Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 65-66)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله ( تعالى : { قُل ) لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ } لما بين أنه مختص بالقدرة ، بين أنه المختص بعلم الغيب ، وإذا ثبت ذلك ، ثبت أنه الإله المعبود . وفي هذا الاستثناء أوجه : أحدها : أنه فاعل " يعلم " ، و " من " مفعوله ، و " الغيب " بدل من " من في السموات " أي : لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي : الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم ، وهو وجه غريب ذكره أبو حيان . الثاني : أنه مستثنى متصل من " من " ، ولكن لا بد من الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة على هذا الوجه ، وبيانه أن الظرفية المستفادة من " مَنْ في " حقيقة بالنسبة إلى غير الله تعالى ، ومجاز بالنسبة إلى الله تعالى بمعنى : أن علمه في السموات والأرض فيندرج ( في ) { مَن فِي ٱلسَّمَاواتِ وٱلأَرْضِ } بهذا الاعتبار ، وهو مجاز ، وغيره من مخلوقاته في السموات والأرض حقيقة ، فبذلك الاندراج المؤول استثني من " مَنْ " ، وكان الرفع على البدل أولى ، ( لأن الكلام غير موجب ، قال مكي : الرفع في اسم الله - عز وجل - على البدل ) من من . ورد الزمخشري هذا بأنه جمع بين الحقيقة والمجاز وأوجب أن يكون منقطعاً ، فقال : فإن قلت : لم رفع اسم الله ، والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض ؟ قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، يريدون : ما فيها إلا حمار ، كأنَّ أحداً لم يذكر ، ومنه قوله : @ 3969 - عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا وَلاَ النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ @@ وقولهم : ما أتاني زيد " إلا عمرو " ، وما أعانني أخوانكم إلا إخوانه ، فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي ؟ قلت : دعيت إليه نكتة سرية ، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلاَّ اليَعَافِيرُ ، بعد قوله : لَيْسَ بِهَا أنِيس : ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب يعني أن علمهم الغيب - في استحالته - كاستحالة أن يكون الله منهم ، كما أن معنى " ما في البيت " إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس بتّاً للقول بخلوها من الأنيس . فإن قلت : هلا زعمت أن الله ممن في السموات والأرض ، كما يقول المتكلمون : " إن الله في كل مكان " على معنى : أن علمه في الأماكن كلها ، فكأن ذاته فيها حتى لا يحمل على مذهب بني تميم ؟ قلت : يأبى ذلك أن كونه في السموات والأرض مجاز ، وكونهم فيهن حقيقة ، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازاً غير صحيح ، على أن قولك : من في السموات والأرض ، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد فيه إيهام وتسوية ، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته ، ألا ترى كيف قال عليه السلام لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى : " بئْسَ خَطِيبُ القَوْمِ أنْت " . فقد رجح الانقطاع ، واعتذر في ارتكاب مذهب التميميين بما ذكر ، وأكثر العلماء أنه لا يجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وقد قال به الشافعي . فصل نزلت هذه الآية في المشركين ، حيث سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت قيام الساعة . و " مَا يَشْعُرُون " صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم بالغيب ، وذكر في جملة الغيب : متى البعث ؛ بقوله : " أيَّانَ يُبْعَثُونَ " ، و " أَيَّانَ " بمعنى متى ، وهي كلمة مركبة من : أي والآن ، وهو الوقت . وقرىء : " إيّان " بكسر الهمزة ، قرأ بها السلمي ، وهي لغة قومه بني سليم ، وهي منصوبة بـ " يُبْعَثُونَ " ومعلقة لـ " يَشْعُرُونَ " فهي مع ما بعدها في محل نصب بإسقاط الباء ، أي ما يشعرون بكذا . قوله : " ادّارَكَ " قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : " أَدْرَك " كأكرم ، والباقون من السبعة " ادَّارَكَ " بهمزة وصل وتشديد الدال المفتوحة بعدها ألف - والأصل ( تدارك ) وبه قرأ أبي ، فأريد إدغام التاء في الدال ، فأبدلت دالاً وسكنت ، فتعذر الابتداء بها ، لسكونها ، فاجتلبت همزة الوصل ، فصار : " ادَّارك " كما ترى - وتقدم تحقيق هذا في قوله : { فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [ البقرة : 72 ] . وقراءة ابن كثير ، قيل : يحتمل أن يكون " أفعل " فيها بمعنى " تفاعل " ، فتتحد القراءتان ، وقيل : أدرك ، بمعنى بلغ وانتهى . وقرأ سليمان وعطاء ابنا يسار : " بَل ادّرك " بفتح لام " بَلْ " وتشديد الدال دون ألف بعدها وتخريجها : أن الأصل : ( ادْتَرَكَ ) على وزن افْتَعَل ، فأبدلت تاء الافتعال دالاً ، لوقوعها بعد الدال ، قال أبو حيان : فصار فيه قلب الثاني للأول ، كقولهم : أثَّرَدَ ، وأصله : اثترد من الثرد ، انتهى . قال شهاب الدين : ليس هذا مما قلب فيه الثاني للأول لأجل الإدغام ، كاثَّرَدَ في اثترد ، لأن تاء الافتعال تبدل دالاً بعد أحرف منها الدال ، نحو : ادَّانَ في افْتَعَلَ من الدين ، فالإبدال لأجل كون الدال فاء لا للإدغام ، فليس مثل اثَّرَدَ في شيء ، فتأمله فإنه حسن ، فلما أدغمت الدال في الدال أدخلت همزة الاستفهام ، فسقطت همزة الوصل ، فصار اللفظ ، أَدْرَكَ بهمزة قطع مفتوحة ، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى لام " بَلْ " فصار اللفظ : " بَلْ دَّرَكَ " . وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج وابن عباس وتروى عن عاصم كذلك إلا أنه بكسر لام " بَلْ " على أصل التقاء الساكنين ، فإنهم لم يأتوا بهمزة استفهام . وقرأ عبد الله بن عباس والحسن وابن محيصن " آدَّرَكَ " بهمزة ثم ألف بعدها ، وأصلها همزتان أبدلت ثانيهما ألفاً تخفيفاً ، وأنكرها أبو عمرو . وقد تقدم أول البقرة أنه قرىء " أَأَنْذَرْتَهُمْ " بألف صريحة - فلهذه بها أسوة . وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد " بَلْ " ، ( لأن " بَلْ " ) إيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى : " لَمْ يَكُنْ " كقوله تعالى : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } [ الزخرف : 19 ] أي : لم يشهدوا ، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار . قال شهاب الدين : وفي منع هذا نظر ، لأنّ " بَلْ " لإضراب الانتقال ، فقد أضرب عن الكلام الأول ، وأخذ في استفهام ثانٍ ، وكيف ينكر هذا والنحويون يقدرون " أَمْ " المنقطعة ببل والهمزة ، وعجبت من الشيخ - يعني أبا حيان - كيف قال هنا : وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد " بَلْ " ، وشبهه بقول القائل : أَخُبْزاً أكَلْتَ بَلْ أَمَاءً شَرِبْتَ ؟ على ترك الكلام الأول ، والأخذ في الثاني انتهى . فتخصيصه ببعض المتأخرين يؤذن بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه ، وليس كذلك لما حكيت عنهم في " أم " المنقطعة . وقرأ ابن مسعود : " أَأَدْرَكَ " بتحقيق الهمزتين ، وقرأ ورش في رواية : " بَل ادْرَكَ " بالنقل ، وقرأ ابن عباس أيضاً : " بَلَى أَدْرَكَ " بحرف الإيجاب أخت نعم ، و " بَلَى آأدْرَكَ " بألف بين همزتين ، وقرأ أبي ومجاهد " أن " بدل ( " بَلْ " ) وهي مخالفة للسواد . قوله : " فِي الآخِرَةِ " فيه وجهان : أحدهما : أن " فِي " على بابها و " أَدْرَكَ " وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى ، لأنه كائن قطعاً ، كقوله : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النحل : 1 ] ، وعلى هذا فـ " فِي " متعلق بـ " أدْرَكَ " . والثاني : أنّ " فِي " بمعنى الباء ، أي : بالآخرة ، وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم ، كقولك : على يزيد كذا . وأمّا قراءة من قرأ " بَلَى " ، فقال الزمخشري : لمّا جاء ببلى بعد قوله : " وَمَا يَشْعُرُونَ " كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : " أدْرَكَ علمهم في الآخِرَةِ " على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، ثم قال : وأمّا قراءة : " بَلَى أأَدْرَكَ " على الاستفهام فمعناه : بَلَى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصّل لهم شعور بوقت كونها ، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن ، ثم قال : فإن قلت ما معنى هذه الإضرابات الثلاثة ؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم ، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنّهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية انتهى . فإن قيل : ( عَمِيَ ) يتعدى بـ ( عَنْ ) تقول : عَمِي فلان عن كذا ، فلم عدي بـ ( مِنْ ) قوله " مِنْهَا عَمُونَ " ؟ فالجواب : أنّه جعل الآخرة مبدأ عَمَاهُم ومنشأه . فصل المعنى على قراءة ابن كثير : " أَدْرَكَ " أي بلغ ولحق ، كما تقول : أدركه علمي ، إذَا لحقه وبلغه يريد : ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة . قال مجاهد : يدريك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها ، حين لا ينفعهم علمهم . وقال مقاتل : بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكّوا وعمُوا عنه في الدنيا . كقوله { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } ، أي هم اليوم في شك من الساعة . وعلى قراءة " ادَّارَكَ " ، تتابع علمهم في الآخرة أنها كائنة " وَهُمْ فِي شَكٍّ " في وقتهم . وقيل استفهام معناه : هل تدارك وتتابع بذلك في الآخرة يعني لم يتتابع ، وضلّ وغاب علمهم به ، فلم يبلغوه ولم يُدركوه ، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد . وقال علي بن عيسى : بل ههنا لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكُّوا بل هُم مِنْهَا عَمُونَ جمع عمٍ ، وهو الأعمى القلب .