Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 123-127)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في كيفية النظم وجهان : أحدهما : أنه - تعالى - لمَّا ذكر قصةَ أحُد أتبعها بقصة بدر ؛ لأن المشركين كانوا في غاية القوة ، ثم سلط المسلمين عليهم ، فصار ذلك دليلاً على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى غرضه إلا بالتوكل على الله ، ويكون ذلك تأكيداً لقوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عمران : 120 ] ، وقوله : { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُون } [ آل عمران : 122 ] . الثاني : أنه - تعالى - حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل ، ثم قال : { وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ آل عمران : 122 ] . يعني : من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به الفشل ؟ ثم أكَّد ذلك بقصة بدر ؛ فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ، ولكن لمَّا كان الله تعالى ناصراً لهم ، فازوا بمطلوبهم ، وقهروا خصومهم ، فهذا وجه النظم . والنصر : العون ، نصرهم الله يوم بدر ، وقتل فيه صناديد المشركين ، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام ، وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم . قوله : { بِبَدْرٍ } متعلق بـ { نَصَرَكُمُ } ، وفي الباء - حينئذ - قولان : أحدهما : - وهو الأظهر - : أنها ظرفية ، أي : في بدر ، كقولك : زيد بمكة ، أي : في مكة . الثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة ، فمحلُّها النصب على الحال ، أي : مصاحبين لبدر ، و " بدر " : اسم لماء بين مكة والمدينة ، سُمِّي بذلك لصفائه كالبدر . وقيل : لاستدارته وقيل : اسم بئر لرجل يقال له : بدر ، وهو بدر بن كلدة ، قاله الشعبي ، وأنكر عليه بذكر الله - تعالى - مِنَّتَه عليهم بالنُّصْرَةِ يوم بدر وقيل : إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه . قاله الواقدي وشيوخه . وقيل : اسم وادٍ , وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة ، لثمانية وعشرين شهراً من الهجرة . قوله : { وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } في محل نصب على الحال من مفعول : { نَصَرَكُمُ } و { أَذِلَّةٌ } جمع ذليل وهو جمع قلة ؛ إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة ، و " فعيل " الوصف - قياس جمعه على فعلاء ، كظريف وظرفاء ، وشريف وشرفاء ، إلا أنه تُرِك في المضعَّف ؛ تخفيفاً ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذُللاء وخُللاء من الثقل ؟ فإن قيل : قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين } [ المنافقون : 8 ] فما معنى قوله : { وَأنْتُمْ أَذِلَّةٌ } ؟ فالجواب من وجوه : الأول : أنه بمعنى : القلة وضعف الحال ، وقلة السلاح والمال ، وعدم القدرة على مقاومة العدو ، وأن نقيضه العِز ، وهو القوة والغلبة . رُوِيَ أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، ولم يكن فيهم إلا فرس واحد ، وأكثرهم رَجَّالة ، وربما كان الجمع منهم يركبون جَمَلاً واحداً ، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل ، ومعهم مائة فرس ، مع الأسلحة الكثيرة ، والعُدَّة الكاملة . قال القرطبيُّ : واسم الذل في هذا الموضع مستعار ، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزَّة ، لكن نسبتهم إلى عدوهم ، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض ، تقتضي عند التأمل ذِلّتَهُمْ ، وأنهم يغلبون . الثاني : لعل المراد : أنهم كانوا أذلة في زَعْم المشركين ، واعتقادهم ؛ لأجل قلة عددهم ، وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله - تعالى - عن الكفار قولهم : { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } [ المنافقون : 8 ] . الثالث : أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار بمكة في قوتهم ، وثروتهم ، إلى ذلك الوقت ، ولم يَبْقَ للصحابة عليهم استيلاء ، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم ، فلهذا السبب كانوا يهابونهم ويخافونهم . ثم قال : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي : في الثَّباتِ مع رسوله . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بتقواكم ما أنعم الله به عليكم من نصرته ، أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام ؛ لأنه سبب له . قوله : { إذْ تَقُولُ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكر . الثاني : إن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر ، فالعامل في " إذْ " قوله : { نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ } والتقدير : إذ نصركم الله ببدر ، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين . وإن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد ، فيكون بَدَلاً من قوله : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ } [ آل عمران : 122 ] ، فهذه ثلاثة أوجه . فصل رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ : أنه يوم أُحُد ، لوجوه : أحدها : أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة لقوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَة } [ الأنفال : 9 ] ، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف ، وخمسة آلاف ؟ وثانيها : أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً ، وما يقرب منه ، والمسلمون كانوا على الثلث منهم ؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة ، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين ، فلا جرم ، وقعة الهزيمة على الكفار ، فكذلك يوم اُحُد ، كان عدد المسلمين ألفاً ، وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم ، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ ، مع زيادة عدد المسلمين ، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم ، كما هزموهم يوم بدر ، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم . وثالثها : أنه قال في هذه الآية : { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } . والمراد : ويأتيكم أعداؤكم من فورهم ، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء ، فأما يوم بدر ، فإنهم لم يأتوهم ، بل هم ذهبوا إلى الأعداء . فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد ، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد ؟ فالجواب من وجهين : الأول : أن إنزال الآلاف الخمسة ، كان مشروطاً بأن يصبروا ، ويتَّقوا في المغانم ، فَخَالَفُوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فات الشرط ، فات المشروط ، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة ، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال . الثاني : أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت . روى الواقدي عن مجاهد قال : حضرت الملائكة يومَ أُحُد ، ولكنهم لم يقاتلوا ، ورُوِيَ " أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر ، فقُتِل مُصْعَبٌ ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تقدم يا مصعب ، فقال الملك : لستُ بمُصعَب ، فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مَلَك أمِدَّ به " . وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أرمي السهمَ يومئذٍ ، فيرد علي رجل أبيض ، حسن الوجه ، وما كنت أعرفه ، وظننت أنه مَلَك . فعلى هذا القول يكون قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ } مُعْتَرِضاً بين الكلامين . وقال قتادة : أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة ، على ما قال : { فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَة } [ الأنفال : 9 ] ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسةَ آلاف ، كما قال هاهنا : { بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ } [ آل عمران : 125 ] ، فصبروا يوم بدر واتقوا ، فأمدم الله بخمسة آلاف كما وعد ، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر ، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب - في ذلك اليوم - أكثرَ ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى ؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً ، غير مشروط بشرطٍ ، فوجب أن يحصل ، وإنَّما حصل يوم بدر ، لا يوم أُحُد ، وليس لأحد أن يقول : إنهم نزلوا ، لكن ما قاتلوا ؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد ، بل لا بدّ من الإعانة ، والإعانة حصلت يوم بدر ، لا يوم أُحُد . وأما الجواب عن أدلة الأولين ، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف ، فالجواب من وجهين : الأول : أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف ، ثم زاد فيهم ألفين ، فصاروا ثلاثةَ آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين ، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : " ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف ؟ فقالوا : بلى فقال لهم : إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ " . الثاني : أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة الأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير ، فخافوا ، وشَقَّ عليهم ذلك ، لقِلَّة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد ، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ ، فاستغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف . وأما قولهم : إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً ، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة ، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف ، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك ، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد ، وأما التمسك بقوله : { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ } فالجواب : أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم ، واجتمعوا ، وقصدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك ، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة . فصل قال القرطبيُّ : " نزول الملائكة سبب من أسباب النصر ، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى ، وإنما يحتاج إليه المخلوق ، فلْيَعْلَق القلبُ بالله ، ولْيَثِقْ به ، فهو الناصر بسبب وبغير سبب { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون } [ يس : 82 ] ، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلا } [ الأحزاب : 62 ] ، ولا يقدح ذلك في التوكُّل ، وهو رَدٌّ على مَنْ قال : إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء ، لا الأقوياء ؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أقوياءَ ، وغيرهم هم الضعفاء ، وهذا واضح " . فصل في اختلافهم في عدد الملائكة اختلفوا في عدد الملائكة ، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد ؛ فقالوا : الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه ، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى ، ومجيء الكفار من فورهم ، فلا بد من التغاير ، وهذا القول ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة ، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط . ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد . فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر ، كان عدد الملائكة تسعة آلاف ؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف ، وذكر خمسة آلاف ، فالمجموع تسعة آلاف . وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة ، فيكون المجموع ثمانية آلاف . وعلى القول الثاني : وهو إدخال الناقص في الزائد ، فإن حملنا الآية على قصة بدر ، فقالوا : عدد الملائكة : خمسة آلاف ؛ لأنهم وُعِدوا بالألف ، ثم ضُمَّ إليه الألفان ، فصاروا ثلاثةً ، ثم ضُمَّ إليه ألفان ، فلا جرم ، وعدوا بخمسة آلاف . وقد رُوِيَ " أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف ، فقيل : إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد أن يُمِدَّ المشركين ، فشَقَّ ذلك على المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم : " ألَنْ يَكْفِيَكُمْ " يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ . وإن حملناها على قصة أُحُد ، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف ؛ لأن الخمسةَ ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا ، ويأتوهم من الفور . فصل أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر ، وأنهم قاتلوا الكفارَ . قال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ، ولا يقاتلون ، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين . وقال الحسن : هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة . وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار ، واحْتَجَّ عليه بوجوه : الأول : أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض ؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط ، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة ، ثم رفعها إلى السماء ، فجعل عاليها سافلَها ، فإذا حضر هو يوم بدر ، فأيُّ حاجة إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار ؟ ثم بتقدير حضوره ، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة ؟ الثاني : أن أكابر الكفار كانوا مشهورين ، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم ، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة . الثالث : أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس ، أوْ لا ، فإن رآهم الناس ، فإما أن يروهم في صورة الناس ، أو في صورة غيرهم ، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس ، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر ، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِم } [ الأنفال : 44 ] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس ، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق ؛ لأن من شاهد الجن ، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم ، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا ، وحزوا الرؤوس ، وشقُّوا البطون ، وأسقطوا الكفار عن الأفراس ، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين ، وهذا يكون من أعظم المعجزات ، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد ، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه . الرابع : أن الملائكة الذين نزلوا ، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة ، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم ، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك ، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة ، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول . والجواب : أن نص القرآن ناطق بِها ، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر لما رجعت قريش من أحد ، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا ، ويقولون : لم نَرَ الخيل البُلْق ، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر . وقال سعدُ بن أبي وقاص : رأيتُ عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بِيضٌ ، ما رأيتهما قبل ، ولا بعد . قال سعدُ بن إبراهيمَ : يعني : جبريل وميكائيل . وهذه الشبهة إنما تليق بمن يُنكر القرآن والنبوة ، فأما من يُقِرُّ بهما ، فلا يليق به شيءٌ من هذا ، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله - تعالى - زالت ؛ فإنه - تعالى - يفعل ما يشاء ؛ لأنه قادر على جميع الممكنات . فصل اختلفوا في كيفية نُصْرة الملائكة . فقال بعضهم : بالقتال مع المؤمنين . وقال بعضهم : بل بتقوية نفوسهم ، وإشعارهم بأن النُّصْرة لهم ، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار . وقال أكثر المفسرين : إنهم لم يقاتلوا في غير بدر . قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } معنى الكفاية : هو سَدُّ الخلة ، والقيام بالأمر . يقال : كَفَاهُ أمر كذا ، أي : سَدَّ خلته . والإمداد : إعانة الجيش بالجيش ، وهو في الأصل إعطاء الشيء حالاً بعد حال . قال المفضَّل : ما كان على جهة القوة والإعانة ، قيل فيه : أمَدَّه يُمِدُّه ، وما كان على جهة الزيادة ، قيل فيه : مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه : { وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر } [ لقمان : 27 ] . وقيل : المَدُّ في الشر ، والإمداد في الخير ؛ لقوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] وقوله : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً } [ مريم : 79 ] وقال في الخير : { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف } [ الأنفال : 9 ] وقال : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين } [ الإسراء : 6 ] . قوله : { أَن يُمِدَّكُمْ } فاعل ، { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } أي : ألن يكفيكم إمدادُ ربكم ، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار ، وجيء بـ " لن " دون " لا " ؛ لأنها أبلغ في النفي ، وفي مصحف أبيّ " ألا " بدون " لن " وكأنه قصد تفسير المعنى . و " بثلاثة " متعلق بـ { يُمِدَّكُمْ } . وقرأ الحسن البصريّ " ثلاثة آلافٍ " - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك " بخمسة آلافٍ " كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف ، وهي ضعيفة ؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال . قال ابن عطية : ووجْه هذه القراءة ضعيف ؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول ، والهاء إنما هي أمارة وقف ، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم : أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ ، حتى نشأت عنها ألِفٌ ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي ، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت . ومن ذلك في الشعر قوله : [ الكامل ] @ 1610 - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ @@ يريد : " ينبع " ، فمطل ومثله قول الآخر : [ الرجز ] @ 1611 - أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ @@ يريد : " الكلكل " ، فمطل ومثله قول الشاعر : [ الوافر ] @ 1612 - فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ @@ يريد : بمنتزح . قال أبو الفتح : " فإذا جاز أن يعترض هذا [ الفتور ] والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما اثنان " . قال أبو حيان - بعد نقل كلام ابن عطية - : " وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف ، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة ، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل ، وإنما نظير هذا قولهم : ثلاثة أربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال ، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف ؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل " . وقرئ شاذًّا - أيضاً - : بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة ، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن ، أهي تاء التأنيث التي كانت ، فسكنت فقط ، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء ؟ ولا طائل تحته . قوله : { مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ } يجوز أن تكون " مِنْ " للبيان ، وأن تكون " مِنْ " ومجرورها في موضع الجر صفة لـ " لَثَلاثَةِ " أو لِـ " آلافٍ " . قوله : { مُنْزَلِينَ } صفة لـ " ثلاثة آلاف " ، ويجوز أن يكون حالاً من " الْمَلاَئِكَةِ " والأول أظهر . وقرأ ابن عامر " مُنزَّلين " - بالتضعيف - وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت : { إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ العنكبوت : 34 ] إلا أنه هنا - اسم مفعول ، وهناك اسم فاعل . والباقون خفَّفوها وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزِّلين - بالتشديد مكسور الزاي ، مبنياً للفاعل . وبعضهم قرأه كذلك ، إلا أنه خفف الزاي ، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية ، ففعَّل وأفْعل بمعنًى ، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً ، أي : منزلين النصر على المؤمنين ، والعذاب على الكافرين . قوله : { بَلَىۤ } حرف جواب ، وهو إيجاب للنفي في قوله : { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ } وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله : { يُمْدِدْكُمْ } . والفوز : العجلة والسرعة ، ومنه : فارت القِدْرُ ، إذا اشتد غليانها وسارع ما فيها إلى الخروج ، و الفوز مصدر ، يقال : فَار يفُورُ فَوْراً ، قال تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّور } [ هود : 40 ] ، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة ، يقال : جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة ؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه ، فالفَوْر - في الأصل - : مصدر ، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين : معنى " مِنْ فَورِهم هَذَا " : من وجههم هذا . وقال مجاهد والضَّحَّاكُ : من غضبهم هذا ؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر . قوله : { مُسَوِّمِينَ } كقوله : { مُنزَلِينَ } ، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو ، على اسم الفاعل ، والباقون بفتحها على اسم المفعول ، فأما القراءة الأولى ، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى : أنهم سَوَّموا خَيْلَهم ، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان ، وتركوها كذلك ، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى . ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم ، أو خيلهم . روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ ، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ ، عليهم عمائمُ بِيضٌ ، قد أرسلوها بين أكتافهم . وقال هشام بن عروة : عمائم صفر . وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ ، إلا جبريل فبعمامة صفراء ، على مثال الزبير بن العوام . قال قتادةُ والضَّحَّاكُ : كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها . ورُوِيَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : " تسوموا ، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم " وأما القراءة الثانية ، فواضحة بالمعنيين المذكورين ، فمعنى السوم فيها : أن الله أرسلهم ، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين . قال أبو زيد : سوم الرجل خَيْلَه ، أي أرسلها . وحكى بعضهم : سومت غلامي ، أي : أرسلته ، ولهذا قال الأخفش : معنى " مُسَوَّمِينَ " مُرْسَلِين . ومعنى السومة فيها : أن الله - تعالى - سومهم ، أي جعل عليهم علامة ، وهي العمائم ، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم . فصل قال القُرْطُبِيُّ : " وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة ، والعلامة للقبائل ، والكتائب ، يجعلها السلطان لهم ؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب ، وعلى فضل الخيل البُلْق ؛ لنزول الملائكة عليها " . قال القرطبي : " ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد ؛ فإنه كان أبلق ، ولم يكن له فرس غيره ، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق ، إكراماً للمقداد ، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير " . قوله : { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ } الكناية في " جَعَلَهُ " عائدة على المصدر ، أي : ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون ، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مفعول من أجله ، وهو استثناء مفرغ ؛ إذ التقدير : وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى ، وشروط نصبه موجودة ، وهي اتحاد الفاعل ، والزمان ، وكونه مصدراً سيق للعلة . والثاني : أنه مفعول ثانٍ لِـ " جَعَل " على أنها تصييرية . والثالث : أنه بدل من الهاء في " جَعَلَهُ " قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد . والبشرى : مصدر على " فُعْلَى " كالرُّجْعَى . وقيل : اسم من الإبشار ، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى : { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَات } [ البقرة : 25 ] . قوله : { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيه وجهان : أحدهما : أنًّه معطوف على " بُشْرَى " هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله ، وإنما جُرَّ باللام ؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب ، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط ، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه ، وقد تقدم ، والتقدير : وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة . والثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : ولتطمئن قلوبكم ، فعلى ذلك ، أو كان كيت وكيت . وقال أبو حيان : و " تطمئن " منصوب بإضمار " أن " بعد لام " كي " ، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر . ثم نقل عن ابن عطية أنه قال : " اللام في { وَلِتَطْمَئِنَّ } متعلقة بفعل مضمر يدل عليه " جَعَلَهُ " ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، ولتطمئن به قلوبكم . قال أبو حيان : " وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف { وَلِتَطْمَئِنَّ } على { بُشْرَىٰ } ، على الموضع ؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع ، ولا محرز هنا ؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود ، ومَنْ لم يشترط المحرز ، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم " . قال شهاب الدين : " وقد جعل بعضهم الواو في { وَلِتَطْمَئِنَّ } زائدة ، وهو لائق بمذهب الأخفش ، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى ، أي : أن البشرى عِلَّة للجَعْل ، والطمأنينة علة للبُشْرَى ، فهي علة العلة " . قال ابْنُ الخَطِيبِ : في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر : فأحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله : { إلاَّ بُشْرَىٰ } . الثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا يجنبون ، وهذا هو المقصود الأصلي ، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية ، فعطف الفعل على الاسم ، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة ، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة ، فقال : { وَلِتَطْمَئِنَّ } ونظيره قوله : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب ، أدخَل عليه حرف التعليل ، فكذا هاهنا . قال أبو حيان : " ويناقش في قوله : عطف الفعل على الاسم ؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك كما ذكره " . انتهى . قال شهَابُ الدِّينِ : " إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة ، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة ، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل " . وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه : " هذا على تأويل : وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن ، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيكون التقدير : وما جعله الله إلا بشرى لكم ؛ لتطمئنَّ قلوبكم به " . والضميران في قوله { وَمَا جَعَلَهُ } ، و " بِهِ " يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم ، وهو قوله : " يمددكم " . وقيل : يعودان على النصر . وقيل : على التسويم . وقيل : على التنزيل . وقيل : على المدد . وقيل : على الوعد . فصل قال في هذه الآية : " لَكُمْ " وتركها في سورة الأنفال ؛ لأن تيك مختصر هذه ، فكان الإطناب - هنا - أوْلَى ؛ لأن القصة مكملة هنا ، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه ، وأخر - هنا - " به " وقدمه في سورة الأنفال ؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في " لَكُمْ " فأتبع الخطاب الخطاب ، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله : { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } وجاء بهما في جملة مستأنفة في سورة الأنفال ، في قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم ، أي : لا يغالب ، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب ، فالنصر من عنده , فاستعينوا به ، وتوكلوا عليه ؛ لأن العز والحُكْم له . قوله : { لِيَقْطَعَ } في متعلق هذه اللام سبعة أوجه : أحدها : أنها متعلقة بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ } قاله الحوفيّ ، وفيه بُعْدٌ ؛ لطول الفَصْل . الثاني : أنها متعلقة بالنصر في قوله : { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } والمعنى : أن المقصود من نصركم ، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا ، أي : تملكوا طائفة منهم ، وتقتلوا قطعة منهم ، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ ، وهو الخبر . الثالث : أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر ، وهو قوله : { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } ، والتقدير : وما النصر إلا كائن ، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع . والرابع : أنها متعلقة بمحذوف ، تقديره : أمَدَّكُم ، أو نَصَرَكُم ، ليقطَعَ . الخامس : أنها معطوفة على قوله : " ولتطمئن " حذف حرف العطف لفهم المعنى ؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف ، كقوله : { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] وقول السيد لعبده : أكرمتك لتخدمني ، لتعينني ، لتقوم بخدمتي ، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض ، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله : { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهو ساقط الاعتبار . السادس : أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية . السابع : أنها متعلقة بقوله : { يُمْدِدْكُمْ } وفيه بُعْدٌ ؛ للفواصل بينهما . والطرف : المراد به : جماعة ، وطائفة ، وإنما حَسُنَ ذِكْر الطرف - هنا - ولم يحسن ذكر الوسط ؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف ، وهذا يوافق قوله تعالى : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ } [ التوبة : 123 ] وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الرعد : 41 ] . قوله : { مِّنَ ٱلَّذِينَ } يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع ، فتكون " مِنْ " لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة لـ " طَرَفاً " وتكون " مِنْ " للتبعيض . قوله : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } عطف على " لِيَقْطَعَ " . و " أو " ؛ قيل : على بابها من التفصيل ، أي : ليقطع طرفاً من البعض ، ويكبت بعضاً آخرين . وقيل : بل هي بمعنى الواو ، أي : يجمع عليهم الشيئين . والكبت : الإصابة بمكروه . وقيل : هو الصَّرع للوجْه واليدين ، وعلى هذين فالتاء أصلية ، ليست بدلاً من شيء ، بل هي مادة مستقلة . وقيل : أصله من كبده ، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً ، كقولك : رأسته ، أي : أصبت رأسه ، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد : أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال ، قالوا : هَرَتَ الثوبَ ، وهردَه ، وسَبَتَ رأسَه ، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه - . وقد قيل : إنّ قراءة لاحق أصلها التاء ، وإنما أُبدِلت دالاً ، كقولهم : سبد رأسه ، وهرد الثوب ، والأصل فيهما التاء . فصل معنى قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا } أي : ليُهْلِكَ طائفة . وقال السُّدِّيُّ : لِيَهْدِمَ رُكْناً من أركان الشرك بالقتل والأسر ، فقُتِل من قادتهم وسادتهم يوم بدر - سبعون ، وأُسِر سبعون ، ومَنْ حَمَل الآيةَ على أحُد ، فقد قُتِل منهم يومئذ ستة عشر ، وكانت النُّصرة للمسلمين ، حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقلبت عليهم . { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } . قال الكلبي : يهزمهم . وقال السُّدي : يلعنهم . وقال أبو عبيدة : يُهْلِكهم ويصرعهم على وجوههم . وقيل : يُخْزِيهم والمكبوت الحزين . وقيل : يَغِيظهم . وقيل : يُذلهم . قوله : { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم . والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع ، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه ، فنقيض اليأس الرجاء ، ونقيض الخيبة : الظفر يقال : خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً . و { خَآئِبِينَ } نُصِبَ على الحال .