Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 15-17)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى ، وتسهيل الثانية ، والباقون بالتحقيق فيهما ، ومَد هاتَيْن الهمزَتَيْن - بلا خلاف - قالون عن نافع ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل . وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام " قُلْ " . ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها ، وتحرير مذاهبهم ؛ فإنه موضع عسير الضبط ، فنقول : الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع - أعني همزتين ، أولاهُمَا مفتوحةُ ، والثانية مضمومة - الأول : هذا الموضع . والثاني : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ، والثالث : { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [ القمر : 25 ] ، والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتب : أحدها : مرتبة قالون ، وهي تسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ ، وإدخال ألِفٍ بين الهمزتين - بلا خلاف - كذا رواه عن نافع . الثانية : مرتبة وَرْش وابن كثير ، وهي تسهيل الثانية - أيضاً - بين بين ، من غير إدخال ألِفٍ بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع . الثالثة : مرتبة الكوفيين وابنِ ذكوان عن ابن عامر ، وهي تحقيق الثانيةِ ، من غير إدخال ألف بلا خلاف - ، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر . الرابعة : مرتبة هشام ، وهي أنه رُويَ عنه ثلاثةُ أوجه : الأول : التحقيق ، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاثِ مواضِعَ . الثاني : التحقيق ، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة . الثالث : التفرقة بين السور ، فيُحقق ويُقْصِر في هذه السورة ، ويُسَهِّل ويمد في السورتين الأخْرَيَيْن . الخامسة : مرتبة أبي عمرو ، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه . وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة . ونقل أبو البقاء أنه قُرِئَ : أَؤُنَبِّئكم - بواوٍ خالصةٍ بعد الهمزةِ ؛ لانضمامها - وليس ذلك بالوَجْه . وفي قوله : { أَؤُنَبِّئُكُم } التفاتٌ من الغيبة - في قوله : " للنَّاسِ " - إلى الخطاب ، تشريفاً لهم . " بِخَيْرٍ " متعلق بالفعل ، وهذا الفعل لَمَّا لم يضمن معنى " أعلم " تعدى لاثنين ، الأول تعدى إليه بنفسه ، وإلى الثاني بالحرف ، ولو ضُمِّنَ معناها لتعدَّى إلى ثلاثة . و " مِنْ ذَلِكُمْ " متعلق بـ " خَيْر " ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل ، والإشارة بـ " ذَلِكُمْ " إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع ، ولا يجوز أن تكون " خير " ليست للتفضيل ، ويكون المراد به خيراً من الخيور ، ويكون " مِنْ " صفة لقوله : " خَيْرٍ " . قال أبو البقاء : " من " في موضع نَصْب بخير ، تقديره [ بما يفضل من ذلك ، ولا يجوز أن يكون صلة لخير ؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها ] مما رغبوا فيه بعضاً لِمَا زهدوا فيه من الأموال ونحوها ، وتابَعَهُ في ذلك أبو حيان . فصل كيفية النَّظم أنه - تعالى - لما عدَّد نِعَم الدنيا بيَّن - هنا - أن منافع الآخرة خيرٌ منها كما قال في آية أخرى : { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [ الأعلى : 17 ] ؛ لأن نعم الدنيا مشوبَةٌ بالأنكاد ، فانيةٌ ، ونِعَم الآخرة خالصةٌ ، باقيةٌ . قوله : { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } يجوز فيه أربعة أوجهٍ : أحدها : أنه متعلّق بخَيْرٍ ، ويكون الكلام تم هنا ، وتُرْفَع " جَنَّاتٌ " على خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره هو جنات ، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات ، فالجملة بيان وتفسير للخَيْريَّة ، ومثله قوله تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكُمُ } [ الحج : 72 ] ، ثم قال : { ٱلنَّارُ وَعَدَهَا ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الحج : 72 ] ويؤيد ذلك قراءة " جَنَّاتٍ " - بكسر التاء - على أنها بدل من " بِخَيْرٍ " فهي بيان للخير . والثاني : أن الجارَّ خبر مقدم ، و " جَنَّاتٌ " مبتدأ مؤخر ، أو يكون " جَنَّاتٌ " فاعلاً بالجار قبله - وإن لم يعتمد - عند مَنْ يَرَى ذلك ، وعلى هذين التقديرين ، فالكلام تم عند قوله : { مِّن ذٰلِكُمْ } ، ثم ابتدأ بهذه الجملة ، وهي - أيضاً مبينة ومفسِّرة للخَيْرية . وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي - مع جَرِّ " جَنَّات " - يعني أنه لم يُجِز الوجهين إلا إذا جررت " جنات " بدلاً من " خَيْر " . الوجه الأول : أنه متعلق بـ " أؤُنَبِّئُكُمْ " . الوجه الثاني : أنه صفة لـ " خَيْر " . ولا بد من إيراد نصه ؛ فإن فيه إشكالاً ، قال - رحمه الله - بعد أن ذكر أن " لِلَّذِينَ " خبر مقدَّم ، و " جنات " مبتدأ - : " ويجوز الخفض في " جناتٍ " على البدل من " خَيْر " على أن تجعل اللام في " لِلَّذِينَ " متعلقةً بـ " أؤُنَبِّئُكُمْ " ، أو تجعلها صفة لـ " خَيْر " ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض " جنات " ؛ لأن حروف الجر ، والظروف إذا تعلقت بمحذوف ، وقد قامت مقامه - صار فيها ضمير مقدر مرفوع ، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير ، كقولك : لزيد مال ، في الدار زيد ، خلفك عمرو ، فلا بد من رفع " جَنَّات " إذا تعلقت اللام بمحذوف ، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت " جَنَّات " بفعلها ، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار ، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف ، أو حروف الخفض صفةً لما قبلها ، فحينئذ يتمكن ويحْسُن رفعُ الاسم بالاستقرار ، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة ؛ وكذلك إذا كانت أحوالاً " . فقد جوَّز تعلُّقَ هذه اللام بـ " أؤُنَبِّئُكُمْ " أو بمحذوف على أنها صفة لخير ، بشرط أن يُجَرَّ لفظُ " جنات " على البدل من " خَيْر " وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع " جَنَّات " وعلَّل ذلك بأن حروف الجر تتعلق بمحذوف ، يحمل الضمير ، فوجب أن يُؤتَى له بمبتدأ هو " جَنَّات " وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم ؛ إذ لقائل أن يقول : أجوز تعلق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع " جَنَّات " على أنها خبر مبتدأ محذوف ، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت ولكن الوجهين ضعيفان من جهة أخرى ، وهو أن المعنى ليس واضحاً بما ذكر مع أنّ جعله صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة بـ " أؤُنَبِّئُكُمْ " ؛ إذ لا معنى له ، وقوله - في الظروف وحروف الجر - : إنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات … وكذلك إن كانت أحوالاً - فيه قصور ؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع : منها : الموضعان اللذان ذكرهما . وثالثها : أن يقعا صلة . ورابعها : أن يقعا خبراً لمبتدأ . وخامسها : أن تعتمد على نفي . وسادسها : أن تعتمد على استفهام . وقد تقدم تحرير هذا . فصل قد بيَّنا في قوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] معنى التقوى ، وبالجملة فإن المتقي هو الآتي بالواجبات ، المحترز عن المحظورات . وقيل : التقوى عبارة عن اتقاء الشرك ؛ لأن التقوى - في عُرْف القرآن - مختصة بالإيمان . قال تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } [ الفتح : 26 ] ، وظاهر اللفظ يطابق الامتنان بحقيقة التقوى ، وهي حاصلةٌ عند حصولِ اتقاء الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك ، فوجب حملُه على مَن اتقى الكفرَ : قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه أربعة أوجهٍ : أحدها : أنه في محل نصب على الحال من " جَنَّات " ؛ لأنه - في الأصل - صفة لها ، فلما قُدِّم نصب حالاً . الثاني : أنه متعلق بما تعلق به " لِلَّذِينَ " من الاستقرار ، إذَا جعلناه خبراً ، أو رافعاً " جَنَّاتٌ " بالفاعلية ، أما إذا علقته بـ " خَيْر " أو " أؤنَبَّئُكُمْ " فلا ؛ لعدم تضمينه الاستقرار . الثالث : أن يكون معمولاً لـ " تَجْرِي " ، وهذا لا يساعد عليه المعنى . الرابع : أنه متعلق بـ " خَيْر " ، كما تعلق به " لِلَّذِينَ " ، كما تقدم . ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله : { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } ثم يُبْتَدَأ بقوله : { عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } - على الابتداء والخبر - وتكُون الجملة مبيِّنة ومفسِّرة للخيرية ، كما تقدم في غيرها . وقرأ يعقوب " جَنَّاتٍ " بكسر التاء - وفيه ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أنها بدل من لفظ " بِخَيْر " فتكون مجرورة ، وهي بيان له - كما تقدم . الثاني : أنها بدل من محل " بِخَيْر " - ومحله النصب - وهو في المعنى كالأول . الثالث : أنه منصوب بإضمار " أعني " ، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر . قوله : " تَجْرِي " صفة لـِ " جَنَّات " ، فهو في محل رفع ، أو نصب ، أو جر - على حسب القراءتين ، والتخاريج فيهما - و " مِنْ تَحْتِهَا " متعلق بـ " تَجْرِي " وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حال من " الأنهار " قال : أي : تجري الأنهار كائنةً تحتها ، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه . قوله : { خَالِدِينَ } حال ، وصاحبها الضمير المستكن في " لِلَّذِينَ " والعامل فيها - حينئذ - الاستقرار المقدَّر . وقال أبو البقاء : " إن شئت من الهاء في : تَحْتِهَا " ، وهذا الذي ذكره - إنما يتمشى على مذهب الكوفيين ، وذلك أن جعلها حالاً من الهاء في تحتها يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى ؛ لأن الخلود من أوصاف الجنة ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاءِ ، فكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير مرفوع بارز ، هو الذي كان مستتراً في الصفة نحو : زيد هند ضاربها هو ، والكوفيون يقولون : إن أمِنَ اللبس - كهذا - لم يجب بروز الضمير ، وإلا يجب ، والبصريون لا يفرقون . وتقدم البحث في ذلك . قوله : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ } من رفع " جَنَّاتٌ " - كما هو المشهور - كان عطف " أزْواجٌ " و " رِضْوانٌ " سَهْلاً ، ومَنْ كَسَر التاء فيجب - حينئذ - على قراءته أن يكون مرفوعاً على أنه مبتدأ خبره مضمر ، تقديره : ولهم أزواجٌ ، ولهم رضوان ، وتقدم الكلام على " أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ " في البقرة . فصل اعلم أن النعمة - وإن عَظُمَت - لن تكمل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنْس إلاَّ بِهِنَّ وقد وصفهن بصفة واحدةٍ جامعةٍ لكل مطلوب ، فقال : " مُطَهَّرَةٌ " فيدخل في ذلك الطهارة من الحيض والنفاس والأخلاق الدنيئة ، والقُبْح ، وتشويه الخِلْقة ، وسوء العِشرة ، وسائر ما ينفر عنه الطبع . قوله : " وَرِضْوَان " فيه لغتان : ضم الراء ، وهي لغة تميم وقيس ، وبها قرأ عاصم في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي { مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } [ المائدة : 16 ] ، فبعضهم نقل عنه الجَزْم بكسرها ، وبعضهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة . والكسر ، وهو لغة الحجاز ، وبها قرأ الباقون - وهل هما بمعنى واحد ، أو بَينهما فرقٌ ؟ قولان : أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحد - كالعُدْوان . قال الفرّاء : " رَضِيتُ رِضاً ، ورِضْوَاناً ورُضْواناً ، ومثل الرِّضْوَان - بالكسر - الحِرْمان ، وبالضم الطُّغْيَان ، والرُّجحان ، والكُفْران ، والشُّكْران " . الثاني : أن المكسور اسم ، ومنه رِضوان : خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته . والمضموم هو المصدر ، و " مِنَ اللهِ " صفة لـِ " رِضْوَان " . فصل روى أبو سعيد الخدري أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ ؟ فَيَقُولُ : ألاَ أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُونَ : يَا رَبِّ ، وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي ، فَلاَ أسْخَطْ عَلَيْكُمُ بَعْدَهُ أبَداً " . ثم قال : { وَٱللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ } ، أي : عالم بمصالحهم ، فيجب أن يَرْضَوْا لأنفسهم ما اختاره لهم . قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ } يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ ، والنصبَ ، والجرَّ ، فالرفع من وجهينِ : أحدهما : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذين يقولون كذا مستجاب لهم ، أو لهم ذلك الجزاء المذكور . الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون ؟ فقيل : الذين يقولون كيت ، وكيت . والنصب من وجه واحدٍ ، وهو النصب بإضمار أعني ، أو أمدح ، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر ، ويُسَمَّيَان : الرفع على القطع ، والنصب على القطع . والجر من وجهين : أحدهما : النعت . والثاني : البدل ، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان : أحدهما : جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا ، أو بدلاً منه . والثاني : جعله نعتاً للعباد ، أو بدلاً منهم . واستضعف أبو البقاء جعله نعتاً للعباد ، قال : [ ويضعف أن يكون صفةً للعباد ] ؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة ، فهو يُجازيهم عليها ، كما قال : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم } [ النساء : 25 ] . والجملة من قوله : { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ } يجوز أن تكون معترضة ، لا محل لها ، إذا جعلتَ " الَّذِينَ يَقُولُونَ " تابعاً لـِ " الَّذِينَ اتَّقَوا " - نعتاً أو بدلاً - ، وإن جعلته مرفوعاً ، أو منصوباً فلا . فصل اعلم أن قولَهم { رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } يدل على أنهم توسَّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة ، والله - تعالى - مدحهم بذلك ، وأثْنَى عليهم ، فدلَّ هذا على أن العبد - بمجرد الإيمان - يستوجب الرحمةَ والمغفرةَ من الله تعالى ، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى : { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } [ آل عمران : 193 ] . فإن قيل : أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة ؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله : { ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ } ؟ فالجواب : أن هذه الآيةَ تؤكد ما قلنا ؛ لأنه - تعالى - جعل مجردَ الإيمانِ وسيلةً إلى طَلَب المغفرة ، ثم ذكر بعده صفاتِ المطيعين ، وهي كونهم صابرين صادقين ، ولو كانت هذه الصفات شرائطَ للحصول على المغفرة لكان ذِكرُها قبل طَلَب المغفرة أولى ، فلما رتَّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان ، ثم ذكر بعده هذه الصفاتِ ، علمنا أن هذه الصفاتِ غيرُ معتبرة في حصول أصل المغفرة ، وإنما هي مُعْتَبَرَة في حصول كمال الدرجات . قوله تعالى : { ٱلصَّابِرِينَ } إن قدرت { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ } منصوبَ المحل ، أو مجروره - على ما تقدم - كان " الصَّابِرِينَ " نعتاً له - على كلا التقديرين ، فيجوز أن يكون في محل نصب ، وأن يكون في محل جر ، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب " الصَّابِرِينَ " بإضمار " أعني " . فصل المراد بالصابرين في أداء المأمورات ، وترك المحظورات ، وعلى البأساء ، والضراء وحين البأس ، والصادقين في إيمانهم . قال قتادة : " هم قوم صدقت نِيَّاتُهم ، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم ، فصدقوا في السر والعلانية " . فالصدق يجري على القول والفعل والنية ، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً ، يقال : صدق فلان في القتال ، وصدق في الحكمة ، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ . " القانِتِينَ " المطيعين ، المُصَلِّين ، والقنوت : عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها ، " والمنفقين " أموالهم في طاعة الله ، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه ، وأهله ، وأقاربه ، وصلة رحمه ، وفي الزكاة ، والجهاد ، وسائر وجوه البر . { وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ } . قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ : يعني المصلين بالأسحار . وعن زيد بن أسلم : هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ . وقال الحسنُ : مدوا الصلاة إلى السَّحَر ، ثم استغفروا . وقال نافع : كان ابن عمر يُحْيِي الليل ، ثم يقول : يا نافِعُ ، أسْحَرْنَا ؟ فيقول : لا ، فيعاوِدُ الصلاةَ ، فإذا قلتُ : نَعَمْ ، قعد يستغفر اللهَ ، ويدعو حتى يُصْبحَ . وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ ، أنا الْملِكُ ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ ؟ " رواه مسلم . قال القرطبيُّ : وقد اختلف في تأويله ، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عز وجل - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً ، يَقُولُ : هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى ؟ " صححه أبو محمد عبدُ الحق ، وهو يرفع الإشكال ، ويوضِّح كلَّ احتمال ، وأن الأول من باب حذف المضاف ، أي : ينزل مَلَكُ رَبِّنَا ، فيقول . وقد رُوِيَ " يُنْزَلُ " - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا . وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه : " لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ " . واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة ، وأقبل على العبوديةِ ، كانت الطاعة أكملَ ، وأشقَّ ، فيكثر ثوابُها ، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر ، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً ، فيكون وقتاً للوجود العام . و " الأسْحَار " جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ ، ايُّ وقت هو ؟ فقال الزّجّاج وجماعة : إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر ، ومنه تسحر ، أي : أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ - إذا سافر فيه - . قال زُهَيْر : [ الطويل ] @ 1364 - بَكَرْنَ بُكُوراً ، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ @@ وقال الرَّاغب : " السَّحَر : اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت ، ويقال : لَقِيتُه بأعلى السحرين ، والْمُسْحِر : الخارج سَحَراً ، والسّحور : اسم للطعام المأكول سَحَراً ، والتَّسَحُّر : أكلُه " . والمُسْتَحِر : الطائر الصيَّاح في السَّحَر . قال الشاعر : [ المتقارب ] @ 1365 - يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَحِرْ @@ وقال بعضهم : أسْحَر الطائرُ ، أي : صاح ، وتحرك في صياحه ، وأنشد البيت ، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر ، ويقال : أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي : دخل في وقت الظهر . قال : [ المتقارب ] @ 1366 - وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَا @@ ومثله : استحر أيضاً . وقال بعضهم : السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر . وقال بعضهم - أيضاً - : السحر - عند العرب - من آخر الليل ، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه ، يقال له سحر قيل : وسمي السحر سحراً ؛ لخفائه ، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ ؛ للُطْفِهِ وخفائه . والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة ، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها - : " مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري " سُمِّي بذلك لخفائه . و " سَحَر " فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه ، والتصرف وعدمه ، والإعراب وعدمه ، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى - . فإن قيل : كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ ، وكلُّها لقبيل واحد ؟ ففيه جوابان : أحدهما : أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً - ، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم ؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح . الثاني : أن هذه الصفات متفرقة فيهم ، فبعضُهم صابر ، وبعضُهم صادق ، فالموصوف بها متعدِّد . هذا كلام أبي البقاء . وقال الزمخشريُّ : " الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها " . قال أبو حيّان : " ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال " . قال شهاب الدين : " قد علمه علماء البيان ، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة ، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب " . والباء في قوله : " بِالأسْحَارِ " بمعنى " في " .