Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 140-141)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ الأخوان ، وأبو بكر : قُرْح - بضم القاف - وكذلك " القُرْحُ " معرَّفاً . والباقون بالفتح فيهما . فقيل : هما بمعنى واحد ، ثم اختلف القائلون بهذا . فقال بعضهم : المراد بهما : الجُرْح نفسه ، وقال بعضهم - منهم الأخفش - المراد بهما المصدر ، يقال : قَرِحَ الجُرح ، يَقْرحُ ، قَرْحاً ، وقُرْحاً . قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 1629 - وَبُدِّلْتُ قَرْحاً دَامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أبْؤُسَا @@ والفتح لغة الحجاز ، والضم لغة تميم ، فهما كالضَّعْف والضُّعْف ، والكَرْه والكُرْه ، والوَجْد والوُجْد . وقال بعضهم : المفتوح : الجُرْح ، والمضموم : ألَمُه ، وهو قول الفراء . وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء ، كالطرْد والطرَد . وقال أبو البقاءِ : " وهو مصدر قَرِحَ يَقْرح ، إذا صار له قُرْحَة ، وهو بمعنى : دَمِيَ " . وقُرِئَ قُرُح - بضمهما - . قيل : وذلك على الإتباع كاليُسْر واليُسُر ، والطُّنْب والطُّنُب . وقرأ الأعمش : " إن تمسسكم قروح " - بالتاء من فوق ، [ وصيغة الجمع في الفاعل ] ، وأصل المادة : الدلالة على الخُلُوص ، ومنه الماء القَرَاح ، الذي لا كُدُورةَ فيه . قال الشاعر : [ الوافر ] @ 1630 - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ ، وَكُنْتُ قَبْلاً أكَادُ أغَصُّ بِالْمَاءِ الْقَرَاح @@ وأرض قرحة - أي : خالصة الطين - ومنه قريحة الرجل - أي : خالص طَبْعه - . وقال الراغب : " القَرْح الأثر من الجراحة من شيء يُصيبه من خارج ، والقُرْح - يعني : بالضم - أثرها من شيء داخل - كالبثرة ونحوها - يقال : قَرَحْته ، نحو جَرَحْته . قال الشاعر : [ البسيط ] @ 1631 - لا يُسْلِمُونَ قَرِيحاً حَلَّ وَسَطَهُمُ يَوْمَ اللِّقَاءِ ، ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا @@ أي : جرحوا . وقرح : خرج به قرح . ويقال : قَرَحَ قلبُه ، وأقرحه الله - يعني : فَعَل وأفْعَل فيه بمعنًى - والاقتراح : الابتداع والابتكار ومنه : اقترح عليَّ فلانٌ كذا ، واقترحْتُ بِئراً : استخرجت منها ماءً قَرَاحاً . والقريحة - في الأصل - المكان الذي يجمتع فيه الماء المستنبط - ومنه استُعِيرت قريحةُ الإنسان - وفرس قارح ، إذا أصابه أثَرٌ من ظُهور نَابِهِ ، والأنْثَى قارحة ، وروضة قرحاء ، إذا كان في وسطها نَوْر ؛ وذلك لتشبيهها بالفرس القرحاء " . قوله : { فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ } للنحويين - في مثل هذا - تأويل ، وهو أن يُقَدِّرُوا شيئاً مستقبلاً ؛ لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل - وقوله : { فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } ماضٍ مُحَقَّق - وذلك التأويل هو التبيين ، أي : فقد تَبَيَّن مَسُّ القرح للقوم وسيأتي له نظائر ، نحو : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ } [ يوسف : 26 ] و { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] . وقال بعضهم : جواب الشرط محذوف ، تقديره : فتأسَّوا ، ونحو ذلك . وقال أبو حيان : " ومَنْ زعم أن جواب الشرط هو " فَقَدْ مَسَّ " ، فهو ذاهل " . قال شهابُ الدين : " غالب النحويين جعلوه جواباً ، متأولين له بما ذكرت " . فصل هذا خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحُد مع الكآبة ، يقول : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } يوم أحد فقد مَسَّهُمْ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوْمَ بَدْرٍ ، وهو كقوله تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } [ آل عمران : 165 ] . وقيل : إن الكفار قد نالهم يوم أُحُد مثل ما نالكم من الجُرح ، والقتل ؛ لأنه قُتِل منهم نيفٌ وعشرون رجلاً ، وقتل صاحبُ لوائهم ، والجراحات كَثُرَتْ فيهم ، وعُقِرَ عامةُ خَيْلهم بالنبل ، وكانت الهزيمة عليهم في أول النهار . فإن قيل : كيف قال : { قَرْحٌ مِّثْلُهُ } ، وما كان قَرْحُهم يومَ أُحُد مثل قَرْح المشركين . فالجواب : أن تفسير القرح - في هذا التأويل - بمجرد الانهزام ، لا بكَثْرة القَتْلَى . قوله : { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } يجوز في " الأيَّامُ " أن تكون خبراً لِـ " تِلْكَ " و " نُدَاوِلُهَا " جملة حالية ، العامل فيها معنى اسم الإشارة ، أي : أشيرُ إليها حال كونها مداوَلةً ، ويجوز أن تكون " الأيَّامُ " بدلاً ، أو عَطْفَ بيان ، أو نَعْتاً لاسم الإشارة ، والخبر هو الجملة من قوله : { نُدَاوِلُهَا } وقد مر نحوه في قوله : { تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا } [ أل عمران : 108 ] إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت ؛ لما عرفت أنَّ اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل و " بَيْنَ " متعلق بـ " نُدَاوِلُهَا " ، وجَوَّزَ أبُو البقاءِ أن يكون حالاً من مفعول " نُدَاوِلُهَا " ولَيْسَ بِشَيءٍ . والمداوَلة : المناوَبة على الشيء ، والمُعَاودة ، وتعهَّده مرةَ بعد أخْرَى ، يقال : دَاوَلْتُ بينهم الشيء فتداولوه ، كأن " فَاعَل " بمعنى : " فَعَل " . قال الشاعر : [ الكامل ] @ 1632 - تَرِدُ الْمِيَاهَ ، فَلاَ تَزَالُ تَدَاوُلاً في النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّل وَسَمَاعِ @@ وأدال فلانٌ فلاناً : جعل له دولة . وقال القفَّال : المداولة : نَقْل الشيء من واحد إلى آخر ، يقال : تداولته الأيدي - إذا تناولته ومنه قوله تعالى : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ } [ الحشر : 7 ] أي : تتداولونها ، ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً ، ويقال : الدُّنيا دول ، أي : تنتقل من قوم إلى آخرين . ويقال دال له الدهرُ بكذا - إذا انتقل إليه . ويقال : دُولة ، ودَوْلة - بفتح الفاء وضمها - وقد قُرِئَ بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى . واختلفوا ، هل اللفظتان بمعنًى ، أو بينهما فَرْقٌ . فقال الراغب : " إنهما سِيَّانِ ، فيكون في المصدر لغتان " . وفرَّق بعضُهم بينهما ، واختلف هؤلاء في الفرق . فقال بعضُهم : الدَّوْلَة - بالفتح - في الحرب والجاه ، وبالضم : في المال ، وهذا تردُّه القراءتان في سورة الحشر . وقيل : بالضم اسم الشيء المتداوَل ، وبالفتح نفس المصدر ، وهذا قريب . وقيل : بالضم هي المصدر ، وبالفتح الفَعْلة الواحدة ، فلذلك يقال : في دَوْلة فلان ؛ لأنها مرة في الدهر . والدَّوْر والدَّوْل متقاربان في المعنى ، ولكن بينهما عموم وخصوص ؛ فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيويّ . والدُّؤلُولُ : الداهية ، والجمع الدآليل والدُّؤلات . وقرئ شاذًّا : " يُدَاوِلَهَا " - بياء الغيبة - وهو موافق لما قبله ، ولما بعده . وقرأ العامةُ على الالتفات المفيد للتعظيم . فصل ومعنى مداولة الأيام بين الناس أن مسارَّها لا تدوم ، وكذلك مضارُّها ، فيوم يكون السرور لإنسان والغمّ لعدوه ، ويوم آخر بالعكس ، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارةً ينصر المؤمنين ، وأخْرَى ينصر الكافرين ؛ لأن نَصْر الله مَنْصِب شريف عظيم ، فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة : أنه تارة يُشَدَّد المحنة على الكفار ، وتارة على المؤمنين ، وتشديد المحنة على المؤمن أدَبٌ له في الدنيا ، وتشديد المِحْنةِ على الكافر غضب من الله تعالى عليه . ورُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجَبَل يوم أُحُد ، قال : أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : هَذَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر ، وهذا أنا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم والأيام دُوَلٌ والحرب سجال ، فقال عمر : لا سواء ؛ قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ، فقال أبو سفيان : إن كان كما تزعمون فقد خِبنا - إذَنْ وخَسِرْنا . وروى البراء بن عازب قال : " جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرُّماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبدَ الله بن جبير ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن رأيتمونا تَخَطَّفُنَا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرْسِل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرْسِل إليكم ، وكان على يمنة المشركين خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، ومعهم النساء يضربْنَ بالدفوف ، ويقُلْنَ الأشعارَ ، فقاتلوا حتى حميت الحربُ ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً ، فقال : مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه ، ويَضْرب به العدو حتى ينحني ؟ فأخذه أبو دُجانة سماك بن خَرْشَة الأنصاري ، فلما أخذه اعتَمَّ بعمامة حمراء ، وجعل يتبختر ، - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّها لمِشْيَة يبغضُهَا اللهُ ورسولُه إلا فِي هَذَا المَوْضِعِ " فَفلَقَ به هَامَ المشركين ، وحمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهُ على المشركين ، فهزموهم ، قال : فأنا - والله - رأيتُ النساء يشتدّون - قد بدت خلاخِلُهن وأسْوُقُهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله : الغنيمةَ ، أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم ، فما تنتظرون ؟ فقال عبد الله بن جُبَيْر : أنسيتم ما قال لكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : والله لنأتِيَنَّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتَوْهُم صُرِفَتْ وُجوهُهم ، فأقْبَلُوا منهزمين ، فذاك إذْ تدعوهم ، والرسول في أخراهم ، فلم يَبْقَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم غيرُ اثني عَشَرَ رَجُلاً ، فأصابوا مِنَّا سَبْعِينَ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يومَ بدر أربعين ومائة - سبعين أسيراً ، وسبعين قتيلاً - فقال أبو سفيان ثلاثَ مرات : أفي القوم محمدٌ ؟ فنهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُجيبوه ، فقال : أفي القوم ابن أبي قُحَافَةَ ثلاث مرات ؟ أفي القوم عُمَر ثلاث مرات ؟ فرجع إلى أصْحَابه ، فقال : أما هؤلاء فقد قُتِلوا ، فما مَلَكَ عمرُ نفسه ؛ فقال : كذبتَ - والله - يا عدوّ الله ؛ إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك ما يسوؤك ، قال : يوم بيوم بدر ، والحرب سِجَال ، إنكم ستجدون في القوم مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بها ولم تَسُؤنِي ، ثم جعل يزمجر : اعْلُ هُبَلُ ، اعْلُ هُبَلُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أجِيبُوهُ ، قالوا يا رسول الله ما نقول ؟ قال : قُولُوا : اللهُ أعْلَى وأجَلُّ ، قال : إنَّ لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ ، فقال صلى الله عليه وسلم : أجِيبُوه ، قالوا ما نقول ؟ قال : قُولُوا : اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ " وروي هذا المعنى عن ابن عباس . قوله : " وليعلم الله " ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين : أحدهما : أن اللام صلة لفعل مُضْمَر ، يدل عليه أول الكلم ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا نُدَاوِلها . الثاني : أن العامل فيها ( نُدَاوِلُهَا ) المذكور ، بتقدير : نداولها بين الناس ليظهر أمرهم ، ولنبين أعمالهم ، وليعلم الله الذين آمنوا ، فلما ظهر معنى اللام المضمر في " ليظهر " ، و " لتتبين " جرت مجرى الظاهرة ، فجاز العطف عليها . وَجَوَّز أبو البقاء أن تكون الواو زائدة ، وعلى هذا ، فاللام متعلقة بـ ( نُدَاوِلُهَا ) من غير تقدير شيء ، ولكن هذا لا حاجة إليه . ولم يَجْنَحْ إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع - ليس هذا منها - ووافقه بعض الكوفيين على ذلك . وقدَّرَه الزَّمَخْشَرِيُّ : " فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم " . فقدر عاملاً ، وعلق به علة محذوفة ، عطف عليها هذه العلة . قال أبو حيان : " ولم يُعَيِّن فاعل العلة المحذوفة ، إنما كَنَّى عنه بـ " كيت وكيت " ، ولا يُكَنَّى عن الشيء حتى يُعْرَف ، ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها ، فالوجه الأول أظهر ؛ إذْ ليس فيه غير حذف العامل " . ويعني بالوجه الأول أنه قَدَّره : وليعلم الله فعلنا ذلك - وهو المداولة ، أو نَيْل الكفار منكم - . وقال بعضهم : " اللام المتعلقة بفعل مُضْمَر ، إما بعده ، أو قبلَه ، أما الإضمار بعده فبتقدير : وليعلمَ الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولةَ ، وأما الإضمار قبلَه فعلى تقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور : منها : ليعلم الله الذين آمنوا ، ومنها : ليتخذ منكم شهداء ، ومنها : ليمحص الله الذي آمنوا ، ومنها : ليمحق الكافرين . فكل ذلك كالسبب والعِلَّةِ في تلك المداولة " . والعلم هنا - يجوز أن يتعدَّى لواحد ، قالوا : لأنه بمعنى : عَرَفَ - وهو مشكل ؛ لأنه لا يجوز وَصْف الله تعالى بذلك لما تقدم أن المعرفة تستدعي جَهْلاً بالشيء - أو أنَّها متعلقة بالذات دون الأحوال . ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين ، فالثاني محذوف ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم . والواو في قوله : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ } لها نظائر كثيرة في القرآن ، كقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [ الأنعام : 75 ] وقوله : { وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 113 ] . فصل تقدير الكلام : وتلك الأيام نداولها بين الناس ، ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله ، وإنما حُذِف المعطوف عليه ، للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ؛ ليُسَلِّيَهم عما جرى ، ليُعَرِّفَهم تلك الواقعة ، وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرَّهم . فإن قيل : ظاهر قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } مُشْعِر بأنه - تعالى - إنما فعل تلك المداولة ، ليكتسِبَ هذا العلم ، وذلك في حقه تعالى محال ، ونظير هذه الآية - في الإشكال - قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] وقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 3 ] . وقوله : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } [ الكهف : 12 ] وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ } [ محمد : 31 ] وقوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ } [ البقرة : 143 ] وقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] . ولقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآياتِ على أن الله تعالى لا يعلم حدوثَ الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه - تعالى - إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها . وأجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقليةَ دلَّتْ على أنه - تعالى - يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العِلْم محال ، إلا أن إطلاقَ لفظ العلم على المعلوم ، والقُدْرة على المقدور مجاز مشهور ، يقال : هذا عِلْم فلان - والمراد : معلومه - وهذه قدرة فلان - والمراد : مقدوره ، فكل آية يُشْعر ظاهرها بتجدُّد العلم ، فالمراد : تجدُّد المعلوم . إذا عُرِفَ هذا فنقول : في هذه الآية وجوه : أحدها : لِيَظْهَرَ الإخْلاَصُ من النفاق ، والمؤمنُ من الكافر . وثانيها : ليَعْلَم أولياء الله ، فأضاف العلم إلى نفسه تفخيماً . وثالثها : ليحكم بالامتياز فوُضِع العلم مكان الحكم بالامتياز ؛ لأن الحُكْم لا يحصل إلا بعد العلم . ورابعها : ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع ؛ لأنَّ المجازاة تقع على الواقع ، دُونَ المعلوم الذي لم يُوجَد . قوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } الظاهر أن " مِنْكُمْ " متعلِّق بالاتخاذ ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف ، على أنه حال من " شُهَدَاءَ " ؛ لأنه - في الأصل - صفة له . فصل والمرادُ بقوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي : شهداء على النَّاس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي ، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عالٍ ، ودرجة عالية . وقيل : المراد منه : ويُكِرِم قوماً بالشهادة ؛ وذلك : لأن قوماً من المسلمين فاتهم يومُ بدر ، وكانوا يتمنَّوْن لقاء العدو ، وأن يكون لهم يوم كيوم بدر ؛ يقاتلون فيه العدو ، ويلتمسون فيه الشهادة ، والقرآن مملوءٌ من تعظيم حال الشهداء ، فإنه قرنهم مع النبيين في قوله : { وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ } [ الزمر : 69 ] وقوله : { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] وهذه الآيات تدلُّ على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى . والشُّهداء : جمع شهيد كالكُرَماء ، والظُّرَفَاء . فصل في تسميتهم " شهداء " وجوه : أحدها : قال النَّضْر بن شميل : الشهداء أحياء ، لقوله تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] فأرواحهم حية ، وقد حضرت دار السلام ، وأرواح غيرهم لا تشهدها . الثاني : قال ابن الأنباريّ : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا لهم بالجنة ، فالشهداء جمع شهيد ، " فعيل " بمعنى : " مفعول " . الثالث : لأنهم يشهدون يوم القيامة مع النبيِّين والصِّدِّيقين ، فيكونون شهداءَ على الناسِ . الرابع : سُمُّوا شهداء ، لأنهم لما ماتوا أدْخِلوا الجنة ، بدليل أنَّ الكُفَّار لما ماتوا أدخِلوا النار ؛ قال تعالى : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] . فأما : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } فهذا اعتراض بين بعض التعليل وبعض . قال ابن عباس : أي : المشركين ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . قوله : { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } التمحيص : التخليص من الشيء . وقيل : المَحْص كالفَحْص ، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل ، والمَحْص : يقال في إبرازه عما هو متصل به ، يقال : مَحَصْتُ الذهب ، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث ، ومَحَص الثوب : إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره ، ومحص الظَّبْيُ : عدا . فـ " محص " - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً ، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش : مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان . وقال الخليل : التمحيص : التخليصُ من الشيء المعيب . وقيل : هو الابتلاء والاختبار . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 1633 - رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا @@ وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل : مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص ، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ ، قال : ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي : تُخَلَّص من الرَّهَل . [ وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك ] - يصف فرساً - : [ البسيط ] @ 1634 - صُمُّ النُّسُورِ ، صِحَاحٌ ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ @@ أي : في قوائم متجرِّدات من اللحم ، ليس فيها إلا العظم والجلد . قال المبرد : ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا : أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب . قال الواحديُّ : " وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع ، والمَحْص - بسكون الحاء - " مصنوع " - وقال الخليل : يقال : مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب " . وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر ؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها ، وهو قياس مصدر الثلاثي . ومَحَصْت السيف والسنان : جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما . قال أسامة الهذليّ : [ الطويل ] @ 1635 - وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد @@ أي : بمجلُوٍّ ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق . قال العجاج : [ الرجز ] @ 1636 - شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى كَالْكَرِّ ، لا شَخْتٌ وَلاَ فِيهِ لَوَى @@ والشوى : الظهر ، قَصَره ضرورةً ، سُمِع : فعلتُه حتى انقطع شَوَاي ، أي : ظَهْري . والمحق - في اللغة - النقصان . وقال المفضَّل : هو أن يذهب الشيءُ كلُّه ، حتَّى لا يُرَى منه شيء ، ومنه قوله تعالى : { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرِّبَا } [ البقرة : 276 ] أي : يستأصله ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة . قال الزجاج : معنى الآية : أن الله تعالى جعل الأيام مداولةً بين المسلمين والكافرين ، فإن حصلت الغلبة للكافرين كان المراد : تمحيص ذنوب المؤمنين - أي : تطهيرها - وإن كانت الغلبة للمؤمنين كان المراد : مَحْق آثار الكافرين ، ومَحْوَهم ، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين ؛ لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير مَحْق أولئك بإهلاك نفوسهم ، وهذه مقابلة لطيفة ، والأقرب أن المراد بالكافرين - هنا - طائفة مخصوصة منهم - وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ، لأن الله تعالى لم يَمْحَق كل الكافرين ، بل بَقِي كثير منهم على كُفره .