Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 113-115)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الظاهر في هذه أنّ الوقف على " سَوَاءٌ " تام ؛ فإن الواو اسم " ليس " و " سواء " خبر ، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم . والمعنى : أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر ؛ لقوله : { مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ آل عمران : 110 ] ، فانتفى استواؤهم . و " سواء " - في الأصل - مصدر ، ولذلك وُحِّدَ ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة . قال أبو عبيدة : الواو في " لَيْسُوا " علامة جمع ، وليست ضميراً ، واسم " ليس " - على هذا - " أمة " و " قَائِمَةٌ " صفتها ، وكذا " يَتْلُونَ " ، وهذا على لغة " أكلوني البراغيث " . كقول الآخر : [ المتقارب ] @ 1575 - يَلُومَونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِيـ ـلِ أهْلِي ، فَكُلُّهُمْ بعَذْلِ أَلُومُ @@ قالوا : وهي لغة ضعيفة ، ونازع السُّهَيْلِيّ النحويين في كونها ضعيفةً ، ونسبها بعضُهم إلى شنوءة ، وكثيراً ما جاء عليها الحديث ، وفي القرآن مثلُها . وسيأتي تحقيقها في المائدة . قال ابنُ عطية : وما قاله أبو أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ ، ولم يبيِّن وَجْهَ الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم " ليس " هو { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } فقط ، وأنه لا محذوفَ ثَمَّ ؛ إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قُدِّر - ثَمَّ - محذوف لم يكن قول أبي عبيدةَ خطأً مردوداً إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة وقد تقدم ما فيها . والتقدير الذي يصح به المعنى : أي : ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِرَ ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ . وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على " سَوَاءً " فجعل الواو اسم " ليس " ، و " سَوَاءً " خبرها - كما قال الجمهور - و " أمَّةٌ " مرتفعة بـ " سَوَاءً " ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ . وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على " سَوَاءً " فجعل الواو اسم " ليس " ، و " سَوَاءً " خبرها - كما قال الجمهور - و " أمَّةٌ " مرتفعة بـ " سَوَاءً " ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فحُذِفَت هذه الجملةُ المعادلة ؛ لدلالة القسم الأول عليها ؛ فإن مذهب العرب إذا ذُكِرَ أحد الضدين ، أغْنَى عن ذِكر الضِّدِّ الآخَر . قال أبو ذُؤيب : [ الطويل ] @ 1576 - دَعَانِي إلَيْهَا الْقَلْبُ إنِّي لأمْرِهَا سَمِيعٌ ، فَمَا أدْرِي أرُشْدٌ طِلاَبُها ؟ @@ والتقدير : أم غي ، فحذف الغَيّ ؛ لدلالة ضِدِّه عليه . ومثله قول الآخر : [ الطويل ] @ 1577 - أرَاكَ ، فَمَا أدْرِي أهَمٌّ هَمَمْتُهُ وَذُو الْهَمِّ قِدْماً خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ @@ أي أهم هممته أم غيره ؟ فحذف ؛ للدلالة ، وهو كثير . قال الفراء : " لأن المساواة تقتضي شيئين " ، كقوله : { سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ } [ الحج : 25 ] ، وقوله : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [ الجاثية : 21 ] . وقد ضُعِّفَ قَوْلُ الفراء من حيث الحذف ، ومن حيث وَضع الظاهر مَوْضِعَ المُضْمَر ؛ إذ الأصل : منهم أمة قائمة ، فوضع أهل الكتاب موضع المضمر . والوجه أن يكون { لَيْسُواْ سَوَآءً } جملة تامة ، وقوله : { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ } جملة برأسها ، وقوله : { يَتْلُونَ } جملة أخرى ، مبينة لعدم استوائهم - كما جاءت الجملة من قوله : { تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ آل عمران : 110 ] مبيِّنة للخيريَّةِ . ويجوز أن يكون { يَتْلُونَ } في محل رفع ، صفة لـ " أمَّةٌ " . ويجوز أن يكون حالاً من " أمَّةٌ " ؛ لتخصُّصِها بالنعت . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " قَائِمة " ، وعلى كونها حالاً من " أمَّةٌ " يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار . ويجوز أن يكون حالاً من الضميرِ المستكن في هذا الجار ، لوقوعه خبراً لـ " أمَّة " . فصل قال جمهور العلماء : المراد بأهل الكتاب : مَنْ آمَنَ بموسى وعيسى عليهما السلام . اليهود : ما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا شِرارُنا ، ولولا ذلك ما تركوا دينَ آبائِهم ، لقد كفروا ، وخسروا ، فأنزل الله هذه الآية ؛ لبيان فضلهم . وقيل : لما وَصَفَ أهلَ الكتاب - في الآيات المتقدمةِ - بالصفات المذمومة ، ذَكَر - في هذه الآية - أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك ، بل فيهم مَنْ يكون موصوفاً بالصفات المحمودة المرضية . قال الثوريّ : بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يُصلون بين المغرب والعشاء . وعن عطاء ، أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجرانَ ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثلاثة من الروم ، كانوا على دين عيسى ، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكان من الأنصار فيهم عدة - قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، ومحمد بن مسلمة ، وأبو قيس صِرْمة بن أنس ، كانوا موحِّدين ، يغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية ، حتى بعث الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم فصدَّقوه ، ونصروه . وقال آخرون : المراد بأهل الكتاب : كل من أوتي الكتابَ من أهل الأدْيان - والمسلمون من جُمْلتهم - قال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] ، ويؤيِّد هذا ما رَوَى ابنُ مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : " أما إنه ليس أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأدْيَانِ يَذْكُرُ اللهَ - تَعَالَى - هَذِهِ السَّاعةِ غَيْركُمْ " وقرأ هذه الآية . قال القفال : ولا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرُهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا . ولا يبعد - أيضاً - أن يقال : المراد : كلّ مَنْ آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسمَّاهم الله بأهل الكتاب ، كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة ، والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا ، فكيف يستويان ؟ فيكون الغرض - من هذه الآية - تقرير فضيلة أهل الإسلام ، تأكيداً لما تقدم من قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ونظيره قوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] ، منهم { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ } قيل : قائمة في الصلاة يتلون آياتِ الله ، فعبَّر بذلك عن تهجُّدِهم . وقال ابن عباس : مهتدية ، قائمة على أمر الله - تعالى - لم يضيِّعوه ، ولم يتركوه . قال الحسن : ثابتة على التمسُّك بالدين الحق ، ملازمة له ، غير مضطربة ، كقوله تعالى : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } [ آل عمران : 75 ] . قال مجاهد : " قَائِمَةٌ " أي : مستقيمة ، عادلة - من قولك : أقمت العود - فقام بمعنى : استقام . وقيل : الأمَّة : الطريقة ، ومعنى الآية : { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ } أي : ذو أمة ، ومعناه : ذو طريقة مستقيمة ، والمراد بـ { آيَاتِ ٱللَّهِ } : القرآن ، وقد يُراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على ذاته ، وصفاته ، والمراد هاهنا : الأول . قوله : { آنَآءَ ٱللَّيْلِ } ظرف لـ " يتلون " ، والآناء : الساعات ، واحده : أنَى - بفتح الهمزة والنون ، بزنة عصا - أو إنَى بكسر الهمزة ، وفتح النون ، بزنة مِعًى ، أو أنْي - بالفتح والسكون بزنة ظَبْي ، أو إنْي - بالكسر والسكون ، بزنة نِحْي - أو إنْو - بالكسر والسكون مع الواو ، بزنة جرو - فالهمزة في " آناء " منقلبة عن ياء ، على الأقوال الأربعة - كرداء - وعن واو على القول الأخير ، نحو كساء . قال القفال : كأن التأنِّيَ مأخوذ منه ، لأنه انتظار الساعات والأوقات ، وفي الحديث " أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة - : آذيت وآنيت " أي : دافعت الأوقات . وستأتي بقية هذه المادة في مواضعها . ولا يجوز أن يكون " آناء الليل " ظرفاً لِـ " قَائِمَةٌ " . قال أبو القباءِ : " لأن " قَائِمَةٌ " قد وُصِفَتْ ، فلا يجوز أن تعمل فيما بعد الصفة " ، وهذا على تقدير أن يكون " يَتْلُونَ " وَصْفاً لِـ " قائمة " ، وفيه نظر ؛ لأن المعنَى ليس على جَعْل هذه الجملةِ صفة لما قبلها ، بل على الاستئناف للبيان المتقدم ، وعلى تقدير جَعْلها صفة لما قبلها ، فهي صفة لـ " أمَّةٌ " ، لا لِـ " قَائِمَةٌ " ؛ لأن الصفة لا توصَف إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقاً بما قبلها ، نحو : مررت برجل ناطقٍ فصيح ، ففصيح صفة لناطق ؛ لأن معناه لائق به ، وبعضهم يجعله وَصْفاً لرجل . وإنما المانع من تعلُّق هذا الظرف بـ " قَائِمَةٌ " ما ذكرناه من استئناف جملته . قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } يجوز أن يكون حالاً من فاعل " يَتْلُونَ " أي : يَتْلُونَ القرآن ، وهم ساجدون ، وهذا قد يكون في شريعتهم - مشروعية التلاوة في السجود - بخلاف شرعنا ، قال عليه السلام " ألاَ إنِّي نُهِيتُ أن أقرأ القُرآنَ رَاكِعاً ، أو سَاجِداً " ، وبهذا يرجح قول من يقول إنهم غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " قَائِمَةٌ " قاله أبو البقاء . وفيه ضعف ؛ للاستئناف المذكور . وقيل : المراد بقوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } : أنهم يصلون ، والصلاة تسمى سجوداً ، وركوعاً ، وتسبيحاً ، قال تعالى : { وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] ، وقال : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] ، والمراد : الصلاة . وقيل : { يَسْجُدُونَ } أي : يخضعون لله ؛ لأن العرب تسمِّي الخضوعَ سجوداً ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ النحل : 49 ] . ويجوز أن تكون مستأنفة ، والمعنى : أنهم يقومون تارةً ، ويسجدون تارةً ، يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله ، ونظيره قوله : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 64 ] . قوله : { يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } إمَّا استئناف ، وإما أحوال ، وجيء بالجملة الأولى اسميةً ؛ دلالةً على الاستقرار ، وصُدِّرَتْ بضميرٍ ، وثَنَّى عليه جملة فعلية ، ليتكرر الضمير ، فيزداد بتكراره توكيداً . وجيء بالخبر مضارعاً ؛ دلالةً على تجدُّدِ السجود في كل وقت ، وكذلك جيء بالجُمَل التي بعدها أفعالاً مضارعة . ويحتمل أن يكون { يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } خبراً ثانياً ، لقوله : " هُمْ " ، ولذلك ترك العاطف ولو ذكره لكان جائزاً . فصل اعلم أن اليهود كانوا يقومون في الليل للتهجُّد ، وقراءة التوراة ، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله : { يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } ، وقد تقدَّم أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورُسُلِهِ ، والإيمان باليومِ الآخرِ يستلزم الحذرَ من المعاصي ، وهؤلاء اليهود كانوا ينكرون أنبياء الله ، ولا يحترزون عن معاصي الله ، لم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ أو المعاد . قوله : { وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } . قال ابن عباس : يؤمنون بتوحيد الله ، ونبوة صلى الله عليه وسلم ، وينهون عن الكفر . وقيل : يأمرون بما ينبغي ، وينهون عَمَّا لا ينبغي . وقوله : { وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ } فيه وجهان : أحدهما : يتبادرون إليها خوف الفَوْتِ بالمَوْتِ . فإن قيل : أليس أن العجلة مذمومةٌ لقوله صلى الله عليه وسلم : " الْعَجَلَةُ من الشَّيْطَانِ ، والتأنِّي من الرَّحْمَنِ " فما الفرق بين السرعة والعَجَلَة ؟ فالجواب : أن السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه ، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين ، لأن من رغب في الآخرة آثر الفَوْزَ على التراخي ، قال تعالى : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 133 ] ، والعجلة - أيضاً - ليست مذمومة على الاطلاق ؛ لقوله تعالى : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } [ طه : 84 ] . الوجه الثاني : يعملونها غَيْرَ متثاقلين . قوله : { وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي : الموصوفون بهذه الصفات من جملة الصالحين ، الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم ، وهذا غاية المدح من وجهين : الأول : أن الله مدح بهذه الصفة أكابر الأنبياء ، فقال - بعد ذكر إسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل وغيرهم : { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ الأنبياء : 86 ] ، وقال : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] . الثاني : أن الصلاح ضِدُّ الفساد ، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال - وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحاً ، فكان الصَّلاحُ دالاًّ على أكمل الدرجات . قوله : { مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } يجوز في " من " أن تكون للتبعيض - وهو الظاهر - . وجعلها ابن عطية لبيان الجنس ، وفيه نظر ؛ إذْ لم يتقدم مُبْهَمٌ ، فتبينه هذه . قوله : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } . قرأ الأخوان وحَفْص : " يَفْعَلُوا " و " يُكْفروهُ " - بالغيبة - . والباقون بالخطاب . الغيب مراعاة لقوله : { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } ، فجرى على لفظ الغيبة ، أخبرنا - تعالى - أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور ؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } . ويجوز أن يكون التفاتاً من الغيبة في قوله : { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } إلى آخره ؛ إلى خطابهم ، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب ، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؛ ليزيد في التأنيس . ويدل على ذلك قراءة الأخوين ؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله : { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } . فصل اعلم أن اليهودَ لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه : إنكم خسرتم بسبب إيمانكم ، قال الله تعالى : بل فازوا بالدرجات العُظْمَى ، فالمقصود تعظيمهم ؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ، وهذا وإن كان لفظه - على قراءة الغيبة - لمؤمني أهل الكتاب ، فسائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلّة . أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين - ونظيره قوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 197 ] ، وقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } [ البقرة : 272 ] ، وقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } [ المزمل : 20 ] ، ونقل عن أبي عمرو : أنه كان يقرأها بالقراءتين . وسُمِّيَ منع الجزاء كفراً لوجهين : الأول : أنه - تعالى - سَمَّى إيصال الجزاء شُكْراً ، فقال : { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] ، وسمى منعه كفراً . الثاني : أن الكفر - في اللغة - : الستر . فسمي منع الجزاء كُفْراً ؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ والستر . فإن قيل : " شكر " و " كفر " لا يتعديان إلا إلى واحد ، يقال : شكر النعمة ، وكفرها - فكيف تعدّى - هنا - لاثنين أولهما قام مقام الفاعل ، والثاني : الهاء في " يكفروه " ؟ . فقيل : إنه ضُمِّن معنى فعل يتعدى لاثنين - كحرم ومنع ، فكأنه قيل : فلن يُحْرَموه ، ولن يُمْنَعُوا جزاءه . ثم قال : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ } واسم " الله " يدل على عدم العجز ، والبخل ، والحاجة ؛ لأنه إله جميع المحدثات ، وقوله : " عَلِيمٌ " يدل على عدم الجَهْل ، وإذا انتفت هذه الصفاتُ ، امتنع المنع من الجزاء ؛ لأن منعَ الحق لا بد وأن يكون لأحد هذه الأمور . وقوله : { بِالمُتَّقِينَ } - مع أنه عالم بالكلِّ - بشارة للمتقين بجزيل الثواب .