Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 149-151)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما أمر اللهُ تَعَالَى بالاقتداء بأنصار الأنبياءِ حذَّر عن طاعة الكفار - يعني مشركي العرب - وذلك أنّ الكفار لما أرجفوا بقولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ودعا المنافقونَ بعضَ ضَعَفَةِ المُسْلِمِين ، مَنَعَ المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين . وقيل : المرادُ - بالذين كفروا - عبد الله بن أبي وأتباعه في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم ، وادخلوا في دينهم ، وقالوا : لو كان محمدٌ رسولَ اللهِ ما وقعت له هذه الواقعةُ ، وإنما هو رجل كسائر الناسِ ، يَوْمٌ لَهُ ، وَيَومٌ عليه . وقال آخرون : المراد - بالذين كفروا - اليهود الذين كانوا بالمدينة يُلْقُون الشُّبهَاتِ . وقيل : المرادُ أبو سفيان ؛ لأنه كان شجرة الفتن . قال ابنُ الْخَطِيبِ : " والأقرب أنه يتناول كُلَّ الكفار ؛ لأن اللفظ عامٌّ ، وخصوص السببِ لا يمنع من عموم اللفظِ " . قوله : { يَرُدُّوكُم } جواب { إِن تُطِيعُواْ } وقوله : { إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } لا يُمْكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه ، بل لا بُدَّ من التخصيصِ . وقيل : إن تطيعوهم فيما يأمرونكم به يوم أحُدٍ من ترك الإسلامِ . وقيل : إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم به من الضلال . وقيل في المشورة . وقيل في تَرْك المحاربة ، وهو قوله : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [ آل عمران : 156 ] ثم قال : { يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } يعني يردوكم إلى الكُفْر بعد الإيمان ؛ لأن قبولَهُم في الدعوة إلى الكفر ، ثم قال : { فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } فلما كان اللفظ عاماً دخل فيه خُسران الدنيا وخُسْران الآخرة . أما خسران الدنيا فلان أشَقَّ الأشياء على العُقلاء في الدنيا الانقياد إلى العَدُوِّ ، وإظهار الحاجة إليه . وأما خُسْران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبَّد ، والوقوع في العقاب المخلَّد و " خَاسِرِينَ " حالٌ . قوله : { بَلِ ٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ } مبتدأ وخبر ، وقرأ الحسنُ بنصب الجلالةِ ؛ على إضمار فِعْل يدل عليه الشرط الأول ، والتقدير : لا تطيعوا الذين كفروا ، بل أطيعوا الله ، و " مَوْلاَكُمْ " صفة . وقال مَكِّي : " وأجاز الفرَّاء : بل الله - بالنصب - " كأنه لم يطلع على أنها قراءة . فصل والمعنى : أنكم إن تطيعوا الكفار لينصروكم ويُعينوكم فهذا جَهْل ، لأنهم عاجزون متحيرون ، والعاقل يطلب النُّصْرَةَ من الله تعالى ؛ لأنه هو الذي ينصركم على العَدُوِّ ، ثم بيَّن أنه خير الناصرين ، وذلك لوجوهٍ : أولها : أنه - تعالى - هو القادرُ على نصرتك في كلِّ ما تريدُ والعالم الذي لا يَخْفَى عليه دعاؤك وتضرُّعك ، والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه . ثانيها : أنه ينصرك في الدُّنْيَا والآخرة ، وغيره ليس كذلك . ثالثها : أنه ينصرك قبل سُؤالك ومعرفتك بالحاجة ، كما قال : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [ الأنبياء : 42 ] وغيره ليس كذلك . واعلم أن ظاهر قوله : { وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّاصِرِينَ } يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصِرِينَ ، وهو منزَّه ، عن ذلك ، وإنما ورد الكلامُ على حسب تعارفهم ، كقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] . قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ . قوله : { سَنُلْقِي } الجمهور بنون العظمة ، وهو التفات من الغيبة - في قوله : { وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّاصِرِينَ } وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه - تعالى - . وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ " سَيُلْقِي " بالغيبة ؛ جَرْياً على الأصل . وقدم المجرور على المفعول به ؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال : والإلقاء - هنا - مجاز ؛ لأن أصلَه في الأجرام ، فاستُعِيرَ هنا ، كقول الشَّاعر : [ الطويل ] @ 1655 - هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهِمَا عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ @@ وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ ، وأبو جعفرٍ ، ويعقوبُ : " الرُّعْب " و " رُعْباً " - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل : هما لغتان . وقيل : الأصل الضم ، وخُفِّف ، وهذا قياس مطردٌ . وقيل : الأصلُ السكون ، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح ، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ . والرُّعْب : الخوف ، يقال : رعبته ، فهو مرعوب ، وأصله من الامتلاء ، يقال : رَعَبْتُ الحوض ، أي : ملأته وسَيْل راعب ، أي : ملأ الوادي . فصل قيل : هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد ؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة . والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين : الأول : أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم ، فتركوهم ، وفرّوا منهم من غير سبب ، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل ، وقال : أين ابنُ أبي كبشةَ ؟ أين ابن أبي قُحافةَ ؟ أين ابن الخطابِ ؟ فأجابه عمر ، ودارت بينهم كلماتٌ ، وما تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل ، والذهاب إليهم . والثاني : أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا ، وقالوا : ما صنعنا شيئاً ، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد ، ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية ، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم . وقيل : إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد ، بل هو عام . قال القفالُ : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُدٍ ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار ، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان ، وقد فعل الله ذلك ، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل . ونظير هذه الآية قوله : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " . فصل قال بعض العلماءِ : إن هذا العموم على ظاهره ، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب ، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين ، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار . قوله : { فِي قُلُوبِ } متعلق بالإلقاء ، وكذلك { بِمَآ أَشْرَكُواْ } ولا يضر تعلُّق الحرفين ؛ لاختلاف معناهما ، فإن " في " للظرفية ؛ الباء للسببية . و " ما " مصدرية ، و " ما " الثانية مفعول به لِـ " أشْرَكُوا " وهي موصولة بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والراجع : الهاء في " به " ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها ، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي : الحجة - كأنه قيل : لا سُلطان على الإشراك فينزل . كقول الشاعر : [ السريع ] @ 1656 - … وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ @@ أي لا ينجحر الضَّبُّ بها ، فيُرَى . ومثله قول الشاعر : [ الطويل ] @ 1657 - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ … @@ أي : لا منار فيهتدى به ، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً . و " سُلْطَاناً " مفعول به لِـ " يُنَزِّلُ " . قوله : { بِمَآ أَشْرَكُواْ } " ما " مصدرية ، والمعنى : بسبب إشراكهم باللهِ ، وتقريره : أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار ، كقوله : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار ؛ لأنه يقول : إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني ، فالآخر ينصرني ، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ . قوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } السُّلْطَان - هنا - : الحجة والبرهان ، وفي اشتقاقه وجوهٌ : فقيل : من سليط السراج الذي يوقَد به ، شُبِّه لإنارته ووضوحه . قاله الزجاجُ . وقال ابن دُرَيْدٍ : من السلاطة ، وهي الحِدَّة والقَهْر . وقال الليثُ : السلطان : القدرة ؛ لأن أصل بنائه من التسليط ، فسلطان الملكِ : قوته وقدرته ، ويسمى البرهان سُلْطَاناً ، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ . فإن قيل : إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله ؟ فالجوابُ : أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً ، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه . وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون : إن هذا لا دليلَ عليه ، فلم يَجُزْ إثباتُه . وبالغ بعضهم ، فقال : لا دليلَ عليه ، فيجب نَفْيُه . فصل استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد ؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه ، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً ، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه . وقوله : { وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ } بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم : مسكنهم النار . قوله : { وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّالِمِينَ } المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : مثواهم ، أو النار . المثوى : مَفْعَل ، من ثَوَيْتُ - أي : أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي ، ثم يثوي ، ولا يلزم المأوى الإقامة ، بخلاف عكسه .