Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 111-112)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمَّا رغَّب المسلمين في تَرْك الالتفات إلى أقوال الكُفَّار وأفعالهم بقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [ آل عمران : 110 ] ، رغَّبهم - أيضاً - من وَجْه آخر ، وهو أنه لا قُدْرَةَ لهم على إضرار المسلمين ، إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ، ولو أنهم قاتلوا المسلمين لانهزمت الكفار ، فلذلك لا يلتفت إلى أقوالهم وأفعالهم . قال مقاتل : إن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم - عبد الله بن سلام وأصحابه - فآذَوْهم ، فنزلت هذه الآية . قوله : { إِلاَّ أَذًى } فيه وجهان : أحدهما : أنه متصل ، وهو استثناء مفرَّغ من المصدر العام ، كأنه قيل : لن يضروكم ضرراً ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به - من كلمة سوء ونحوها - إمَّا بالطعن في محمد وعيسى - عليهما السلام - وَإمَّا بإظهار كلمة الكفر - كقولهم : عيسى ابنُ الله ، وعُزَيْر ابن الله ، وإن الله ثالث ثلاثة ، وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل ، وإما بتخويف ضعفةِ المسلمين . الثاني : أنه منقطع ، أي : لن يضروكم بقتال وغَلَبَة ، لكن بكلمة أذًى ونحوها . قال بعض العلماء : وهذا بعيد ، لأن الوجوه المذكورة توجب وقوع الغَمِّ في قلوب المسلمين ، والغم ضرر . فالتقدير : لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى ، فهو استثناء صحيح ، والمعنى : لا يضروكم إلا ضَرَراً يَسِيراً . قوله : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ } هذا إخْبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لانهزموا ، وخُذلوا ، { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } أي : إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ، ولا قوة - ألبتة - ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ } [ الحشر : 12 ] ، وقوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } [ آل عمران : 12 ] ، وقوله : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 44 - 45 ] ، وكل ذلك وَعْد بالفتح ، والنصر ، والظفر ، وهذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة . منها : أن المؤمنين آمنون من ضررهم . ومنها : أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا . ومنها : أنه لا يحصل لهم شوكة بعد الانهزام . وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها ، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا ، وما أقدموا على محاربة ، وطلب رئاسة إلا خُذِلوا ، وكل ذلك إخبار عن الغيب ، فيكون معجزاً . فإن قيل : هَبْ أن اليهودَ كذلك ، لكن النصارى ليسوا كذلك ، وهذا يقدح في صحة هذه الآيات . فالجواب : أنها مخصوصة باليهود ، لما رُوِيَ في سبب النزول . وقوله : { ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ } كلام مستأنف . فإن قيل : لِمَ كان قوله : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } مستأنفاً ، ولم يُجْزَم ، عطفاً على جواب الشرط ؟ فالجواب : أنه لو جُزِم لتغيَّر المعنى ؛ لأن الله - تعالى - أخبرهم بعدم نُصْرَتهم - مطلقاً - فلو عطفناه على جواب الشرط لزم تقييده بمقاتلتهم لنا ، بينما هم غير منصورين مطلقاً - قاتلوا ، أو لم يقاتلوا . وزعم بعضهم أن المعطوف على جواب الشرط بـ " ثم " لا يجوز جزمه ألبتة ، قال : لأن المعطوف على الجواب جواب ، وجواب الشرط يقع بعده وعقيبه ، و " ثم " يقتضي التراخي ، فكيف يتصور وقوعه عقيب الشرط ؟ فلذلك لم يُجْزَم مع " ثم " . وهذا فاسد جدًّا ؛ لقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، فـ " لا يكونوا " مجزوم نسقاً على " يستبدل " الواقع جواباً للشرط ، والعاطف " ثُمَّ " . و " الأدبار " مفعول ثان لِـ " يُوَلُّوكُمْ " ؛ لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعولٍ آخَرَ . فإن قيل : ما الذي عطف عليه قوله : { لاَ يُنصَرُونَ } ؟ فالجواب : هو جملة الشرط والجزاء ، كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا يُنصرون . وإنما ذكر لفظ " ثُمَّ " ، لإفادة معنى التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار . قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } يعني : أن الذلة جُعِلَتْ ملصَقَة بهم ، كالشيء الذي يُضرب على الشيء فيلصق به ، ومنه قولهم : ما هذا عليَّ بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة . والذلة : هي الذل ، وفي المراد بها أقوال . فقيل : إنها الجزية ؛ وذلك ؛ لأن ضَرْب الجزية عليهم يوجب الذلة والصَّغَار . وقيل : أن يُحارَبُوا ، ويقْتَلوا ، وتقسَّم أموالُهم ، وتُسْبَى ذَراريهم ، وتُملك أراضيهم - كقوله : { وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [ البقرة : 191 ] ، ثم قال تعالى : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ ٱللَّهِ } والمراد : إلاَّ بعهد من الله ، وعِصْمة ، وذمام من الله ومن المؤمنين ؛ لأن عند ذلك تزول هذه الأحكام . وقيل : إن المراد بها أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً ، بل هم مُسْتَخْفُون في جميع البلاد ، ذليلون ، مهينون . قوله : { أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } ، " أيْنَمَا " اسم شرط ، وهي ظرف مكان ، و " ما " مزيدة فيها ، فـ " ثُقِفُوا " في محل جزم بها ، وجواب الشرط إما محذوف - أي : أينما ثُقِفُوا غلبوا وذُلّوا ، دلَّ عليه قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } ، وإما نفس " ضُرِبَتْ " ، عند مَنْ يُجيز تقديم جواب الشرط عليه ، فـ { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } لا محل له - على الأول ، ومحله جزم على الثاني . قوله : { إلاَّ بِحَبْلٍ } هذا الجار في محل نَصْب على الحال ، وهو استثناء مفرَّغ من الأحوال العامة . قال الزمخشري : " وهو استثناء من أعَمِّ عامّة الأحوال ، والمعنى : ضُرِبَتْ عليهم الذلة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله ، وحبل الناس ، فهو استثناء متصل " . قال الزجّاج والفرَّاء : هو استثناء منقطع ، فقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار . كقول حميد بن ثور الهلالي : [ الطويل ] @ 1574 - رَأتْنِي بِحَبْلَيْهَا ، فَصَدَّتْ مَخَافَةً وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ ، فَرُوقُ @@ أراد : أقبلت بحبليها ، فحذف الفعل ؛ للدلالة عليه . ونظَّره ابنُ عطية بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] قال : " لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنَّما في الكلام محذوف ، يدركه فَهْمُ السامع الناظر في الأمر ، وتقديره : - في أمتنا - فلا نجاة من الموت إلا بحبل " . قال أبو حيان : " وعلى ما قدره لا يكون استثناءً منقطعاً ؛ لأنه مستثنًى من جملة مقدَّرة ، وهي : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير ، فلا يكون استثناء المنقطع - كما قرره النحاة - على قسمين : منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه لا يمكن فيه ذلك - ومنه هذه الآية - على تقدير الانقطاع - إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحَبْل من الناس يُنَجيهم من القتل ، والأسر ، وسَبي الذراري ، واستئصال أموالهم ؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى - في سورة البقرة - : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 61 ] ، فلم يستثنِ هناك " . قال محمد بن جرير الطبري : " قد ضُرِبَت الذلة على اليهود ، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا ، ولا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة ، فقوله : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ ٱللَّهِ } تقديره : لكن يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس " . قال ابن الخطيب : " وهذا ضعيف ؛ لأن حَمْلَ لفظ " إلاَّ " على " لكن " خلاف الظاهر ، وأيضاً : إذا حملنا الكلام على أن المراد : لكن قد يعتصمون بحبل من الله ، وحبل من الناس ، لم يتم هذا القدر إلا بإضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه ، والإضمار خلاف الأصل ، فلا يُصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة ، فإذا كان لا ضرورةَ - هاهنا - إلى ذلك ، كان المصير إليه غير جائز ، بل هاهنا وجه آخر ، وهو أن تُحْمَل الذِّلَّةُ على كل هذه الأشياء - أعني : القتل ، والأسْر ، وسَبْي الذراري ، وأخذ المال ، وإلحاق الصغار ، والمهانة ، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام ، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام ، وهو أخذ القليل من أموالهم - المُسَمَّى بالجزية - وبقاء المهانة والصغار فيهم " . وقال بعضهم الباء - في قوله : " بحبل " - بمعنى : " مع " ، كقولك : اخرج بنا نفعل كذا - أي : معنا ، والتقدير : إلا مع حبل من الله . فصل تقدم الكلام في أن المراد بالحبل : العهد . فإن قيل : إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس ، وذلك يقتضي المغايرة . فالجواب : قال بعضهم : حبل الله هو الإسلام ، وحبل الناس هو العهد والذمة ، وهذا بعيد ؛ لأنه لو كان المراد ذلك ، لكان ينبغي أن يقال : أو حبل من الناس . وقال آخرون : المراد بكلا الحبلين : العهد والذمة والأمان ، وإنما ذكر - تعالى - الحَبْلَيْن ؛ لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين ، هو الأمان المأخوذ بإذن الله تعالى . قال ابن الخطيب : وهذا عندي - أيضاً - ضعيف ، والذي عندي فيه أن الأمان للذميّ قسمان : أحدهما : الذي نصَّ الله عليه ، وهو أخْذ الجزية . الثاني : الذي فُوض إلى رَأي الإمام ، فيزيد فيه تارة ، وينقص بحسب الاجتهاد ، فالأول : هو المُسَمَّى بحبل الله ، والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين . قوله : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } تقدم أن معناه : مَكَثُوا ، ولبثوا ، وداموا في غضب الله ، مأخوذ من البوء - وهو المكان ومنه : تبوأ فلان منزل كذا - ومنه قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ } [ الحشر : 9 ] . قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } . قال الحسن ، وأكثر المفسرين : المسكنة : الجزية ؛ لأنه لم يستثنها ، فدلَّ ذلك على بقائها عليهم ، والباقي عليهم ليس إلا الجزية . وقال آخرون : المسكنة : هي أن اليهودي يُظهر من نفسه الفقر ، وإن كان موسراً . وقال آخرون : هذا إخبار من الله بأنه جعل أموال اليهود رزقاً للمسلمين ، فيصيروا مساكين . قوله : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } بيَّن العلة في إلصاق هذه الأمور المكروهة بهم ، وتقدم الكلام على مثل ذلك في سورة البقرة . فإن قيل : فما الحكمة في قوله : { ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ } ، ولا يجوز أنْ يكونَ هذا التكرير للتأكيد ؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقْوَى من المؤكد - والعصيان أقل حالاً من الكفر - فلا يُؤكَّد الكفر بالعصيان ؟ فالجواب من وجهين : الأول : أن علة الذلة ، والغضب ، والمسكنة ، هي : الكُفر ، وقتل الأنبياء ، وعلة الكُفْر وقتل الأنبياء هي : المعصية ؛ لأنهم لما توغَّلوا في المعاصي والذنوب ، وتزايدت ظلمات المعاصي - حالاً فحالاً ، ضعف نور الإيمان حالاً فحالاً - إلى أن بطل نور الإيمان ، وحصلت ظلمة الكُفْر ، وإليه أشار بقوله : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] ، فقوله : { ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ } إشارة إلى العلة . ولهذا المعنى قال الإمام أحمد - وقد سُئل عن تارك السنن ، هل تُقْبَل شهادته ؟ - قال : ذلك رجل سوء ؛ لأنه إذا وقع في ترك السنن أدَّى ذلك إلى تَرْك الفرائض ، وإذ وقع في تَرْك الفرائض ، وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكُفْر . الثاني : أن يُحْمَل قوله : { كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } على أسلافهم ، وقوله : { ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ } في الحاضرين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يلزم التكرار ، فكأنه - تعالى - بيَّن عقوبة مَنْ تقدَّم ، ثم بيَّن أن المتأخر - لما تبع من تقدم - صار لأجل معصيته ، وعداوته متسوجِباً لمثل عقوبتهم ، حتى يظهر للخلق ما أنزل الله بالفريقين .