Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 18-18)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
العامة على " شَهِدَ " فعلاً ماضياً ، مبنيًّا للفاعل ، ولفظ الجلالة رَفْع به . وقرأ أبو الشعثاء : " شُهِدَ " مبنيًّا للمفعول ، ولفظ الجلالة قائِم مقام الفاعل ، وعلى هذه القراءة يكون " أنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ " في محل رفع ؛ بدلاً من اسم " اللهُ " - بدل اشتمال ، تقديره : شُهِدَ وحدانيةُ الله - تعالى - وألوهيتهُ . ولما كان المعنى على هذه القراءة كذلك أشكل عطف الملائكة ، وأولي العلم على لفظ الجلالة ، فخُرِّج ذلك على عدم العطف ، بل إما على الابتداء ، والخبر محذوف ؛ لدلالة الكلام عليه ، تقديره : والملائكة ، وأولو العلم يشهدون بذلك ، يدل عليه قوله تعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ } ، وإما على الفاعلية بإضمار محذوف ، تقديره : وشَهِدَ الملائكةُ ، وأولو العلم بذلك ، وهو قريب من قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [ النور : 36 ] ، في قراءة مَنْ بناه للمفعول . وقوله : [ الطويل ] @ 1367 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ @@ وقرأ أبو المهلَّب : " شُهَدَاءَ اللهِ " جمعاً على فُعَلاَء - كظُرفاءَ - منصوباً ، ورُوِيَ عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك إلا أنه مرفوع ، وفي كلتا القراءتين مضاف للفظ الجلالة ، فأما النصب فعلى الحال ، وصاحبها هو الضمير المستتر في " الْمُسْتَغْفِرِينَ " . قال ابنُ جني ، وتبعه الزمخشريُّ ، وأبو البقاء : وأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ ، أي : هم شهداءُ الله . وشهداء : يُحْتَمل أن يكون جمع شاهد - كشاعر وشُعَراء - وأن يكون جمع شهيد كظريف وظُرفاء . وقرأ أبو المهلب - أيضاً - : " شُهُداً الله " - بضم الشين والهاء والتنوين ونصب لفظ الجلالة وهو منصوب على الحال ؛ جمع شهيد - كنذير ونُذُر - واسم " الله " منصوب على التعظيم أي يشهدون الله ، أي : وحدانيته . وروى النقاش أنه قرأ كذلك ، إلاّ أنه قال : برَفْع الدال ونصبها ، والإضافة للَفْظ الجلالة ، فالرفع والنصب على ما تقدم في " شُهَدَاءَ " ، وأما الإضافة ، فيحتمل أن تكون محضة ، بمعنى أنك عرفتهم إضافتهم إليه من غير تعرض لحدوث فعل ، كقولك : عباد الله ، وأن يكون من نصب كالقراءة قبلها فتكون غير محضة . ونقل الزمخشريُّ أنه قُرِئ " شُهَدَاء لله " جمعاً على فُعَلاَء ، وزيادة لام جر داخلة على اسم الله ، وفي الهمزة النصب والرفع ، وخرجهما على ما تقدم من الحال والخبر ، وعلى هذه القراءات كلها ففي رفع " الْمَلاَئِكَةِ " وما بعدها ثلاثة أوجه : أحدها : الابتداء ، والخبر محذوف . والثاني : أنه فاعل بفعل مقدر . الثالث : - ذكره الزمخشريُّ - وهو النسق على الضمير المستكن في " شَهِدَ اللهُ " ، قال : " وجاز ذلك لوقوع الفاصلِ بينهما " . قوله : " أنَّهُ " العامة على فَتح الهمزة ، وإنما فُتِحَت ؛ لأنها على حذف حرف الجر ، أي : شهد الله بأنه لا إله إلا هو ، فلما حذف الحرف جاز أن يكون محلها نصباً ، وأن يكون محلها جَرًّا . وقرأ ابن عباس " إنَّهُ " - بكسر الهمزة - وفيها تخريجان : أحدهما : إجراء " شَهِدَ " مُجْرَى القول , لأنه بمعناه ، وكذا وقع في التفسير : شهد الله أي : قال الله ، ويؤيدَه ما نقله المؤرِّجُ من أن " شَهِد " بمعنى " قال " لغة قيس بن عيلان . الثاني : أنها جملة اعتراض - بين العامل - وهو شَهِد - وبين معموله - وهو قوله : " إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ " ، وجاز ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيد ، وتقوية المعنى وهذا إنما يتجه على قراءة فتح " أنَّ " من " أنَّ الدِّينَ " ، وأما على قراءة الكسر فلا يجوز ، فتعيَّنَ الوجهُ الأول . والضمير في " أنَّهُ " يحتمل العود على الباري ؛ لتقدم ذكره ، ويحتمل أن يكون ضميرَ الأمر ، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } فـ " أنْ " مخفَّفة في هذه القراءة ، والمخففة لا تعمل إلا في ضمير الشأن - ويُحْذَف حينئذ - ولا تعمل في غيره إلا ضرورة [ وأدغم أبو عمرو بخلاف عنه واو هُوَ في واو النسق بعدها ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة عند قوله : " هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَه " ] . فصل قال سعيدُ بنُ جُبَيْر : كان حَوْلَ البيت ثلاثمائةٍ وستون صَنَماً ، فلما نزلت هذه الآية خَرَرْنَ سُجَّداً . وقيل : نزلت هذه الآية في نصارى نجران . وقال الكلبيُّ : قدم حَبْران من أحبار الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبْصَرَا المدينةَ قال أحدهما : ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينةِ النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان ؟ فلما دخَلاَ عليه عرفاه بالصفة ، فقالا له : أنت محمد ؟ قال : نعم ، قالا : وأنت أحمد ؟ قال : أنا محمد وأحمد ، قالا : فإنا نسألك عن شيء ، فإن أخبرتنا به آمَنَّا بك ، وصدقناك ، فقال : سَلاَ ، فقالا : أخبرنا عَنْ أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل ، فأنزل الله هذه الآيةَ ، فأسلم الرجلان . فصل قال بعض المفسرين : شهد الله ، أي : قال . وقيل : بَيَّن الله ؛ لأن الشهادة تبيين . وقال مجاهد : حَكَم الله . وقيل : أعْلَمَ الله أنه لا إله إلا هو . فإن قيل : المدَّعِي للوحدانية هو الله - تعالى - فكيف يكون المدَّعِي شاهداً ؟ فالجوابُ من وجوهٍ : أحدها : ما تقدم من أن " شَهِدَ " بمعنى " قال " أو " بَيَّن " أو " حَكَم " . الثاني : أن الشاهدَ الحقيقي ليس إلا الله - تعالى - ؛ لأنه الذي خلق الأشياءَ ، وجعلها دلائلَ على توحيده ، فلولا تلك الدلائلُ لم يتوصل أحد إلى معرفته بالوحدانيةِ ، فهو - تعالى وفقهم ، حتى أرشدهم إلى معرفة التوحيد ، وإذا كان كذلك كان الشاهد على الوحدانيةِ هو الله تعالى ، ولهذا قال : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ } [ الأنعام : 19 ] . الثالث : أنه الموجود - أزلاً وأبداً - وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صِرْفاً ، والعدم غائب ، والموجود حاضر ، وإذا كان ما سواه - في الأزل - غائباً ، وهو - تعالى - حاضر فبشهادته صار شاهداً ، فكان الحق شاهداً على الكل ، فلهذا قال : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } . فصل تقدم أن شهادة اللهِ الإخبار والإعلام ، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والمراد بأولي العلم ، قيل : الأنبياء - عليهم السلام - . قال ابنُ كَيْسَان : يعني المهاجرين والأنصار . وقال مقاتل : علماء مؤمني أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأصحابه . قال السُّديُّ والكلبيُّ : يعني جميع المؤمنين الذين عرفوا وحدانية الله - تعالى - بالدلائل القاطعة ؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة ، إذا كان الإخبار بها مقروناً بالعلم ، ولذلك قال - عليه السلام - : " إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ " . فإن قيل : إذا كانت شهادةُ الله عبارةً عن إقامة الدلائل ، وشهادة الملائكة ، وأولي العلم عبارة عن الإقرار ، فكيف جمعهما في اللفظ ؟ فالجواب : أن هذا ليس ببعيد ، ونظيره قوله - تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } [ الأحزاب : 56 ] ، ومعلوم أن الصلاة من الله تعالى الرحمة - كما ورد - ومن الملائكة الدعاء ، ومن المؤمنين الاستغفار ، وقد جمعهما في اللفظ . فصل دلّت هذه الآيةُ على فَضْل العلم وشرف العلماء ؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنه الله باسمه واسم ملائكته ، كما قرن الله اسم العلماء ، وقال تعالى - لنبيه - : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] ، فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله - تعالى - نبيَّه المزيد منه ، كما أمره أن يستزيد من العلم . وقال عليه السلام : " الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ " وقال : " العُلمَاءُ أمناء اللهِ عَلَى خَلْقِهِ " [ وهذا شرف للعلماء عظيم ، ومحل لهم في الدين خطير ] . قوله تعالى : { قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } في نَصْبه أربعة أوجه : أحدها : أنه منصوب على الحال ، واختلفوا في ذلك ؛ فبعضهم جعله حالاً من اسم " اللهُ " ، فالعامل فيها " شَهِدَ " . قال الزمخشري : وانتصابه على أنه حال مؤكِّدة منه ، كقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] . قال أبو حيّان : وليس من باب الحال المؤكدة ؛ لأنه ليس من باب { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } [ مريم : 15 ] ولا من باب : أنا عبد الله شجاعاً فليس " قَائِماً بِالْقِسْطِ " بمعنى " شَهِدَ " وليس مؤكداً مضمونَ الجملة السابقة في نحو : أنا عبد الله شجاعاً ، وهو زيد شجاعاً ، لكنْ في هذا التخريج قلقٌ في التركيب ؛ يصير كقولك : أكل زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً ، ففصل بين المعطوف عليه ، والمعطوف بالمفعول ، وبين الحال وصاحبه بالمفعول ، والمعطوف ، لكن يمشيه كونها كلُّها معمولةٌ لعاملٍ واحدٍ . قال شهاب الدينِ : مؤاخذته له في قوله " مؤكِّدة " غير ظاهرةٍ ، وذلك أن الحالَ على قسمين : إما مؤكدة ، وإما مبيِّنة - وهي الأصل - فالمبيِّنة لا جائز أن تكون ههنا ؛ لأن المبيّنة منتقلة ، والانتقال - هنا - محال ؛ إذْ عَدْلُ الله - تعالى - لا يتغير . وقيل : لنا قسم ثالث - وهي الحال اللازمة - فكان للزمخشري مندوحة عن قوله : " مؤكِّدة " وعن قوله " لازمة " . فالجواب : أن كل مؤكِّدة لازمة ، فلا فرق بين العبارتين - وإن كان الشيخ زعم أن إصلاح العبارة يحصل بقوله : لازمة - ويدل على ما ذكرته من ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الاستقراء وقوله : ليس معنى " قَائِماً بِالْقِسْطِ " معنى " شَهِدَ " ممنوع ، بل معنى : " شَهِدَ " مع متعلَّقِهِ هو { أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } - مساوٍ لقوله : " قَائِماً بِالْقِسْطِ " ؛ لأن التوحيد ملازمٌ للعدل . قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : لِمَ جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفَيْن عليه ، ولو قلتَ : جاءني زيدٌ وعمرو راكباً لم يَجُزْ ؟ قلتُ : إنما جاز هذا ؛ لعدم الإلباس ، كما جاء في قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] - إن انتصب " نَافِلَةً " حالاً عن يعقوب ، ولو قلت : جاءني زيد وهند راكباً ، جاز ؛ لتميزه بالذكورة " . قال أبو حيّان : " وما ذَكَرَ من قوله : جاءني زيد وعمرو راكباً ، أنه لا يجوز ليس كما ذكر ، فهذا جائز ؛ لأن الحال قَيْدٌ فيمن وقع منه أو به الفعل ، أو ما أشبه ذلك ، وإذا كان قَيْداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكور ؛ ويكون " راكباً " حالاً مما يليه ، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة لو قلت : جاءني زيد وعمرو الطويل ، لكان " الطويل " صفة لعمرو ، ولا تقول : لا تجوز هذه المسألة ؛ لأنه يلبس ، بل لا لبس في هذا ، وهو جائز ، فكذلك الحال ، وأما قوله : إن " نَافِلَة " انتصب حالاً عن " يعقوب " فلا يتعين أن يكون حالاً عن يعقوب ؛ إذ يحتمل أن يكون " نَافِلَةً " مصدراً - كالعاقبة والعافية - ومعناه زيادة ، فيكون ذلك شاملاً إسحاق ويعقوب ؛ لأنهما زِيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره " . قال شهاب الدينِ : " مراد الزمخشريِّ بمنع جاءني زيد وعمرو راكباً إذا أريد أن الحال منهما معاً ، أما إذا أُريد أنها حال من واحد منهما فإنما يُجْعَل لِما يليه ؛ لعَوْد الضمير على أقرب مذكور " . وبعضهم جعله حالاً من " هُوَ " . قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : قد جعلته حالاً من فاعل " شَهِدَ " فهل يصح أن ينتصب حالاً عن " هو " في " لا إلَهَ إلاَّ هُوَ " ؟ قلتُ : نعم ؛ لأنها حالٌ مؤكِّدةٌ ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة - التي هي زيادة في فائدتها - عامل فيها ، كقولك : " أنا عبد الله شجاعاً " ، يعني : أن الحال المؤكِّدة لا يكون العامل فيها النصب شَيْئاً من الجملة السابقة قبلها ، إنما تنتصب بعامل مضمر ، فإن كان المتكلم مُخْبِراً عن نفسه ، نحو أنا عبد الله شجاعاً قدرته : أحُقَّ - مبنياً للمفعول - شجاعاً ، وإن كان مُخبراً عن غيره قدرته - مخبراً عن الفاعل - نحو هذا عبد الله شجاعاً أي : أحقه ، هذا هو المذهب المشهور في نَصْب مثل هذه الحال ، وفي المسألة قولٌ ثانٍ - لأبي إسحاق - أن العامل فيها هو خبر المبتدأ ؛ لِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى المشتق ؛ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى ، وقول ثالث أن العامل فيها المبتدأ ؛ لما ضُمِّن من معنى التنبيه وهي مسألة طويلة . وبعضم جعله حالاً من الجميع على اعتبار كل واحدٍ قائماً بالقسط ، وهذا مناقض لما قاله الزمخشري من أن الحال مختصة بالله - تعالى - دون ما عُطِف عليه ، وهذا المذهب مردود بأنه لو جاز ذلك لجاز : جاء القوم راكباً ، أي : كل واحد منهم " راكباً " والعربُ لا تقول ذلك ألبتة ففسد هذا ، فهذه ثلاثة أوجهٍ في صاحب الحال . الوجه الثاني من أوجه نصب قائماً : نصبه على النعت للمنفي بـ " لا " كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو . قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : هل يجوز أن يكون صفةً للمنفي ، كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو ؟ قلتُ : لا يَبْعد ؛ فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف " ثم قال : " وهو أوجه من انتصابه عن فاعل " شَهِدَ " ، وكذلك انتصابه على المدح " . قال أبو حيّان : " وكأن الزمخشريَّ قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً ، … وهذا الذي ذكره لا يجوز ؛ لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما { وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } ، وليسا معمولَيْن لشيءٍ من جملة { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ، بل هما معمولان لـ " شَهِدَ " ، وهو نظير : عرف زيدٌ أنَّ هِنْداً خَارِجَةٌ وعمرو وجَعْفَرٌ التميميَّةَ ، فيفصل بين " هند " و " التميمية " بأجنبي ليس داخلاً في خبر ما عمل فيها ، وذلك الأجنبي هو " عمرو وجعفر " المرفوعان المعطوفان بـ " عرف " - على زيد ، وأما المثال الذي مَثَّل به ، وهو : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً ، فليس نظير تخريجه في الآية ؛ لأن قولك : إلا عبد الله ، بدل على الموضع من " لا رجل " ، فهو تابع على الموضع ، فليس بأجنبي على أنَّ في جواز هذا التركيب نظراً ؛ لأنه بدل ، و " شجاعاً " وصف ، والقاعدة : أنه إذا اجتمع البدل والوصف قُدِّم الوصف على البدل ، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل - على الصحيح - فصار من جملة أخْرَى على هذا المذهب " . الوجه الثالث : نصبه على المدح . قال الزمخشري : فإن قلت : أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة ، كقولك : الحمدُ للهِ الحميدَ ، " إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ " وقوله : [ البسيط ] @ 1368 - إنَّا - بَنِي نَهْشَلٍ - لا ندعِي لأبٍ … @@ قلتُ : قد جاء نكرةً كما جاء معرفةً ، وأنشد سيبويه - مما جاء منه نكرة - قول الْهُذَلِيّ : [ المتقارب ] @ 1369 - وَيَأوِي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي @@ قال أبو حيان : " انتهى هذا السؤال وجوابه ، وفي ذلك تخليط ؛ وذلك أنه لم يُفَرِّقُ بين المنصوب على المدح ، أو الذم ، أو الترحم ، وبين المنصوب على الاختصاص ، وجعل حكمَها واحداً ، وأوْرَد مثالاً من المنصوب على المدح ، وهو الحمد لله الحميدَ ، ومثالَيْن من المنصوب على الاختصاص ، وهما : " إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ " وقوله : " إنَّا - بَنِي نهشل - لا ندَّعِي لأب " والذي ذكره النحويون أن المنصوبَ على المدح أو الذم أو الترحُّم ، قد يكون معرفة ، وقبله معرفة - يصلح أن يكون تابعاً لها ، وقد لا يصلح - وقد يكون نكرةً وقبله معرفة ، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها . نحو قول النابغة : @ 1370 - أقَارعُ عَوْفٍ ، لا أحَاوِلُ غَيْرَهَا وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ @@ فنصب " وُجُوهَ قُرُودٍ " على الذم ، وقبله معرفة ، وهي " أقارعُ عَوْفٍ " ، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرةً ، ولا مُبْهَماً ، ولا يكون إلا معرَّفاً بالألف واللام ، أو بالإضافة ، أو بالعلميَّة ، أو لفظ " أي " ، ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص به ، أو مشارك فيه ، وربما أتى بعد ضمير مخاطب " . الوجه الرابع : نَصْبه على القطع ، أي إنه كان من حقه أن يرتفع ؛ نعتاً لله تعالى بعد تعريفه بـ " أل " والأصل : شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط ، فلما نُكِّر امتنع إتباعه ، فقُطِع إلى النصب ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، ونقله بعضهم عن الفراء - وحده - ، ومنه عندهم قول امرئ القيس : @ 1371 - … وَعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ الْبُسرِ أحْمَرَا @@ وقد تقدم ذلك محققاً . الأصل : " من البُسْر الأحمر " ويؤيد هذا قراءة عبدِ الله " القائمُ بالقسط " - برفع القائم ؛ تابعاً للفظ الجلالة - وخرَّجه الزمخشري وغيره على أنه بدل من " هو " أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو القائم . قال أبو حيّان : ولا يجوز ذلك ؛ لأن فيه فَصْلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي ، وهو المعطوفان ؛ لأنهما معمولان لغير العامل في المبدَل منه ، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف لم يجز ذلك - أيضاً - ؛ لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قُدِّمَ البدل على العطف . لو قلت : جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك ، لم يجز ، إنما الكلام : " جاء زيدٌ أخوك وعائشةُ " . فيحصل في رفع " القائم " - على هذه القراءة - ثلاثة أوجهٍ : النصب ، والبدل ، وخبر مبتدأ محذوف . ونقِل عن عبد الله - أيضاً - أنه قرأ " قَائِمٌ بِالْقِسطِ " - بالتنكير ، ورفعه من وجْهَي البدل ، وخبر المبتدأ . وقرأ أبو حنيفة : " قَيِّماً " - بالنصب على ما تقدم - . فهذه أربعة أوجه مُحَرَّرَة من كلام القوم . والظاهر أن رفع { وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } عطفٌ على لفظِ الجلالةِ . وقال بعضهم : الكلام تم عند قوله : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ، وارتفع " الْمَلاَئِكَةُ " بفعل مُضْمَر ، تقديره : وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك ، وكأن هذا المذهبَ يرى أن شهادة الله مغايرة لشهادة الملائكة وأولي العلم ، ولا يجيز إعمال المشترك في معنيَيْه ، فاحتاج من أجل ذلك إلى إضمار فعل يوافق هذا المنطوقَ لفظاً ، ويخالفه معنى ، وهذا نظير قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } [ الأحزاب : 56 ] كما قدمناه . قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : هل دخل قيامُه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة ، وأولي العلم ، كما دخلت الوحدانية ؟ قلتُ : نعم ، إذا جعلته حالاً من " هُوَ " أوْ نَصْباً على المدح منه ، أو صفة للمنفي ، كأنه قيل : شهد الله والملائكة ، وأولو العلم أنه لا إله إلا هو ، وأنه قائم بالقسط " . فصل معنى " قَائِماً بِالْقِسْطِ " أي : قائماً بتدبير الخلْقِ ، كما يقال : فلان قائم بأمر فلان ، أي مدبِّر له ، رزَّاق ، مجازٍ بالأعمال ، والمراد بالقِسْط : العدل . قال ابن الخطيبِ : وهذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا ، ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدنيا فانظر - أوَّلاً - في كيفية خَلْقِه أعضاءَ الإنسان ؛ حتى تعرفَ عدلَ الله - تعالى - فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحُسْن والقُبْح ، والغِنَى والفقر ، والصحةِ والسقم ، وطول العمر وقصره ، واللذة والآلام ، واقطع بأن كل ذلك عدل من الله ، وحكمة وصواب ، ثم انظر في كيفية خلق العناصر ، وأجرام الأفلاك ، وتقدير كل واحد منها بقدر معين ، وخاصيَّةٍ معينة ، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب . وأما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل ، والفطانة والبلادة ، والهداية والغواية ، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط . قوله تعالى : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } في هذه الجملة وجهان : الأول : أنها مكرَّرة للتوكيد ، قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : لِمَ كرَّر قولَه : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ؟ قلت : ذكره - أولاً - للدلالة على اختصاصه بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة ، ثم ذكره - ثانياً - بعدما قَرَن بإثبات الوحدانية إثبات العدل ؛ للدلالة على اختصاصه بالأمرين ، كأنه قال : لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين ، ولذلك قرن به قوله تعالى : { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } ؛ لتضمنها معنى الوحدانيةِ والعدلِ " . وقال بعضهم : ليس بتكرير ؛ لأن الأول شهادة الله - تعالى - وحده . والثاني : شهادة الملائكة وأولي العلم ، وهذا عند من يرفع " الْمَلاَئِكَةُ " بفعل آخر مضمر - كما ذكرنا - من أنه لا يرى إعمال المشترك ، وأن الشهادتين متغايرتان ، وهو مذهب مرجوح . وقال الراغبُ : " إنما كرَّر { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ؛ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد ؛ لأن أكثرها مشارك - في ألفاظها - العبيد ، فيصح وصفُهم بها ، ولذلك وردت ألفاظ في حقه أكثر وأبلغ " . وقال بعضهم : " فائدة هذا التكرار الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون - أبداً - في تكرير هذه الكلمة ؛ فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان ، هي هذه الكلمة ، فإذا كان في أكثر أوقاتِه مشتغلاً بذكرِها ، كان مشتَغِلاً بأعظم أنواع العبادات " . قوله : { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } فيه ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أنه بدل من " هُوَ " . الثاني : أنه خبر مبتدأ مُضْمَر . الثالث : أنه نعت لـِ " هُوَ " ، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب الكسائي ؛ فإنه يرى وَصْفَ الضمير الغائبِ . فصل ذِكْرُ هاتين الصفتين إشارةٌ إلى كمال العلم ؛ لأن الإلهية لا تحصل إلا معهما ؛ لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات ، وكان قادراً على تحصيل المهمات ، وقد قدَّم " الْعَزِيزُ " على " الْحَكِيمُ " ؛ لأن العلم بكونه - تعالى - قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية ، فلما كان هذا الخطاب مع المستدلين - لا جرم - قدَّم ذكر " الْعَزِيزُ " على " الْحَكِيمُ " .