Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 142-143)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بيَّن في الآية الأولى الأسباب الموجبة في مداولة الأيام ، ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصليّ لذلك ، فقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } بدون تحمُّل المشاق ؟ وفي " أم " - هذه - أوجه : أظهرها : أنها منقطعة ، مقدَّرة بـ " بل " ، وهمزة الاستفهام ويكون معناه الإنكار عليهم . وقيل : " أمْ " بمعنى الهمزة وحدها ، ومعناه كما تقدم التوبيخ والإنكار . وقيل : هذا الاستفهام معناه النهي . قال أبو مسلم : " إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ، ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] وافتتح الكلام بذكر " أم " التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما ، لا يعينه ، يقولون : أزيد ضربت أم عمراً ؟ مع تيقُّن وقوع الضرب بأحدهما ، قال : وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً ، فلما قال : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } [ آل عمران : 139 ] كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تُؤمَرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدةٍ وَصَبْر ؟ " . وقيل : هي متصلة . قال ابنُ بَحْر : " هي عديلة همزة تقدر من معنى ما تقدم ، وذلك أن قوله : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } [ آل عمران : 140 ] و { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [ آل عمران : 140 ] إلى آخر القصة يقتضي أن نتبع ذلك أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمُّل مشقة ، وأن تجاهدوا ، فيعلم الله ذلك منكم واقعاً " . و " أحسب " - هنا - على بابها من ترجيح أحد الطرفين ، و { أَن تَدْخُلُواْ } ساد مسد المفعولين - على رأي سيبويه - ومسد الأول ، والثاني : محذوف - على رأي الأخفش . قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ } جملة حالية . قال الزَّمَخْشَرِي : " و " لما " بمعنى " لم " ، إلا أنَّ فيه ضرباً من التوقُّع ، فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقُّعه فيما يستقبل ، وتقول : وعدتني أن تفعل كذا ولمَّا ، تريد : ولم تفعل ، وأنا أتوقَّع فِعْلَه " . قال أبو حيان : " وهذا الذي قاله في " لما " - من أنها تدل على توقُّع الفعل المنفي بها فيما يستقبل - لا أعلم أحداً من النحويين ذكره ، بل ذكروا أنك إذا قلت : لما يخرج زيد ، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى ، متصلاً نفيه إلى وقت الاخبار ، أما أنها تدل على توقُّعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يُقارب ما قاله الزمخشري ، قال : " لما " لتعريض الوجود بخلاف " لم " " . قال شِهَابُ الدين : والنحاة إنما فرَّقوا بينهما من جهة أن المنفي بـ " لَمْ " هو فعل غير مقرون بـ " قد " ، والمنفي بـ " لما " فعل مقرون بها ، و " قد " تدل على التوقُّع ، فيكون كلام الزمخشري صحيحاً من هذه الجهة ، ويدل على ما قلته - من كون " لم " لنفي فعل فلان ، و " لما " لنفي قد فعل - نصُّ سيبويه فمن دونه . قال الزجاج إذا قيل فعل فلان ، فجوابه : لم يفعل ، وإذا قيل : قد فعل فلان ، فجوابه لما يفعل ؛ لأنه لما أُكِّد في جانب الثبوت بـ " قد " لا جرم أنه أكد في جانب النفي بكلمة " لما " ، وقد تقدم نظير هذه الآية في " البقرة " وظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم ، والمراد : وقوعه على نفي المعلوم ، والتقدير : أم حسبتم أن تدخلوا الجنةَ ، ولمَّا يصدر الجهادُ عنكم ؟ وتقريره : أن العلم متعلق بالمعلوم ، كما هو عليه ، فلما حَصَلَتْ هذه المطابقة - لا جرم - حَسُن إقامة كلِّ واحدٍ منهما مقامَ الآخر . فصل قال القرطبيّ : والمعنى : أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة ، كما دخل الذين قُتِلوا ، وصبروا على ألم الجراح والقتل ، من غير أن تسلكوا طريقهم ، وتصبروا صَبْرَهم ؟ لا ؛ حتَّى يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، أي : علم شهادة ، حتى يقع عليه الجزاء ، والمعنى : ولم تجاهدوا ، فيعلم ذلك منكم ، فـ " لما " بمعنى : " لم " . قوله : " مِنْكُمْ " حال من " الَّذِينَ " . وقرأ العامة { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ } بكسر الميم - على أصل التقاء الساكنين . وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها ، وفيها وجهان : الأول : أن الفتحة فتحة إتباع الميم لـ " اللام " قبلها . الثاني : أنه على إرادة النون الخفيفة ، والأًصل : ولما يعلمن ، والمنفي بـ " لما " قد جاء مؤكداً بها ، كقول الشاعر : [ الرجز ] @ 1637 - يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا @@ فلما حذفت النون بقي آخر الفعل مفتوحاً ، كقول الشاعر : [ الخفيف ] @ 1638 - لا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أن تَرْ كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ @@ وعليه تُخَرَّج قراءةُ : { أَلَم نَشْرَحَ } [ الشرح : 1 ] - بفتح الحاء - . وقول الآخر : [ الرجز ] @ 1639 - مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أفْر مِنْ يَوْمِ لَمْ يُقْدَرَ أوْ يَوْم قُدِرْ @@ قوله : " ويَعْلَمَ " العامة على فتح الميم ، وفيها تخريجان : أحدهما : وهو الأشهر - أن الفعل منصوب ، ثم هل نصبه بـ " أن " مقدَّرة بعد الواو المقتضية للجمع كهي في قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، أي : لا تجمع بينهما - وهو مذهب البصريين - أو بواو الصرف - وهو مذهب الكوفيين - يعنون أنه كان من حق الفعل أن يُعْرَب بإعراب ما قبله ، فلما جاءت الواو صرفته إلى وجهٍ آخرَ من الإعراب . الثاني : أن الفتحةَ فتحةُ التقاء الساكنين ، والفعل مجزوم ، فلما وقع بعده ساكنٌ آخر ، احتيج إلى تحريك آخرهِ ، فكانت الفتحة أوْلَى ؛ لأنها أخف ، وللإتباع لحركة اللام ، كما قيل ذلك في أحد التخريجين في قراءة " وَلَمَّا يَعْلَمَ اللهُ " بفتح الميم - والأول هو الوجه . وقرأ الحسنُ وأبو حيوةَ وابنُ يَعْمُرَ : بكسر الميم ؛ عطفاً على " يَعْلَم " المجزوم بـ " لَمَّا " . وقرأ عَبْدُ الوَارِثِ - عن أبي عَمْرو بْنِ العَلاَءِ - " وَيعْلَمُ " بالرفع ، وفيها وجهان : أظهرهما : أنه مستأنف ، أخبر - تعالى - بذلك . وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : " على أن الواو للحال ، كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون " . قال أبُو حَيَّانَ : " ولا يصح ما قال ؛ لأن واو الحال لا تدخل على المضارع ، لا يجوز : جاء زيد ويضحك - تريد : جاء زيد يضحك ، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل ، فكما لا يجوز : جاء زيد وضاحكاً ، كذلك لا يجوز : جاء زيد ويضحك فإن أولَ على أن المضارع خبر لمبتدأ محذوف ، أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين . كما أولوا قول الشاعر : [ المتقارب ] @ 1640 - … نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكا @@ أي : وأنا أرهنهم " . قال شهابُ الدين : " قوله : لا تدخل على المضارع ، هذا ليس على إطلاقه ، بل ينبغي أن يقول : على المضارع المثبت ، أو المنفي بـ " لا " ؛ لأنها تدخل على المضارع المنفي بـ " لم ولمَّا " . وقد عُرِف ذلك مراراً " . ومعنى الآية : أن دخول الجنة ، وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان . قوله تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ } قرأ البزي : بتشديد تاء " تَمَنَّوْنَ " ، ولا يمكن ذلك إلا في الوصل ، وقاعدته : أنه يصل ميم الجمع بواو ، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] . قوله : " مِن قَبْلِ " الجمهور على كسر اللام ؛ لأنها مُعْربة ؛ لإضافتها إلى " أنْ " وصلتها . وقرأ مجاهد وابنُ جبير : { مِنْ قَبْلُ } بضم اللام ، وقطعها عن الإضافة ، كقوله تعالى : { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] وعلى هذا فَـ " أنْ " وَصِلَتُها بدل اشتمال من " الْمَوْتَ " في محل نصب ، أي : تَمَنَّوْنَ لقاء الموت ، كقولك : رَهِبْتُ العَدُوَّ لقاءَه ، والضمير في " تَلْقَوْهُ " فيه وجهان : أظهرهما : عوده على " الْمَوْتَ " . والثاني : عوده على العدو ، وإن لم يجر له ذِكْر - لدلالة الحال عليه . وقرأ الزُّهَرِيُّ ، والنخعيّ " تُلاَقُوه " ، ومعناه معنى " تَلْقَوْه " ؛ لأن " لقي " يستدعي أن يكون بين اثنين - بمادته - وإن لم يكن على المفاعلة . قوله : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } الظاهر أن الرؤية بصرية ، فيكتفى بمفعول واحد . وجوَّزوا أن تكون علمية ، فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ ، هو محذوف ، أي : فقد علمتموه حاضراً - أي : الموت - . إلا أن حَذْف أحد المفعولين في باب " ظن " ليس بالسَّهْل ، حتى إن بعضهم يَخُصُّه بالضرورة ، كقول عنترة : [ الكامل ] @ 1641 - وَلَقَدْ نَزَلْتِ ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ @@ أي : فلا تظني غيره واقعاً مني . قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } يجوز أن تكون جملة حالية - وهي حال مؤكِّدة - رفعت ما تحتمله الرؤية من المجاز ، أو الاشتراك بينها وبين رؤية القلب ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، بمعنى : وأنتم تنظرون في فعلكم - الآن - بعد انقضاء الحرب ، هل وَفَّيْتُمْ ، أو خالفتم ؟ وقال ابنُ الأنْبَارِي : " رَأيْتُمُوهُ " ، أي : قابلتموه { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حيث اختلف معناهما ؛ لأن الأول بمعنى : المقابلة والمواجهة ، والثاني بمعنى : رؤية العين . وهذا - أعني : إطلاق الرؤية على المقابلة والمواجهة - غير معروف عند أهل اللسان ، وعلى تقدير صحته ، فتكون الجملة من قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملة حالية مبيِّنة - لا مؤكِّدة - لأنها أفادت معنًى زائداً على معنى عاملها . ويجوز أن يقدَّر لِـ " تَنْظُرُونَ " مفعولاً ، ويجوز أن لا يُقَدَّر ؛ إذ المعنى : وأنتم من أهل النظر . فصل قال المفسرون : إنَّ قوماً من المسلمين تَمَنَّوا يوماً كيوم بدر ؛ ليقاتلوا ، وليستشهدوا ، فأراهم الله يومَ أُحُد . وقوله : { تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ } أي : سبب الموت - وهو الجهاد - { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني : أسبابه ، وذكر النظر بعد الرؤية ؛ تأكيداً - كما قدمناه - . وقيل : لأن الرؤية قد تكون بمعنى : العلم ، فقال : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } ليعلم أن المراد بالرؤية : هي البصرية . وقيل : وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم .