Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 100-101)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمَّا حذَّر أهْلَ الكتاب عن الإغواء والإضلال ، حذَّرَ الْمُؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ، ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم . رُوِي أن شأسَ بن قيس اليهوديّ كان عظيمَ الكُفْر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحَسَد ، فاتفق أنه مرَّ على نفر من الأوس والخزرج - وهم في مجلسٍ جَمَعَهم يتحدثون ، وكان قد زال ما بينهم من الشحناء والتباغُض ، فغاظه ما رأى من ألْفتهِمْ ، وصلاح ذاتِ بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهليةِ ، فقال : قد اجتمع مَلأ بني قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها - من قرارٍ ، فأمر شابًّا من اليهود - كان معه - فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج ، وكان الظَّفَرُ فيه للأوس على الخَزْرَج - ففعل : فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثَبَ رجلان من الحَيَّيْنِ على الرُّكَب - أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة ، من الأوس وجبار بن صَخْر ، أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددتها الآن جَذَعة ، فغضب الفريقان جميعاً ، وقالا : قد فعلنا ، السلاحَ السلاحَ ، موعدكم الظاهرة - وهي حَرَّة - فخرجوا إليها ، وانضمَّت الأوس والخزرج بعضُها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهليةِ ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم - فيمن معه من المهاجرين - حتى جاءهم فقال : " يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ ، أبدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأنَا بَيْنَ أظْهُرِكم بَعْدَ إذْ أكْرَمَكُمُ اللهُ بالإسْلاَمِ وقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجَاهِلِيَّةِ ، وَألَّفَ بَيْنَكُمْ ، فَتَرْجِعُونَ إلَى مَا كُنْتُمْ كُفَّاراً ؟ اللهَ الله " فعرف القومُ أنها نزغة من شيطان ، وكيدٌ من عدوِّهم ، فألْقَوا السلاحَ من أيديهم ، وبَكَوْا ، وعانق بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، فأنزل الله هذه الآية ، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم . واعلم أن هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها : جميع ما يحاولونه من أنواع الضلالة ، فبيَّن - تعالى - أن المؤمنين إذا قَبِلوا منهم قولَهم أدَّى ذلك - حالاً بعد حال - إلى أن يعودوا كفاراً ، واكلفر يوجب الهلاك في الدُّنْيَا بالعداوة والمحاربة ، وسفك الدماء ، وفي الآخرة بالعذاب الأليم الدائم . قوله : { يَرُدُّوكُم } رَدَّ ، يجوز أن يُضَمَّن معنى : " صَيَّر " فينصب مفعولَيْن . ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] @ 1550 - رَمَى الحَدَثَانُ نِسْوَةَ آل سَعْدٍ بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا @@ ويجوز ألا يتضمن ، فيكون المنصوبُ الثاني حالاً . قوله : { بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } يجوز أن يكون منصوباً بـ " يَرُدُّوكُمْ " ، وأن يتعلق بـ " كَافِرِينَ " ، ويصير المعنى كالمعنى في قوله : { كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } [ آل عمران : 86 ] . قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } " كَيْفَ " كلمة تعجُّب ، وهو على الله - تعالى - محال ، والمراد منه التغليظ والمنع ؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم ، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم - تُزيل الشُّبَه ، وتُقَرِّر الحُجج ، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر ، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه . قال زيد من أرقم : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : " أمَّا بَعْدُ ، أيُّهَا النَّاسِ ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه ، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ : أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ ، فِيهِ الهُدَى والنُّور ، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال : وَاهْل بَيْتِي ، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي " . قوله : { وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ } جملة حالية ، من فاعل : " تَكْفُرُونَ " . وكذلك قوله : { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } أي : كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين ؟ والاعتصام : الامتناع ، يقال : اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً ، أي : هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به . وقيل : الاعتصام : الاستمساك ، واستعصم بكذا ، أي : استمسك به . ومعنى الآية : ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ . وقيل : ومن يؤمن بالله . وقيل : ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن . والعِصام : ما يُشدُّ به القربة ، وبه يسمَّى الأشخاص ، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن ؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار ، والمِعْصَم : موضع العِصْمَة ، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة ؛ تشبيهاً بها ، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً ، وأصل العُصْمة : البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول ، والأعْصَم من الوعول : ما في معاصمها بياضٌ ، وهي أشدُّها عَدْواً . قال : [ الكامل ] @ 1551 - لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا @@ وعصمه الطعام : منع الجوع منه ، تقول العرب : عَصَمَ فلاناً الطعامُ ، أي : منعه من الجوع . وقال أحمد بن يحيى : العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً ، وجابراً . قال : [ الرجز ] @ 1552 - فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا @@ ويسمونه عامراً ، وأنشد : [ الطويل ] @ 1553 - أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ @@ وأبو مالك كنية الجوع . وفي الحديث - في النساء : " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ " وهو الأبيض الرجلين . وقيل : الأبيض الجناحَين . قال صلى الله عليه وسلم : " " المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ " . قيل : يا رسولَ الله ، وما الغراب الأعصم ؟ قال " الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ " " . وفي الحديث : كنا مع عمرو بن العاص ، فدخلنا شِعْباً ، فإذا نحن بغربان ، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين ، فقال عَمرو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ " والمراد منه : التقليل . قوله : " فقد هدي " جواب الشرط ، وجيء في الجواب بـ " قد " دلالةً على التوقُّع ؛ لأن المعتصم متوقع الهداية . والمعنى : ومن يمتنع بدينِ الله ، ويتمسك بدينه ، وطاعتهِ ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح . وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي : يؤمن بالله . فصل احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى ؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى ، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات ، كقوله تعالى : { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ } [ المائدة : 16 ] وهذا اختيار القفال . الثاني : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل ؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم ، ليفعل ذلك . الثالث : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة . الرابع : قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " فقد هدي " أي : فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول : إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ ، كأن الهدى قد حصل ، فهو يخبر عنه حاصِلاً ؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده .