Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 4-9)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } " أم " هذه منقطعة ، فتقدر ببل والهمزة عند الجمهور ، والإضراب انتقال لا إبطال . قال ابن عطية : أم معادلة للألف في قوله : " أحسب " وكأنه عزّ وجلّ قرر الفريقين ، قرر المؤمنين أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين أنهم يسبقون نقمات الله . قال أبو حيان : " ليست معادلة " ؛ إذ لو كانت كذلك لكانت متصلة ، ولا جائز أن تكون متصلة لفقد شرطين : أحدهما : أن ما بعدها ليس مفرداً ، ولا ما في قوته . والثاني : أنه لم يكن هنا ما يجاب به من أحد شيئين أو أشياء . وجوز الزمخشري في " حسب " هذه أن تتعدى لاثنين ، وجعل " أن " وما في خبرها سادةً مسدهما ، كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } [ البقرة : 214 ] ، وأن تتعدى لواحدٍ على أنها مضمنة معنى " قدر " ، إلا أن التضمين لا ينقاس قوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } يجوز أن تكون " ساء " بمعنى بئس فتكون " ما " إما موصولة بمعنى الذي ، و " يحكمون " صلتها ، وهي فاعل ساء ، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم . ويجوز أن تكون " ما " تمييزاً ، و " يحكمون " صفتها ، والفاعل مضمر يفسره " ما " والمخصوص أيضاً محذوف . ويجوز أن تكون ساء بمعنى قَبُحَ ، فيجوز في " ما " أن تكون مصدرية ، وبمعنى الذي ، ونكرة موصوفة ، وجيء بـ " يحكمون " دون " حكموا " إما للتنبيه على أن هذا ديدنهم وإما لوقوعه موقع الماضي لأجل الفاصلة . ويجوز أن تكون ما مصدرية وهو قول ابن كَيْسَانَ فعلى هذا يكون التمييز محذوفاً ، والمصدر المؤوّل مخصوص بالذم أي ساء حكماً حكمُهُمْ . وقد تقدم حكم " ما " إذا اتصلت ببئس مشبعاً في البقرة . فصل لما بين حسن التكليف بقوله : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ } بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب ، وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الاستقبال ، ولا يفوت الله شيء . في الحال ولا في المآل . فقوله : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } يعني الشرك " أن يسبقونا " أي يعجزونا ويفوتونا ، فلا نقدرعلى الانتقام منهم { سَاءَ مَا يَحكُمُونَ } بئس ما حكموا حين ظنوا ذلك . قوله : { مَن كَانَ يَرْجُواْ } يجوز أن تكون من شرطية ، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبهها بالشرطية . فإن قيل : المعلق بالشرط عُدِمَ عَدَم الشرط ، فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له ، وهذا باطل ، لأن أجل الله آت لا محالة من غير تقييد بشرط ؟ فالجواب : أن قوله : { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ } ليس بجواب ، بل الجواب محذوف ، أي فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً كما قد صرح به . وقال ابن الخطيب : المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما يعده من الثواب أي من كان يرجو لقاء الله فإن أجره لآتٍ بثواب الله ، أي يُثَابُ على طاعته ، ومن لا يرجو لقاء الله آتياً له على وجه الثواب . فصل قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب . والرجاء بمعنى الخوف . وقال سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب . وقال مقاتل : يعني أن يوم القيامة لكائن والمعنى : أن من يخشى الله ويأمله فليستعد له ، وليعمل لذلك اليوم ، كقوله { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً } [ الكهف : 110 ] الآية كما تقدم . { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } ولم يذكر صفة غيرهما ، لأنه سبق القول في قوله : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا } وسبق القول بقوله : { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } وبقوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } وقوله : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما يدرك بالبصر ، ومنه ما لا يدرك به ، والعلم يشملهما ، فقال : { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي يسمع ما قالوه ، ويعلم من صدق فيما قال ، ومن كذب أو عليم بما يعمل فيثيب ويعاقب . قوله : { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } أي له ثوابه ، والجهاد هو الصبر على الشدة ، ويكون ذلك في الحرب ، وقد يكون على مخالفة النفس . فإن قيل : هذه الآية على أن الجزاء على العمل واجب ، فإن قوله : { فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } يفهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح . فالجواب : هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق . فإن قيل : قوله " فإنما " يقتضي الحصر ، فيكون جهاد المرء لنفسه فقط ولا ينتفع به غيره وليس كذلك ، فإن من جاهد ينتفع به هو ، ومن يريد نفعه حتى إن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعون به . فالجواب : أن ذلك نفع له ، فإن انتفاع الولد انتفاع للأب ، والحصر هنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع ، ويدل عليه قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } أي عن أعمالهم وعبادتهم . قوله : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء والخبر جملة القسم المحذوفة وجوابها أي : والله لنكفرن . ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر على الاشتغال ، أي : وليخلص الذين آمنوا من سيئاتهم . والتكفير : إذهاب السيئة بالحسنة ، والمعنى : لنُذْهِبَنَّ سيئاتهم حتى تصير بمنزلة من لم يعمل . فإن قيل : قوله : فلنكفرن ( عنهم سيئاتهم يستدعي وجود السيئات حتى تكفر ، { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } بأسرها من أين يكون ) لهم سيئة ؟ فالجواب : ما من مكلف إلا وله سيئة ، أما غير الأنبياء فظاهر ، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم ، ولهذا قال تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] . قوله : { أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ } ، قيل : على حذف مضاف ، أي : ثواب الذي فالمراد بأحسن هنا مجرد الوصف . قيل : لئلا يلزم أن يكون جزاؤهم مسكوتاً عنه ، وهذا ليس بشيء ، لأنه من باب الأولى إذا جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى . قال المفسرون : يجزيهم بأحسن أعمالهم وهو الطاعة . وقيل : يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن ، كما قال : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] . قوله : " حُسْناً " فيه أوجه : أحدها : أنه نعت مصدر محذوف أي ( إيصَاءً ) حسناً ، إما على المبالغة جعل نفس الحسن ، وإما على حذف مضاف ( أي : ذا حُسنٍ ) . الثاني : أنه مفعول به ، قال ابن عطية : " وفي ذلك تجوز " ، والأصل ووصينا الإنسان بالحسن في فعله مع والديه ، ونظير ذلك قول الشاعر : @ 4025 - عَجِبْـتُ مِـنْ دَهْمَـاءَ إذْ تَشْكُـونَا وَمِـنْ أَبِـي دَهْمَـاءَ إذْ يُوصينـا خَيْـراً بِهَـا كَأَنَّمَـا خَافُونَـا @@ ومنه قول الحطيئة : @ 4026 - وَصَّيْـتَ مِـنْ بَـرَّةَ قَلْبـاً حَـرَّا بِالْكَـلْـبِ خَيْـراً وبِالحَمَـاةِ شَـرَّا @@ وعلىهذا فيكون الأصل : وصيناه بحسن في بر والديه ، ثم جر " الوالدين " بالهاء فانتصب حسناً وكذلك البيتان . والباء في الآية والبيتين في هذه الحالة للظرفية . الثالث : أن " بوالديه " هو المفعول الثاني ، فنصب " حسناً " بإضمار فعل ، أي يحْسُن حسناً ، فيكون مصدراً مؤكداً كذا قيل . وفيه نظر ، لأَنَّ عامل المؤكد لا يحذف . الرابع : أنه مفعول به على التضمين أي من ألزمناه حسناً . الخامس : أنه على إسقاط الخافض أي " بحُسْنٍ " . وعبر صاحب التحرير عن ذلك بالقطع . السادس : أن ( بعض ) الكوفيين قدره ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسناً . وفيه حذف " أن " وصلتها ، وإبقاء معمولها ، ولا يجوز عند البصريين . السابع : أن التقدير : وصيناه بإيتاء والديه حسناً . وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله ولا يجوز الثامن : أنه منصوب انتصاب " زيداً " في قولك لمن رأيته متهيئاً للضرب " زَيْداً " أي اضرب زيداً ، والتقدير هنا : أَوْلهما حسناً ، أو افعل بهما حسناً . قالهما الزمخشري . وقرأ عيسى والجحدري : " حَسَناً " وهما لغتان ، كالبُخْل والبَخَل . وقد تقدم ذلك في أوائل البقرة . وقرىء : إحساناً ، من قوله تعالى : { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] . فصل معنى حسناً أي برّاً بهما ، وعطفاً عليهما ، والمعنى : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن . نزلت هذه الآية ، والتي في سورة لقمان والأحقاف في سعد بن أبي وقاص ، وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري وأمه حُمْنَةُ بنت أبي سفيان بن أمية من عبد شمس ، لما أسلم ، وكان من السابقين الأولين وكان باراً بأمه ، قالت أمه : ما هذا الدين الذي أَحْدَثْتَ ؟ والله لا آكلُ ولا أشربُ حتى ترجعُ إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ، ويقال : يا قاتل أمِّهِ . ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ( ولم تَسْتَظِلَّ فأصبحت قد جهدت ، ثم مكثت يوماً آخر لم تأكل ولم تشرب ) فجاء " سعد " إليها ، وقال يا أُمَّاهُ : لو كانت مائة نفس ( فخرجت نفساً ) نفساً ما تركت ديني فكُلِي ، وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية ، وأمره الله بالبر بوالديه والإحسان إليهما . واعلم أنه إنما أمر بالإحسان للوالدين لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة ، والله تعالى بسبب له في الحقيقة بالإرادة ، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة ، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله ( معه ) . قوله : { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ } . قال عليه ( الصلاة ) والسلام : " لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في معصية الله " ثم أوعد بالمصير إليه ، فقال : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها كأنه تعالى يقول : لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي ، وعدم علمي بمخالفتكم فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه . قوله : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يجوز فيه الرفع على الابتداء ، والنصب على الاشتغال . وقوله : { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } أي نجعلهم منهم ، وندخلهم في أعدادهم ، كما يقال : الفقيه داخل في العلماء . والمعنى : نجعلهم من جملة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء . وقيل : في مَدْخَل الصالحين وهو الجنة . فإن قيل : ما الفائدة في إعادة { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } ؟ فالجواب : أنه ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولاً ، لبيان حال المهتدي وثانياً ، لبيان حال الهادي لأنه قال أولاً : { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } . وقال ثانياً : { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } والصالحين هم الهداة ، لأنها مرتبة الأنبياء ، ولهذا قال إبراهيم - عليه ( الصلالة و ) السلام : " والحقني بالصَّالِحينَ " .