Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 106-107)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في ناصب " يَوْمَ " أوجه : أحدها : أنه الاستقرار الذي تضمنه " لَهُمْ " والتقدير : وأولئك استقر لهم عذاب يوم تبيضُّ وجوه . وقيل : إن العامل فيه مضمر ، تدل عليه الجملة السابقة ، والتقدير : يُعَذَّبُونَ يوم تبيض وجوه . وقيل : إن العاملَ فيه " عَظِيمٌ " وضُعِّفَ هذا بأنه يلزم تقييد عِظَمِهِ بهذا اليوم . وهذا التضعيف ضعيف ؛ لأنه إذا عظم في هذا اليوم ففي غيره أوْلَى . قال شهابُ الدين : " وهذا غير لازم " ، قال : " وأيضاً فإنه مسكوت عنه فيما عدا هذا اليوم " . وقيل : إن العامل " عَذَابٌ " . وهذا ممتنع ؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه . وقيل : إنه منصوب بإضمار " اذكر " . وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو نُهَيك ، وأبو رُزَيْن العقيليّ : " تِبْيَضُّ " و " تِسْوَدُّ " - بكسر التاء - وهي لغة تميم . وقرأ الحسن والزهري وابن مُحَيْصِن ، وأبُو الجَوْزَاءِ : تِبياضّ وتسوادّ - بألف فيهما - وهي أبلغ ؛ فإن البياض أدلُّ على اتصاف الشيء بالبياض من ابيضَّ ، ويجوز كسر حرف المضارعة - أيضاً - مع الألف ، إلا أنه لم ينقل قراءةً لأحدٍ . فصل نظير هذه الآية قوله تعالى : { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } [ الزمر : 60 ] ، وقوله : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] ، وقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 25 ] ، وإذا عرفت هذا ، ففي هذا البياض والسواد وجهان : الأول : قال أبو مسلم : إن البياض عبارة عن الاستبشار ، و السواد عبارة عن الغم ، وهذا مجاز مستعمل قال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } [ النحل : 58 ] . ويقال : لفلان عندي يَدٌ بيضاء . وقال بعضهم في الشيب : [ الخفيف ] @ 1563 - يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُون فَلَعَمْرِي لأخْفِيَنَّكَ جَهْدِي عَنْ عَيَانِي ، وعَنْ عَيَانِ الْعُيُونِ بِسَوَادٍ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي وَسَوَادٌ لِوَجْهِكَ المَلْعُونِ @@ وتقول العرب - لمن نال بغيته ، وفاز بمطلوبه - : ابيضَّ وجهه ، ومعناه : الاستبشار والتهلل ، ويقال - لمن وصل إليه مكروه - : ارْبَدَّ وجهه ، واغبرَّ لونُه ، وتغيرت صورته ، فعلى هذا معنى الآية : إن المؤمن مستبشر بحسناته ، وبنعيم الله ، والكافر على ضد ذلك . الثاني : أن البياض والسواد يحصلان حقيقة ؛ لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يصرفه ، فوجب المصير إليه ، ولأبي مسلم أن يقول : بل معنا دليل يصرفه ، وهو قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 38 - 41 ] ، فجعل الغَبَرةَ والقَتَرَة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً له . فصل احتجوا بهذه الآية على أن المكلَّف إما مؤمن ، وإما كافر ، وليس - هنا - قسم ثالث كما قاله المعتزلة - فلو كان ثَمَّ ثالث لذكره ، قالوا : ويؤيده قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } [ عبس : 38 - 42 ] . وأجاب القاضي : بأن ترك القسم الثالث لا يدل على عدمه ؛ لأنه تعالى قال : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } ، فذكرهما منكرين ، وذلك لا يفيد العموم ، وأيضاً فالمذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد إيمانهم ، ومعلوم أن الكافر الأصليَّ من أهل النار ، مع أنه لم يدخل في هذا التقسيم ، فكذلك الفساق . وأجيب بوجهين : الأول : أن المراد منه كل مَنْ أسلم وقت استخراج الذريَّة من صُلْب آدم ، رواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل الكل فيه . الثاني : أنه قال : { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ، فجعل موجب العذاب هو الكفر ، سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصليًّا . قال الزمخشري : هم المنافقون ، آمنوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم . وقال عكرمة : هم أهل الكتاب ، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبْعَث ، فلما بُعِثَ كفروا به . قوله : { أكَفَرْتُمْ } هذه الجملة في مَحَلِّ نصب بقول مُضْمَرٍ ، وذلك القول المضمر - مع فاء مضمرة - أيضاً - هو جواب " أما " ، وحذف الفاء مع القول مطرد ، وذلك أن القول يُضْمَر كثيراً ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 - 24 ] . وقوله : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ } [ الزمر : 3 ] ، وقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } [ البقرة : 127 ] ، وأما حذفها دون إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورة . كقوله : [ الطويل ] @ 1564 - فأمَّا الْقِتَالُ لا قَتالَ لَديْكُمُ وَلِكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ الْمَوَاكِبِ @@ أي : فلا قتال . وقال صاحب " أسرار التنزيل " : إنّ النحاة اعترض عليهم - في قولهم : لما حذف يقال : حُذِفت الفاء ؛ بقوله تعالى : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } [ الجاثية : 31 ] ، فحذف يقال ، ولم يحذف الفاء ، فلما بطل هذا تعيَّن أن يكون الجواب في قوله : { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ، فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : { أَكَفَرْتُم } ومن نظم العرب - إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له - أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ، ثم يجعلون له جواباً واحداً ، كما في قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] ، فقوله : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } جواب للشرطين معاً ، وليس { أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي } جواب " إما " بل الفاء عاطفة على مقدَّر ، والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي ؟ قال أبو حيان : وهو كلام أديب لا كلام نحويّ ، أما قوله : قد اعترض على النحاة ، فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ؛ لأنه ما من نحويٍّ إلا خرَّج الآيةَ على إضمار : فيُقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فَحْوَى الخطابِ ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدَّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه . وأما ما اعترض به من قوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي } [ الجاثية : 31 ] وأنهم قدروه : فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير - فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في " أفَلَمْ " ليست فاء " فيقال " التي هي جواب " أما " - حتى يقال : حذف " يقال " وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب " أما " و " يقال " بعدها - محذوف ، وفاء " أفلم " يحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون زائدة . وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر : [ الطويل ] @ 1565 - يَمُوتُ أناسٌ أوْ يَشِيبُ فَتَاهُمُ وَيَحْدُثُ نَاسٌ ، والصَّغِيرُ فِيَكْبُرُ @@ أي : صغير يكبر ، وقول الآخر : [ الكامل ] @ 1566 - لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ @@ أي : تركت ، وقول زُهير : [ الطويل ] @ 1567 - أرَانِي إذَا ما بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا @@ يريد ثم إذا . وقال الأخفش : " وزعموا أنهم يقولون : أخوك فوجد ، يريدون : أخوك وجد " . والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، والتقدير : فيقال لهم ما يسوؤهم ، " أفلم " تكن آياتي ، ثم اعتني بحرف الاستفهام ، فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تتقدم على الفاء التي للتعقيب في قوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [ يوسف : 109 ] وهذا على رَأي من يثبت أن الفاء تفسيرية ، نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه … إلى آخر أفعال الوضوء ، فالفاء - هنا - ليت مرتِّبة ، وإنما هي مفسِّرة للوضوء ، كذلك تكون في { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } مفسرة للقول الذي يسوؤهم . وقوله : فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : " تذوقوا " ، أي : تعيَّن بطلان حذف ما قدَّره النحويون ، من قوله : " فيقال لهم " ؛ لوجود هذه الفاء في " أفلم تكن " ، وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل ؛ وأنه سواء في الآيتين ، وإذا كان كذلك فجواب : " أما " هو فيقال - في الموضعين - ومعنى الكلام عليه ، وأما تقديره : أأهملتكم فلم تكن آياتي تتلى عليكم ؟ فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشريَّ يقدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فِعْلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو ، و " ثم " إذا دخلت عليها الهمزة - أصلهن التقديم على الهمزة ، لكن اعتني بالاستفهام ، فقدم على حرف العطف - كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين - وقد رجع الزمخشريّ إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قول الأول مذكور في النحو وقد تقدم - في هذا الكتاب - حكاية مذهب الجماعة في ذلك ، وعلى تقدير قول هذا الرجل - أأهملتكم فلم تكن آياتي ، لا بدّ من إضمار القول ، وتقديره : فيقال : أاهملتكم ؛ لأن هذا المقدَّر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب " أما " ، وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة . وقول هذا الرجل : فوقع ذلك جواباً له ولقوله : " أكفرتم " يعني : أن " فذوقوا العذاب " جواب لـ " أما " ولقوله : " أكفرتم " والاستفهام - هنا - لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم . وأما قول هذا الرجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يُجْعَل لكُلٍّ جوابٌ ، إن لا يكن ظاهراً فمقدَّر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً . وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [ البقرة : 38 ] وزعمه أن قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] . جواب للشرطين فقول رُوي عن الكسائي , وزعم بعضُ الناس أن جواب الشرط الأول محذوف , تقديره : فاتبعُوه , والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه جوال الشرط الأول وتقدمت هذه الأقوال عند قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [ البقرة : 38 ] . انتهى . والهمزة في " أكَفَرْتُمْ " للإنكار عليهم ، والتوبيخ لهم ، والتعجُّب من حالهم . وفي قوله : " أكَفَرْتُمْ " نوع من الالتفات ، وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوين الخطاب ، وذلك أن قوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ } في حكم الغيبة ، وقوله - بعد ذلك " أكَفَرْتُمْ " خطاب مواجهة . قوله : { فَذُوقُوا } من باب الاستعارة ، جعل العذاب شيئاً يُدْرَك بحاسَّةِ الأكْل ، والذوق ؛ تصويراً له بصورة ما يُذَاق . وقوله : { بِمَا كُنْتُمْ } الباء سببية ، و " ما " مصدرية ، ولا تكون بمعنى : الذي ؛ لاحتياجها إلى العائد ، وتقديره غير جائز ، لعدم الشروط المجوِّزة لحَذْفِه . فإن قيل : إنه - تعالى - قدَّم الذين ابيضَّت وجوهُهُمْ - في التقسيم - على الذين اسودَّت وجوهُهُم وكان حق الترتيب أن يقدِّمَهم في البيان . فالجواب : أن الواو للجمع لا للترتيب ، وأيضاً فالمقصود إيصال الرحمة ، لا ابتداء العذاب ، فابتدأ بذكر أهل الثواب ، لأنهم أشرف ، ثم ختم بذكرهم ، تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب ، كما قال : " سبقت رحمتي غضبي " وأيضاً فالفصحاء والشعراء قالوا : يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر - وذكر رحمة الله تعالى كذلك - فلا جرم ابتدأ بذكر أهل الثواب ، وختم بذكرهم . قوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . قال ابنُ عباس : هي الجنة . قال المحققون : هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل ، والترك سواء ، يمتنع منه الفعل ، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة ، لم تحصل منه الطاعة ، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد ، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة ؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته ، وبكرمه ، لا باستحقاقنا . قرأ أبو الجزاء ، وابنُ يَعْمُرَ : اسْوَادَّتْ ، وابياضَّتْ - بألف - وقد تقدمت قراءتهما : تبياض ، وتسوادُّ ، وهذا قياسها ، وأصْل " افْعَلَّ " هذا أن يكون دالاً على عَيْبٍ حِسِّيٍّ - كـ " اعورَّ واسود واحْمَرَّ " - وأن لا يكون من مضعف كأجَمَّ ، ولا معتل اللام كألْمَى ، وأن يكون للمطاوعة ، وندر نحو انقضَّ الحائط ، وابْهَارَّ الليل ، واشعارَّ الرجل - تفرَّق شَعْرُه - إذْ لا دلالةَ فيه على عَيْبٍ ، ولا لون ، وندر - أيضاً - ارْعَوَى ، فإنه معتل اللام ، مطاوع لرعوته - بمعنى ، كففته - وليس دالاًّ على عيب ، ولا لون ، وأما دخول الألف في " افْعَلَّ " هذا - فدالٌّ على عُرُوضِ ذلك المعنى ، وعدمها دالٌّ على ثبوته واستقراره ، فإذا قلتَ : اسوادَّ وجْهُه ، دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عُروض فيه ، وإذا قلت : اسوادَّ ، دل على حدوثه ، هذا هو الغالب ، وقد يُعْكَس ، قال تعالى : { مُدْهَامَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] - فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين - وقال : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } [ الكهف : 17 ] القصد به العروض لازورار الشمس ، لا الثبوت والاستقرار - كذا قيل - وفيه نظر ؛ لأن المقصود وَصْف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصَّة . فصل قال بعض المفسرين : بياض الوجوه وسوادها ، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث ، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة ، ووجوه الكافرين مسودة . وقيل : عند الميزان ، إذا رجحت حسناته ابْيَضَّ وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسوَدَّ وجهه . قيل : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذ قرأ المؤمن كتابه ، فرأى حسناته استبشر ، ابيضَّ وجْهُه ، وإذا قرأ الكافر كتابَه ، فرأى سيئاته اسوَدَّ وجهه . وقيل : إن ذلك عند قوله تعالى : { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] . قيل : يُؤمَرُ كلُّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهَوا إليه حزنوا واسودَّتْ وجوهُهُمْ . قوله : { فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ } فيها وجهان : أحدهما : أن الجارَّ متعلق بـ " خالِدُونَ " ، و " فِيهَا " تأكيد لفظي للحرف ، و التقدير : فهم خالدون في رحمة الله فيها . وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً ، إلا بإعادة ما دخل عليه ، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ . كقوله : [ الرجز ] @ 1568 - حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ @@ كذا ينشدون هذا البيت . وأصرح منه في الباب - قول الشاعر : [ الوافر ] @ 1569 - فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ @@ ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما . كقوله : [ الطويل ] @ 1570 - فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا @@ للهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة ، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب ، مثل : نَعَمْ نَعَمْ ، وبلى بلى ، ولا لا . والثاني : أن قوله : { فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ } : خبر لمبتدأ مُضْمَر ، والجملة - بأسْرها - جواب : " أما " والتقدير : فهم مستقرون في رحمة الله ، وتكون الجملة - بعده - من قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود ، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب . قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : كيف موقع قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بعد قوله : { فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ } ؟ قلت : موقع الاستئناف ، كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظنعون عنها ، ولا يموتون . فإن قيل : الكُفَّار مخلَّدون في النار ، كما أن المؤمنين مخلَّدون في الجنة ، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين ؟ فالجواب : أن ذلك يُشْعِر بأنَّ جانبَ الرحمةِ أغْلَب ؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة ، وختم بهم ، لمَّا ذكر العذابَ لم يُضِفْه إلى نفسه ، بل قال : { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } ، وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ } ، ولما ذكر العذاب ما نصَّ على الخلود ، ونصَّ عليه في جانب الرحمة ، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ، فقال : { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ولما ذكر الثواب علَّلَه برحمته ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ } ثم قال - في آخر الآية - : { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] ، وكل ذلك يُشْعِر بأن جانبَ الرحمة مُغَلَّب .