة ، لا جرم لم يذكر في الكتاب دليل آخر . قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي } أشيروا عليَّ فيما عرض لي ، وأجيبوني فيما أشاوركم ، والفتوى هي الجواب في الحادثة ، استفتت ، على طريق الاستفادة من الفتي في السن ، أي : أجيبوني في الأمر الفتي ، وقصدت بذلك استطلاع آرائهم وتطييب قلوبهم . { مَا كُنتُ قَاطِعَةً } قاضية وفاصلة ، { أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } تحضرون . " قَالُوا " مجيبين لها ، { نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ } في القتال ، { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } ، في الحرب ، قال مقاتل : أرادوا بالقوة كثرة العدد ، وأرادوا بالبأس الشديد : الشجاعة ، والبأس : النجدة والبلاء في الحرب ، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك ، ثم قالوا : " وَالأَمْرُ إِلَيْكِ " أيتها الملكة في القتال وتركه . قوله : " مَذَا تَأْمُرِينَ " ماذا هو المفعول الثاني لـ " تأمرين " ، والأول محذوف تقديره : " تأمريننا " ، والاستفهام معلق للنظر ، ولا يخفى حكمه مما تقدم قبله ، والمعنى : فانظري في الرأي ماذا تأمرين تجدينا لأمرك طائعين . قالت - مجيبة لهم - عن التعريض بالقتال - : { قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا … }