Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 98-99)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه - تعالى - لما أوْرَد الدلائلَ على نبوَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم ، مما ورد في التوراة ، والإنجيل ، عقَّب ذلك بشبهات القوم من إنكار النَّسْخ ، واستقبال الكعبة في الصلاة ، ووجوب حَجِّها ، وأجاب عن هاتين الشُّبْهَتَيْن بقوله { كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } [ آل عمران : 93 ] وبقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } [ آل عمران : 96 ] فلما تَمَّ الاستدلال خاطبهم - بعد ذلك - بالكلام اللَّيِّن ، وقال : { لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } بعد ظهور البينات ؟ الثاني : أنه - تعالى - لما بيَّن فضائلَ الكعبة ووجوبَ الحَجِّ - والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق - قال لهم : { لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } بعد أن علمتم كونها حَقًّا صحيحةً ؟ واعلم : أن المُبْطل قد يكون ضَالاً مضلاًّ فقط ، وقد يكون ضالاً مضلاً ، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً ، فبدأ - تعالى - بالإنكار على أهل الصفة الأولَى - على سبيل الرفق - فقال : { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } ؟ قال الحسن : هم العلماء من أهل الكتاب ، الذين علموا صحة نبوته ؛ لقوله : " وأنتم شهداء " . وقال آخرون : المراد : أهل الكتاب كلهم . فإن قيل : لماذا خَصَّ أهْل الكتاب دون سائر الكفار ؟ فالجواب من وجهين : الأول : أنا بَيَّنَّا أنه - تعالى - أورد الدليلَ عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم أجاب عن شُبْهتهم في ذلك ، فلمَّا تمَّ ذلك خاطبهم ، فقال : " يا أهل الكتاب " . والثاني : أن معرفتهم بآيات الله أقْوَى ؛ لتقدُّم اعترافهم بالتوحيد ، وأصل النبوة ، ولمعرفتهم بما في كُتُبِهم من الشهادة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، والبشارة بنبوته . والمراد بآيات الله : الآيات التي نصبها الله - تعالى - على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد بكُفْرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . فصل قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن الكُفْرَ من قِبَلِهِم - حتى يَصِحْ هذا التوبيخُ ، ولذلك لا يصح توبيخهم على طولهم ، وصِحَّتِهم ، ومَرَضِهم . وأجيبوا بالمعارضة بالعلم والداعي . قوله : { وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } الواو للحال ، والمعنى : لِمَ تكفرون بآيات الله التي دلَّتكم على صحة صدق محمد ، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ، ومجازيكم عليها ؟ ثم لما أنكر [ عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار ] عليهم في إضلالهم لضَعَفَةِ المسلمين ، فقال : { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ } ؟ " لم " : متعلق بالفعل بعده ، و " من آمن " مفعوله والعامة على " تُصِدُّون " - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً . وقرأ الحسن " تُصِدُّونَ " - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى " صَدَّ " اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة : [ الطويل ] @ 1543 - أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ … @@ قال الفراء : يقال : صَدَدتُه ، أصُدُّه ، صَدًّا . وأصْدَدتهُ ، إصْداداً . وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين ، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم . قوله : { تَبْغُونَهَا } يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً ، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال ، وهو أظهر من الأول ؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله : { وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } . { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [ البقرة : 84 ] . فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما ، ثم إذا قُلْنا بأنها حال ، ففي صاحبها احتمالان : أحدهما : أنه فاعل " تَصُدُّونَ " . والثاني : أنه { سَبِيلِ ٱللَّهِ } . وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما . والضمير في { تَبْغُونَهَا } يعود على { سَبِيلِ } فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية ، وقوله : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ } [ يوسف : 108 ] . وقول الشاعر : [ الوافر ] @ 1544 - فَلاَ تَبْعَدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا @@ قوله ( عوجاً ) فيه وجهان : أحدهما : أنه مفعول به ، وذلك أن يُراد بـ " تَبْغُونَ " تطلبون . قال الزجَّاج والطبريّ : تطلبون لها اعوجاجاً . تقول العرب : ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي : اطْلُبه لي ، وأبْغِني كذا - بقطع الألف - أي : أعِنِّي على طلبه . قال ابنُ الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب . وههنا أريد يبغون لها عوجاً ، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها ، كما قالوا وهبتك درهماً ، يريدون وهبت لك ، ومثله : صِدْتُك ظبياً ، أي : صدت لك . قال الشاعر : [ الخفيف ] @ 1545 - فَتَوَلَّى غُلاَمُهُمْ ثُمَّ نَادَى أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا @@ يريد : أصيد لكم ظليماً ؟ ومثله : " جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا " ، والأصل جنيت لك ، فحذف ونصب " . والثاني : أنه حال من فاعل " تَبْغُونََهَا " وذلك أن يُراد بـ " تبغون " معنى تتعدّون ، والبغي : التَّعَدِّي . والمعنى : تبغون عليها ، أو فيها . قال الزجاج : كأنه قال تبغونها ضالين ، والعوج بالكسر ، والعوج بالفتح - المَيْل ، ولكن العرب فرَّقوا بينهما ، فخَصُّوا المكسور بالمعاني ، والمفتوح بالأعيان تقول : في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر ، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح . قال أبو عبيدة : العِوَج - بالكسر . المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ ، وبالفتح في الحائط والجِذْع . وقال أبو إسحاق : الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً ، وبالفتح فيما له شَخْصٌ . وقال صاحب المُجْمَل : بالفتح في كل منتصب كالحائط ، والعِوَج - يعني : بالكسر - ما كان في بساط ، أو دين ، أو أرض ، أو معاش ، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم . وقال الراغب : العِوَجُ : العطف من حال الانتصاب ، يقال : عُجْتُ البعير بزمامه ، وفلان ما يعوج به - أي : يرجع ، والعَوَج - يعني : بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر كالخشب المتصِب ، ونحوه ، و العِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة ، كما يكون في أرض بسيطة عوج ، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة ، وكالدين والمعاش ، وهذا قريب من قول ابن فارس ؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه . وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى : { لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 107 ] - سؤالاً ، حاصله : أنه كيف قيل : عوج - بالكسر - في الأعيان ، وإنما يقال في المعاني ؟ وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله . والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم ، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد ، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر : [ الوافر ] @ 1546 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ @@ وقول امرئ القيس : [ الكامل ] @ 1547 - عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ @@ أي : ولم تميلوا ، ومِيلاَ . وأما قولهم : ما يَعوج زيد بالدواء - أي : ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر . والعاجُ : العَظْم ، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان : " اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج " . قال القتيبي : العاجُ الذَّبْل ؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة : [ الطويل ] @ 1548 - فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْ تَحْلَ عَاجَةً وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ @@ قال الأصْمَعِيّ : العاجة : الذبلة ، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً . وقوله : كَخَاصِي العير ، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ ، فيقال : جاء كخاصي العير . والعير : الحمار ، يعنون جاء مستحياً . ويقال : عاج بالمكان ، وعوَّج به - أي : أقام وقَطَن ، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام - : " ها أنتم عائجون " أي مقيمون . وأنشدوا للفرزدق : [ الوافر ] @ 1549 - هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ ؟ @@ كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد بـ " عائجون " في البيت : سائلون ومُلْتفتون . وفي الحديث : " ثم عاج رأسه إليها " أي : التفت إليها . والرجل الأعوج : السيّئ الخُلُق ، وهو بَيِّن العَوَج . والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب . والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً ، ويقال : فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ ، وهو مَدْح ويقال : الحنبة : اعوجاج . قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } حال ، إما من فاعل " تَصُدُّونَ " ، وإما من فاعل " تَبْغُونهَا " ، وإما مستأنف وليس بظاهر و " شهداء " جمع شهيد أو شاهد كما تقدم . فصل ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغَ والتحريفَ لسبيله بالشُّبَهِ التي يُوردونها على الضَّعَفَة كقولهم : النسخ يدل على البداء ، وقولهم : إن في التوراة : أن شريعةَ موسى باقيةٌ إلى الأبد . وقيل كانوا يَدَّعون أنهم على دينِ الله وسبيله ، وهذا على أنَّ " عِوَجاً " في موضع الحال والمعنى : يبغونها ضَالينَ . قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } قال ابن عباس : أي : شهداء أن في التوراة : أن دينَ الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام . وقيل : وأنتم تشهدون ظهورَ المعجزاتِ على نبوته صلى الله عليه وسلم . وقيل : وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ . وقيل : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } عُدول بين أهل دينكم ، يثقون بأقوالكم ، ويُعوّلون على شهادتكم في عظائم المور ومَنْ كان كذلك ، فكيف يليق به الإصرار على الباطلِ والكذبِ ، والضلالِ والإضلالِ ؟ ثم قال : { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } والمراد منه : التهديد ، وختم الآية الأولى بقوله : { وَٱللَّهُ شَهِيدٌ } ؛ لأنهم كانوا يُظهرون إلقاء الشُّبَه في قلوب المسلمين ، ويحتالون في ذلك بوجوه الحِيَل - فلا جرم - قال فيما أظهره : { وَٱللَّهُ شَهِيدٌ } ، وختم هذه الآيةَ بقوله : { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير . وكرر في الآيتين قوله : { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَـبِ } ؛ لأن المقصودَ التوبيخُ على ألْطَف الوجوه ، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صَرْفهم عن طريقتهم .