Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 118-119)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما شرح أحوالَ المؤمنين والكافرين ، شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين ، وأكد الزجر عن الركون إلى الكُفار ، وهو مُتَّصل بما سبق من قوله : { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [ آل عمران : 100 ] . قوله : { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفةً لـ " بِطَانَةً " ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة من غيركم . وقدره الزمخشريّ : من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون . ويجوز أن يتعلق بفعل النهي ، وجوَّز بعضُهم أن تكون " من " زائدة ، والمعنى : دونكم في العمل والإيمان . وبطانة الرجل : خاصَّته الذين يُبَاطنهم في الأمور ، ولا يُظْهِر غيرَهم عليها ، مشتقة من البطن ، والباطن دون الظاهر ، وهذا كما استعاروا الشعارَ والدِّثار في ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : " النَّاسُ دثار ، والأنْصَارُ شِعَار " . والشعَارُ : ما يلي الجسد من الثياب . ويقال : بَطَنَ فلانٌ بفلانٍ ، بُطُوناً ، وبِطَانة . قال الشاعر : [ الطويل ] . @ 1582 - أولَئِكَ خُلْصَانِي ، نَعَمْ وَبِطَانَتِي وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ @@ فالبطانة مصدر يُسمَّى به الواحد والجمع ، وأصله من البطن ، ومنه : بطانة الثوب غير ظهارته . فإن قيل : قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً } نكرة في سياق النفي ، فيقتضي العموم في النهي عن مصاحبة الكفار ، وقد قال تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } [ الممتحنة : 8 ] فكيف الجمع فيهما . فالجواب : أن الخاص مقدَّم على العام . قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ } لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذَكَر علَّة النهي ، وهي أمور : أحدها : قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } يقال : ألا في الأمر ، يَألُو فيه ، أي : قصَّر - نحو غزا يغزو - فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى . واختلف في نصب " خَبَالاً " على وجوه : أحدها : أنه مفعول ثانٍ ، وإنما تعدَّى لاثنين ؛ للتضمين . قال الزمخشري : يقال : ألا في الأمر ، يألو فيه - أي : قصَّر - ثم استُعْمِل مُعَدًّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نُصْحاً ، ولا آلوك جُهْداً ، على التضمين ، والمعنى : لا أمنعك نُصْحاً ولا أنقُصُكَهُ . الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، والأصل : لا يألونكم في خبال ، أو في تخبيلكم ، أو بالخبال ، كما يقال : أوجعته ضرباً ، وهذا غير منقاسٍ ، بخلاف التضمين ؛ فإنه ينقاس ، وإن كان فيه خلافٌ واهٍ . الثالث : أن ينتصب على التمييز ، وهو - حينئذ - تمييز منقول من المفعولية ، والأصل : لا يألون خبالكم ، أي : في خبالكم ، ثم جعل الضمير - المضاف إليه - مفعولاً بعد إسقاط الخافض فنُصِبَ الخبال - الذي كان مضافاً - تمييزاً ، ومثله قوله : { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } [ القمر : 12 ] على أن " عُيُوناً " بدل بعض من كل ، وفيه حذف العائد ، أي : عيوناً منها ، وعلى هذا التخريج ، يجوز أن يكون " خَبَالاً " يدل اشتمال من " كم " والضمير أيضاً محذوف أي : " خبالاً منكم " وهذا وَجْه رابع . الخامس : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : متخبلين . السادس : قال ابْنُ عَطِيَّةَ : معناه : لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم . فعلى هذا - الذي قدره - يكون المضمر ، و " خَبَالاً " منصوبين على إسقاط الخافض ، وهو اللام ، وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنها جُمْلة استئنافية ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جِيءَ بها ، وبالجُمَل التي بعدها ، لبيان حال الطائفة الكافرة ، حتى ينفروا منها ، فلا يتخذوها بطانة ، وهو وجه حسن . الثاني : أنها جملة في موضع نصب ؛ حال من الضمير المستكن في " دُونِكُمْ " على أن الجار صفة لبطانة . الثالث : أنها في محل نصب ؛ نعتاً لـ " بِطَانةً " - أيضاً - . والألْو - بزنة الغزو - التقصير - كما تقدم - . قال زهير : [ الطويل ] @ 1583 - سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمِي لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ فَلَمْ يَفْعَلُوا ، وَلَم يُليمُوا ، وَلَمْ يَأْلُوا @@ وقال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 1584 - وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ بِمُدْرِكِ أطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِي @@ يقال : آلَى ، يُولِي - بزنة أكرم ، فأبدِلَت الهمزةُ الثانية ألفاً . وأنشدوا : [ الوافر ] @ 1585 - … فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلاَ أسَاءُوا @@ ويقال : ائتلَى ، يأتلي - بزنة اكتسب يكتسب - . قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 1586 - ألاَ رُبَّ خَصْمٍ فِيَكِ ألْوَى رَدَدْتُهُ نَصِيحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِي @@ فيتحد لفظ آلى بمعنى قصَّر ، وآلى بمعنى حَلفَ - وإن كان الفرق بينهما ثابتاً من حيث المادة ؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء ، ومن معنى التقصير واو . قال الراغب : وألَوْتُ فلاناً ، أي : أوْليته تقصيراً - نحو كسبته ، أي : أوْليته كَسْباً - وما ألوته جهداً ، أي : ما أوليته تقصيراً بحسب الجهد ، فقولك : جهداً ، تمييز . وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] أي : لا يُقَصِّرون في طلب الخبال ، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم ، قال تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ } [ النور : 22 ] . قيل : هو " يفتعل " من ألوت . وقيل : هو من آليت ، أي : حلفت . والخبال : الفساد ، وأصله ما يلحق الحيوان من مَرَض ، وفتور ، فيورثه فساداً واضطراباً ، يقال منه : خبله وخَبَّله - بالتخفيف والتشديد ، فهو خابل ، ومُخَبَّل ، ومخبول ، والمخبل : الناقص العقل ، قال تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] ، ويقال : خَبْل ، وخَبَل ، وخَبَال وفي الحديث : " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثَلاَثاً كَانَ حَقًّا على اللهِ أن يَسقيه مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ " . وقال زهير بن أبي سُلْمى : [ الطويل ] @ 1587 - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا وَإنْ يُسْألُوا يُعْطُوا ، وَإن يُيْسِرُوا يُغْلُوا @@ والمعنى في هذا البيت : أنهم إذا طُلِب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه ، وهذا كناية عن كرمهم . فصل قال ابنُ عبَّاسٍ : كان رِجَالٌ من المُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ اليَهُودَ ؛ لما بينهم من القَرَابةِ ، والصداقة ، والحِلْف ، والجوار ، والرضاع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم فيها عن مباطنتهم . قال مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين ، كانوا يواصلون المنافقين ، فنهاهم الله عن ذلك ، ويؤيِّد هذا القولَ ما ذكره بعد في قوله : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ } [ آل عمران : 119 ] وهذه صفة المنافقين . وقيل : أراد جميع الكفار . والعنت : شدة الضرر والمشقة ، قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] ، وقد تقدم اشتقاقه . قوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } هذه العلة الثانية ، وفي هذه الجملة ثلاثة أوجه : أحدها : وهو الأظهر - أن تكون مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب - كما هو الظاهر في التي قبلها . والثاني : أنها نعت لـ " بِطَانَةً " فمحلُّها نصب . قال الواحدي : " ولا يصح هذا ؛ لأن البطانة قد وُصِفَت بقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } ، ولو كان هذا صفة - أيضاً - ، لوجب إدخال حرف العطف بينهما " . والثالث : أنها حال من الضمير في " يَألونَكُمْ " ، و " ما " مصدرية ، و " عَنِتُّمْ " صلتها ، وهي وصلتها مفعول الودادة ، أي : عنتكم ، أي : مقتكم . وقال الراغب : " المعاندة ، والمعانتة ، يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة : أن يتحرى مع الممانعة المشقة " . والفرق بين قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } ، وقوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } ، في المعنى من وجوه : الأول : لا يقصرون في إفساد دينكم ، فإن عجزوا عنه ، ودُّوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر . الثاني : لا يقصرون عن إفساد أموركم ، فإن لم يفعلوا ذلك ؛ لمانعٍ ، فحُبّه في قلوبهم . الثالث : لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا ، فإن عجزوا عنه لمانع لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم . قال القُرْطُبِيُّ : " وقد انقلبت هذه الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كَتَبَةً وأمَنَاءَ ، وتسوَّدوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء " . وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ ، وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيْفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ : بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ ، وتَحُضُّهُ عَلَيهِ ، وبِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالشَّرِ ، وَتَحُضُّهُ عَلَيهِ ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تعالى " . وروى أنس بن مالك قال : قال صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ المُشْرِكِينَ ، وَلاَ تَنْقُشُوا فِي خَواتِيمكُمْ غريباً " . وفسره الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ ، فقال : أراد صلى الله عليه وسلم لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً . قال الحَسَنُ : وتصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل - : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } الآية . العلة الثالثة : قوله : { قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ } هذه الجملة كالتي قبلها ، وقرأ عبد الله " بَدَا " - من غير تاء - لأن الفاعل مؤنَّث مجازيّ ؛ ولأنها في معنى البغض ، والبغضاء : مصدر - كالسراء والضراء - يقال منه : بَغُضَ الرجل ، فهو بغيض ، كظَرُفَ فهو ظَرِيفٌ . قوله : { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } متعلق بـ " بَدَتْ " و " مِنْ " لابتداء الغاية ، وجوَّز ابو البقاء أن يكون حالاً ، أي : خارجة من أفواههم ، والأفواه : جمع فَم ، وأصله فوه ، فلامه هاء ، يدل على ذلك جمعه على أفواه ، وتصغيره على " فُوَيْه " ، والنسب إليه على فوهي ، وهل وزنه فَعْل - بسكون العين - أو " فَعَل " - بفتح العين - ؟ خلاف للنحويين ، ثم حذفوا لامه تخفيفاً ، فبقي آخرهُ حرف علة ، فأبدلوه ميماً ؛ لقُرْبهِ منها ؛ لأنهما من الشفة ، وفي الميم هُوِيٌّ في الفم يضارع المد الذي في الواو . وهذا كله إذا أفردوه عن الإضافة ، فإن أضافوه لَمْ يُبْدلوا حرفَ العلة . كقوله : [ البسيط ] @ 1588 - فَوهٌ كَشقِّ الْعَصَا لأْياً تُبَيِّنُهُ أسَكُّ مَا يَسْمَعُ الأصْوَاتَ مَصْلُومُ @@ عكس الأمر في الطرفين ، فأتى بالميم في حال الإضافة ، وبحرف العلة في القطع عنها . فمن الأول قوله : [ الرجز ] @ 1589 - يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهْ @@ وخصَّه الفارسيُّ وجماعة بالضرورة ، وغيرهم جوَّزه سعة ، وجعل منه قوله : " لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك " . ومن الثاني قوله : [ الرجز ] @ 1590 - خَالَطَ مِنْ سَلْمَى خَيَاشِيمَ وَفَا @@ أي : وفاها ، وإنما جاز ذلك ؛ لأن الإضافة كالمنطوق بها . وقالت العرب : رجل مفوَّه - إذا كان يجيد القولَ - وأَفْوَه : إذا كان واسعَ الفم . قال لبيد : [ الوافر ] @ 1591 - … وَمَا فَاهُوا بِهِ أبَداً مُقِيمُ @@ وفي الفم تسع لغات ، وله أربع مواد : ف م ه . ف م و . ف م ي . ف م م ؛ بدليل أفواه ، وفموين ، وفميين ، وأفمام . فصل { قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ } أي : ظهرت علامة العداوة من أفواههم . فإن حملناه على المنافقين ، فمعناه أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ، وعدم الود والنصيحة ، كقوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] ، أو بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين ، والكفَّار ، لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك . وإن حملناه على اليهود فمعناه : أنهم يُظهرون تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب ، وينسبونه إلى الجهل . وإن حَمَلْناه على الكُفَّار ، فمعنى البغضاء الشتيمة و الوقيعة في المسلمين . فصل قال القُرْطُبِيُّ : " وفي هذه الآية دليل على أن شهادةَ العدو على عدوِّه لا تجوز ، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز ، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ جوازُ ذلك . وحكى ابن بطّال عن ابن شعبان أنه قال : أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء ، وإن كان عَدْلاً - والعداوة تُزيل العدالة ، فكيف بعداوة الكافر " . قوله : { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } يجوز أن تكون " ما " بمعنى : الذي ، والعائد محذوف - أي : تخفيه فحذف - وأن تكون مصدرية - أي : وإخفاء صدورهم - وعلى كلا التقديرين ، فـ " ما " مبتدأ و " أكبر " خبره ، والمفضَّل عليه محذوف ، أي : أكبر من الذي أبدَوْهُ بأفواههم . قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } شرط ، حذف جوابه ، لدلالة ما تقدم عليه ، أو هو ما تقدم - عند من يرى جوازه - . والمعنى : إن كنتم من أهل العقل ، والفهم ، والدراية . وقيل : إن كنتم تعقلون الفَصْل بين ما يستحقه الولِيّ والعدُوّ ، والمقصود منه : استعمال العقل في تأمل هذه الآيات ، وتدبُّر هذه البينات . قوله تعالى : { هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ } قد تقدم نظيره . قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " ها " للتنبيه ، و " أنْتُمْ " مبتدأ و " أولاءِ " خبره ، و " تُحِبُّونَهُمْ " في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة . ويجوز أن يكون " أولاء " بمعنى : الذي ، و " تُحِبُّونَهُمْ " صلة له ، والموصول مع الصلة خبر . قال الفرَّاء : " أولاَءِ " خبر ، و " يحبونهم " خبر بعد خبر . ويجوز أن يكون " أولاء " في موضع نصب بفعل محذوف ، فتكون المسالة من باب الاشتغال ، نحو : أنا زيداً ضربته . قوله : { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } يحتمل أن يكون استئناف إخبار ، وأن يكون جملة حالية . فصل قال المُفَضَّل : " تحبّونهم " تريدون لهم الإسلام ، وهو خير الأشياء ، و { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ، فإنهم يريدون بقاءكم على الكفر ، وهو يوجب الهلاك . وقيل : { يُحِبُّونَهُمْ } بسبب ما بينكم وبينهم من القرابة ، والرضاع ، و المصاهرة ، { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } لأجل الإسلام . وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } بسبب إظهارهم لكم الإسلام { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بسبب أن الكفر مستغرق في قلوبهم . وقال أبُو العَالِيَةِ ، ومُقَاتِلٌ : المحبة - هاهنا - بمعنى : المصافاة ، أي : أنتم - أيها المؤمنون - تصافونهم ، ولا يصافونكم ؛ لنفاقهم . وقال الأصمّ : { تُحِبُّونَهُمْ } بمعنى : أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات ، والمحن ، { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بمعنى : أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمِحَن ، ويتربصون بكم الدوائر . وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } بسبب أنهم يُظهرون لكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يبغضون الرسول ، ومحب المبغوض مبغوض . وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } أي : تخالطونهم ، وتُفشون إليهم أسرارَكم في أمور دينكم { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : لا يفعلون ذلك بكم . قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ } يجوز أن تكون الألف واللام - في الكتاب - للجنس ، والمعنى : بالكتب كلها ، فاكتفى بالواحد . وقيل : أفرد الكتاب ؛ لأنه مصدر ، فيجوز أن يُسَمَّى به الجمع . وقيل : إن المصدر لا يُجْمَع إلا على التأويل ، فلهذا لم يَقُل : الكتب - بدلاً من الكتاب - ، وإن كان لو قاله لجاز ، توسعاً . ويجوز أن يكون للعهد ، والمراد به : كتاب مخصوص . وهنا جملة محذوفة ، يدل عليها السياق ، والتقدير : { وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ } ، وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وحَسُنَ العطفُ ، لما تقدم من أن ذكر أحد الضدين يُغْني عن ذِكْر الآخر ، وتقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها ، وهم - مع ذلك - يبغضونكم ، فما بالكم - مع ذلك - تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ؟ . وفيه توبيخ شديد بأنهم - في باطلهم - أصلب منكم في حقكم . قوله : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ } ومعناه : إذا خَلاَ بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة ، وشدة الغيظ على المؤمنين ، حتى تبلغ الشدة إلى عَضِّ الأنامل ، كما يفعل الإنسان - إذا اشتد غيظه ، وعَظُم حُزنه - على فَوْت مطلوبه ، ولمَّا كَثُر هذا الفعلُ من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب ، وإن لم يكن هناك عض . قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلق بـ " عَضُّوا " ، وكذلك { مِنَ ٱلْغَيْظِ } و " مِنْ " فيه لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكون بمعنى اللام ، فيفيد العِلِّيَّةَ - اي : من أجل الغيظ - . وجوز أبو البقاء - في " عَلَيْكُمْ " ، وفي { مِنَ ٱلْغَيْظِ } - أن يكونا حالين ، فقال : " ويجوز أن يكون حالاً ، أي : حنقين عليكم من الغيظ . و { مِنَ ٱلْغَيْظِ } متعلق بـ " عَضُّوا " أيضاً ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، أي : من أجل الغيظ ، ويجوز أن يكون حالاً ، أي : مغتاظين " . انتهى . وقوله : و " من " لابتداء الغاية - أي : من أجل الغيظ كلام متنافر ؛ لأن التي للابتداء لا تفسَّر بمعنى : " من أجل " ، فإنه معنى العلة ، والعلة والابتداء متغايران ، وعلى الجملة ، فالحالية - فيهما - لا يظهر معناها ، وتقديره الحال ليس تقديراً صناعيًّا ؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة . والعَضّ : الأزم بالأسنان ، وهو تحامُل الأسنان بعضها على بعض ، يقال : عَضِضْتُ - بكسر العين في الماضي - أعَضُّ - بالفتح - عَضًّا , وعضِيضاً . قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 1592 - … كَفَحْلِ الْهِجَانِ يَنْتَحِي لِلْعَضِيضِ @@ ويعبر به عن الندم المفرط - ومنه : { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } [ الفرقان : 27 ] - وإن لم يكن ثم عَضٌّ حقيقة . قال أبو طالب : [ الطويل ] @ 1593 - وَقَدْ صَالَحُوا قَوْماً عَلَينَا أشِحَّةً يَعَضُّونَ غَيْظاً خَلْفَنَا بِالأنَامِلِ @@ جعل الباء زائدة في المفعول ؛ إذ الأصل : يعضون خلفنا الأنامل . وقال آخر : [ المتقارب ] @ 1594 - قَدَ افْنَى أنَامِلَهُ أزْمُهُ فَأضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا @@ وقال الحارث بن ظالم المري : [ الطويل ] @ 1595 - وَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئاماً أذِلَّةً يَعُضُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُءُوسَ الأبَاهِمِ @@ وقال آخر : [ البسيط ] @ 1596 - إذَا رَأوْنِي - أطَالَ اللهُ غَيْظَهُمُ - عَضُّوا مِنَ الْغَيظِ أطْرَافَ الأبَاهِيمِ @@ والعَضّ كله بالضاد ، إلا في قولهم : عَظَّ الزمان - أي : اشتد - وعظت الحرب ، فإنهما بالظاء - أخت الطاء - . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 1597 - وَعَظُّ زَمَانٍ - يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ الْمَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ @@ قال شهاب الدين : " وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : وعضُّ زمان - بالضاد " . والعُضُّ - بضم الفاء - عَلَف من نوًى مرضوض وغيره ، ومنه : بَعير عُضَاضِيّ - أي : سمين - كأنه منسوب إليه ، وأعَضَّ القومُ - إذا أكلت إبلُهم ذلك ، والعِضّ - بكسر الفاء - الرجل الداهية ، كأنهم تصوروا عَضَّه وشدته . وزمن عضوض - أي : جدب ، والتَّعْضوض : نوع من التمر ، سُمِّيَ بذلك لشدة مضغه وصعوبته . والأنامل : جمع أنملة - وهي رؤوس الأصابع . قال الرُّماني : واشتقاقها من النمل - هذا الحيوان المعروف - شبهت به لدقتها ، وسرعة تصرفها وحركتها ، ومنه قالوا للنمام : " نمل ومنمل " لذلك . قال الشاعر : [ المتقارب ] @ 1598 - وَلَسْتُ بِذِي نَيْرَبٍ فِيهِمُ وَلاَ مُنْمِشٍ فيهِمُ مُنْمِلِ @@ وفي ميمها الضم والفتح . والغيظ : مصدر غاظه ، يغيظه - أي : أغضبه - . وفسره الراغب بأنه أشد الغضب ، قال : وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دَمِ قلبه . وإذا وصف به الله تعالى ، فإنما يراد به الانتقام . والتغيظ : إظهار الغيظ ، وقد يكون مع ذلك صوت ، قال تعالى : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] ، والجملة من قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ } معطوفة على { تُحِبُّونَهُمْ } ، ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة . قال الزمخشري : والواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم - مع ذلك - يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم . قال أبو حيان : " وهو حسن ، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه جعل الواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } والمضارع المثبت - إذا وقع حالاً - لا تدخل عليه واو الحال ، تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز : ويضحك ، فأما قولهم : قمت وأصُكُّ عينه ، ففي غاية الشذوذ ، وقد أوِّل على إضمار مبتدأ ، أي : وأنا أصُكّ عينه ، فتصير الجملة اسمية ، ويحتمل هذا التأويل هنا : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، لكنَّ الأولَى ما ذكرنا من كونها للعطف " . يعني : فإنه لا يُحْوِج إلى حَذْف ، بخلاف تقديره مبتدأ ، فإنه على خلاف الأصل . قوله : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } يجوز أن تكون الباء للحال ، أي : موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم ، وهو كناية عن كثرة الإسلام وفُشوِّه ؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم ، ويجوز أن تكون للسببية أي : بسبب غَيْظكم ، وليس بالقويّ . وقوله : { مُوتُواْ } صورته أمر ومعناه الدعاء ، فيكون دُعَاءً عليهم بأن يزداد غَيْظُهم ، حتى يهلكوا به ، والمراد من ازدياد الغيظ : ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام ، وعِزِّ أهْلِه ، وما لهم في ذلك من الذُّلِّ ، والخِزْي ، والعار . وقيل : معناه الخبر ، أي : أن الأمر كذلك . وقد قال بعضهم : إنه لا يجوز أن يكون بمعنى : الدعاء ؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة ؛ فإنَّ دعوته لا ترد ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآيةِ ، [ وليس بخبر ] ؛ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أخبره ، ولم يؤمن أحدٌ بعدُ ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ ، والتهديد ، كقوله تعالى : { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] و " إذَا لَمْ تَسْتَحْي فاصْنَعْ مَا شِئْتَ " . وهذا - الذي قاله - ليس بشيء ؛ لأن مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء - إن قُصِد به الدعاء - ولا تحت الخبر ، إن قُصِد به الإخبار . قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، أخبر - تعالى - بذلك ؛ لأنهم كانوا يُخفون غيظَهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد ، ويحتمل أن يكون من جملة المقول ، أي : قُلْ لهم : كذا ، وكذا ، فيكون في محل نصب بالقول ، ومعنى قوله : { بِذَاتِ } أي : بالمُضْمَرات ، ذوات الصدور ، فـ " ذَات " - هنا - تأنيث " ذي " بمعنى صاحب ؛ فحُذِف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ، أي : عَلِيمٌ بالمضمرات صاحبة الصدُور ، و " ذو " جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها ، وعدم انفكاكها عنها ، نحو أصحاب النار ، وأصحاب الجنة . والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي ، و الصوارف الموجودة فيه . واختلفوا في الوقف على هذه اللفظة ، هل يوقف عليها بالتاء ، أو بالهاء ؟ . فقال الأخفش ، والفَرَّاءُ ، وابن كيسان : الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف . وقال الكسائي ، والجَرْمِيّ : يوقف عليها بالهاء ، لأنها تاء تأنيث ، كهي في صاحبة ، وموافقة الرسم أوْلَى ؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء ، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء ، وافقنا تلك اللغة ، والرسم ، بخلاف عكسه .