Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 1-3)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف ، فإنها مشاق في الحال ، ولا فائدةَ لها في المآل ؛ إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوالِ ، فلما بين الله تعالى أنهم إليه يرجعون في آخر السورة قبلها بين أن الأمر ليس على ما حسبوه ، بل ( حسن التكليف ) ، لأنه يهذب الشكور ويعذب الكفور ، فقال : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ } غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم . فصل في حكمة افتتاح هذه السُّوَرِ بحروف التَّهَجِّي ولنذكرْ كلاماً كُلِّيّاً في افتتاح السور بالحروف . اعلم أن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة ، أو من يكون مشغول البال بشغل يشغله يقدم على الكلام المقصود سبباً غيره ليلتفت المخاطب ( إليه ) بسببه ، ويقبل بقلبه عليه ، ثم يشرع في المقصود . واعلم أن ذلك المتقدم على الكلام ( المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفهوماً ، كقول القائل : " زَيْدٌ ، ويَا زَيْدُ " و " أَلاَ زَيْدُ " . وقد يكون المقدم صوتاً ) غير مفهوم ، كمن يُصَفِّرُ خلف إنسان ليلتفتَ وقد يكون الصوت بغير الفم ، كتصفيق الإنسان بيده ، ليقبل السامع عليه . ثم إن توقع الغفلة ( كلما كان أتم ، والكلام المقصود كان أهم ) ، كان المقدم على الكلام المقصود أكثر ولهذا ينادى القريب " بالهمزة " فيقال : " أَزَيْدُ " ، والبعيد بـ " يَا " ، فيقال : " يَا زَيْدُ " ، والغافل ينبه أولاً ، فيقال : " أَلاَ يَا زَيْدُ " . إذا تقرر هذا فنقول : النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يَقْظَانَ الجَنانِ لكنه إنسان يَشغله شأن عن شأن ، فحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبِّهات . وتلك الحروف إذا لم يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف المفهومة ، لأن الحروف إذا كانت مفهومة المعنى ، وذكرت لإقبال السامع على المتكلم لكي يسمع ما بعد ذلك فربما يظن السامع أنه كل المقصود و " لا " كلام بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه أما إذا سمع صوتاً بلا معنى فإنه يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره ، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود . فإذن تقديم الحروف التي لا يفهم معناها على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة . فإن قيلَ : فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف ؟ فالجواب : قال ابن الخطيب : عقل البشر يعجز عن إدراك الأشياء الكُلِّيَّة على تفاصيلها ، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول : كل سورة في أوائلها ( حروف التهجي فإن في أوائلها ) ذكر الكتاب أو التنزيل ، أو القرآن كقوله تعالى : { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [ البقرة : 1 - 2 ] { الۤمۤ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّوم } [ آل عمران : 1 - 3 ] { الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ } [ الأعراف : 1 - 2 ] { يسۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [ يس : 1 - 2 ] { الۤـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ } [ السجدة : 1 - 2 ] { حـمۤ تَنزِيلُ } [ غافر : 1 - 2 ] { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 - 2 ] { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ ص : 1 - 2 ] ( إلا ثلاثَ سُوَرٍ ) { كۤهيعۤصۤ } [ مريم : 1 ] { الۤـمۤ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ } [ العنكبوت : 1 - 2 ] { الۤـمۤ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } [ الروم : 1 - 2 ] . والحكمة في افتتاح السور التي فيها الكتاب والتنزيل والكتاب بالحروف ( و ) هي أن القرآن عظيم ، والإنزال له أثقل ، كما قال تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] ، فكذلك قدم عليها تنبيه يُوجِبُ ثبات المخاطب لاستماعه . لا يُقالُ : كل سورة قرآن ، واستماعها استماع للقرآن ، سواء كان فيها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن أو لم يكن فيجب أن يكون في أول كل سورة ( منبه ) ، وأيضاً فقد وردت سور فيها ذكر الإنزال ، والكتاب ، وليس فيها حروف ، كقوله تعالى : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] { تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] لأنا نقول جواباً عن الأول : ( لا ريب ) في أن كل سورة من القرآن ، لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب - مع أنهما من القرآن - فيها تنبيه على كل القرآن ، فإن قوله تعالى : { طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ } [ طه : 1 - 2 ] مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن ، فيصير مثاله كتاب يَردُ من مَلِكٍ على مملوكه فيه شُغْلٌ ما ، وكتاب آخر يرد منه عليه فيه : " إنَّا كَتبنا إليك كتاباً فيه أمرُنا فامتثلْه " فلا شك أن هذا الكتاب الآخر أكثر ثقلاً من الأول . وعن الثاني : أن قوله : " الحمد لله ، وتبارك الذي " تسبيحات مقصودة ، وتسبيح الله لا يَغْفَلُ عنه العبد ، فلا يحتاج إلى منبه ، بخلاف الأوامر والنواهي ، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمةِ مَنْ له التسبيح ، و " سورة أنزلناها " قد بينا أنها بعض من القرآن فيها ذكر إنزالها ، وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم وأثقل . وأما قوله تعالى : " إنا أنزلناه " فهذا ليس وُرُوداً على مشغول القلب بشيء غيره ، بدليل أنه ذكر الكتاب فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان منبهاً له فلم يُنَبَّهْ . واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها ، كقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] ، وقوله : { يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } [ التحريم : 1 ] لأنها أشياء هائلة عظيمة ، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها . وأما هذه السور افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن ، وذلك لأن ثِقَلَ القرآن هو ما فيه من التكاليف والمعاد ، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا } يعني لا يتركون بمجرد ذلك ، بل لا بدّ وأن يؤمنوا بأنواع التكاليف ، ففيها المعنى الذي في السورة التي ذكر فيها القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي . فإن قيل : فهذا المعنى ورد في سورة التوبة وهو قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 1 ] ولم يقدم عليه حروف التهجي ! . فالجواب : أن هذا ابتداء كلام ، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة ، فقال : " أَحَسِبَ " ، وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام تاماً ، والتنبيه ( يكون ) في أول الكلام ، لا في أثنائه . وأما { الۤـمۤ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : { أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا } . قوله : " أن يتركوا " سد مسد مفعولي " حسب " عند الجمهور ، ومسد أحدهما عند الأخفش . قوله : " أن يقولوا " فيه أوجه : أحدها : أنه بدل من " أن يتركوا " ، أبدل مصدراً مؤولاً من مثله . الثاني : أنها على إسقاط الخافض ، وهو الباء واللام ، أي : بأن يقولوا ، أو لأنْ يَقُولُوا . قال ابن عطية وأبو البقاء : إذا قدرت الباء كان حالاً . قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء ، كما تقول : تركت زيداً بحاله وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي : أحسبوا أنَّ إيمانهم علةٌ للترك انتهى . وهذا تفسير معنى ، ولو فسر الإعراب لقال : أحسبانهم الترك لأجل تلفظهم بالإيمان . وقال الزمخشري : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان ( في الآية ) ؟ قلت : هو في قوله : { أأَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } ، وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مَفْتُونِينَ لقولهم : آمنا ، فالترك أولى مفعولي " حسب " ، وقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة الترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله : @ 2024 - فَتَركْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ … @@ ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : ( تركهم ) غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام . فإن قلت : أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ ؟ قلت : كما تقول : خُرُوجُه لمخافة الشر ، وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت ( مخافة ) الشر وضربته تأديباً تعليلين . وتقول أيضاً : حسبت خروجه لِمَخَافَةِ الشَّرِّ ، وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً . قال أبو حيان : وهذا كلام فيه اضطراب ، ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة يعني أنه حال ، لأنه سَبَك ذلك من قوله : { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } وهي جملة حالية ، ثم ذكر " أن يتركوا " هنا من الترك الذي هو تصيير ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول " صير " الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذا يصير التقدير : أن يصيروا لقولهم وهم لا يفتنون وهذا كلام لا يصحّ . وأما ما مثله به من البيت فإنه يصح أن يكون " جزر السباع " مفعولاً ثانياً لترك - بمعنى صير - بخلاف ما قدر في الآية . وأما تقديره : تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فلا يصح ؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم كان غير مفتونين حالاً ، إذ لا ينعقد من تركهم بمعنى تصييرهم ولقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم بمعنى تصييرهم إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا مفعول ثان . وأما قوله : فإن قلت : أن يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فضله ( فهم ) ، وذلك أن قوله : أن يقولوا هو علة تركهم ، فليس كذلك ، لأنه لو كان علة لكان به متعلِّقاً كما يتعلق بالفِعْل ، ولكنه علة الخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن ، والخبر غير المبتدأ ، ولو كان " لقولهم " علة للترك لكان من تمامه فكان يحتاج إلى خبر . وأما قوله : كما تقول : خروجه لمخافة الشرِّ ، فلِمَخَافَةِ ليس علةً للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن انتهى . قال شهاب الدين : " ويجاب الشيخ بأن الزمخشري إنما نظر إلى جانب المعنى ، وكلامه عليه صحيح . وأما قوله : ليس علة للخروج ونحو ذلك ، يعني في اللفظ ، فأما في المعنى فهو علة قطعاً ، ولولا خوف الخروج فات المقصود " فصل معنى الآية : أحسب الناس أن يتركوا بغير اختبار ولا ابتلاء أن يقولوا آمنا { وَهُم لاَ يُفْتَنُونَ } وهم لا يُبْتَلَوْنَ في أموالهم وأنفسهم ، كلا لنختبرنهم ، ليتبين المخلص من المنافق ، والصادق من الكاذب . واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، قال الشعبي : نزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل منكم إقرار باللسان حتى تهاجروا ، فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فقتل بعضهم ونجا بعضهم ، فأنزل الله هاتين الآيتين . وقال ابن عباس : نزلت في الذين آمنوا بمكة ، وكانوا يعذبون سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وعمار بن ياسر وغيرهم . وقال مقاتل : نزلت في مهجع بن عبد الله ، مولى عمر بن الخطاب ، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مهْجَع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " فجزع أبواه وامرأته ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، وقيل : وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي ، وذلك أن الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ، ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله هذه الآية . ثم عزاهم فقال : { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني الأنبياء والمؤمنين ، فمنهم من نُشِرَ بِمنْشَارٍ ، ومنهم من قتل ، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون ، فكان يسومُهُمْ سوء العذاب . قوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } العامة على فتح الياء مضارع " عَلِمَ " المتعدية لواحد كذا قالوا وفيه إشكال تقدم وهو أنها إذا تعدت لمفعول كانت بمعنى عرف ، وهذا المعنى لا يجوز إسناده إلى الباري تعالى ، لأنه يستدعي سبق حصل ولأنه يتعلق بالذات فقط ، دون ما عليه من الأحوال . وقرأ عليٌّ وجَعْفَرُ بنُ مُحمّد بضم الياء مضارع " أعلم " ، ( ويحتمل أن يكون من علم بمعنى عرف ، فلما جيء بهمزة النقل أكسبتها مفعولاً آخر ، فحذف . ثم هذا المفعول ) يحتمل أن يكون هو الأول ، أي ليعلمن اللَّهُ النَّاسَ الصَّادِقِينَ وليعلمهم الكاذبين أي بشهرة يعرف لها هؤلاء من هؤلاء ، وأن يكون الثاني ، أي ليعلمن هؤلاء منازلهم ، وهؤلاء منازلهم في الآخرة ، ويحتمل أن يكون من العلامة ، وهي السِّيمَا ، فلا يتعدى إلا لواحد أي ليجعلن لهم علامة يعرفون بها . وقرأ الزُّهْرِيُّ الأولى كالمشهورة والثانية كالشاذة . فصل المعنى : فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم : آمَنَّا ، وليعلمن الكاذبين . قال المفسرون : ظاهر الآية يدل على تجدد العلم ، والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار . ومعنى الآية : فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوحد معلومه . وقال مقاتل : فليُرِيَنَّ الله . وقيل : ليميز الله ، كقوله : { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } [ الأنفال : 37 ] . وقال ابن الخطيب : الية محمولة على ظاهرها ، وذلك أن علم الله صِفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع ، فَقَبْلَ التكليف كان الله تعالى يعلم أنَّ زَيْداً مثلاً سيُطِيعُ وعَمْراً سيعصي ثم وقت التكليف بالإتيان يعلم أنه أطاع ، والآخر عصى ، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال ، وإنما المتغير المعلوم . ومثال ذلك في الحِسِّيَّاتِ أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت في موضع ، وقوبل بوجهها جهة ( ولم تحرك ) ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض يظهر فيها زيد في ثوب أبيض ، وإذا عبر عليها " عمرو " في ثوب أصفر يظهر فيها كذلك . فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت ، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو أنها في صقالتها اختلفت ، أو يخطر بباله أنها عن مكانها انتقلت ؟ لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير إنما هو الخارجات . فعلم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال ، فإن المرآة ممكنة التغيير ، وعلم الله غير ممكن التغيير ، فقوله : " فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ " من هذا المثال يعني يعلم من علم الله أنه يأتي بالطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم . وليعلمن الكاذبين ، يعني من قال : أنا مؤمن ، وكان كذاباً فبفرض العبادات عليه يظهر منه ذلك ويعلم . وفي قوله : { ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } بصيغة الفعل ، وفي قوله : " الكَاذِبِينَ " فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه ، والفعل الماضي لا يَدُلُّ عليه ، كما يقال : فُلاَن شَرِبَ الخَمْرَ ، وفلانٌ شَارِبٌ الخَمْرَ ، وفلان نفذ أَمْرُهُ ، وفلان نافذ أمره ، لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ ، ويفهم من اسم الفاعل ذلك إذا ثبت هذا فنقول : وقت نزول الآية كانت الحكاية في قومٍ قرباءِ العهد بالإسلام في أوائل إيجاب التكاليف ، وعن قوم قديمين في الكفر ، مستمرين فيه . فقال في حق المؤمنين : " الذين صدقوا " بصيغة الفعل أي وُجِدَ منهم الصدق وقال في حق الذين كفروا : " الكاذبين " بالصيغة المفهمة للثبات والدوام ، فلهذا قال : { يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] بلفظ اسم الفاعل ، لأن في اليوم المذكور يكون الصدق قد رسخ في المؤمن وهو اليوم الآخر .