Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 190-192)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه - تعالى - لما قرَّر الأحكام ، وأجاب عن شُبَه المُبْطِلين ، عاد إلى ذِكْر ما يدل على التوحيد فذكر هذه الآية . قال ابنُ عبيد قلت لعائشة - رضي الله عنها - : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكَتْ وأطالت ، ثم قالت : " كُلُّ أمره عَجَبٍ ، أتاني في ليلتي ، فدخل في لحافي ، حتى ألصق جِلدَه بجلدي ، ثم قال لي : يَا عَائِشَة ، هَلْ لَكِ أنْ تَأذَنِي لِي اللَّيْلةَ في عِبَادَةِ رَبِّي ؟ فقلتُ : يا رسولَ اللَّهِ ، إنِّي لأحبُّكَ وأحِبُّ مُرَادَكَ ، فَقَدْ أذِنْتُ لَكَ ، فَقَامَ إلى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ في البيتِ ، فَتَوَضَّأ ، ولم يُكْثِرْ من صَبِّ الْمَاءِ ، ثُمَّ قَامَ يُصلِّي ، فَقَرأ مِنَ الْقُرْآنِ ، وجَعَلَ يَبْكِي ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَأَيْتُ دُمُوعَه قَدْ بَلَّتِ الأرْض فأتاه بلالٌ يُؤذنُهُ بِصَلاَةِ الْغَدَاةِ ، فَرَآهُ يَبْكِي ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ ؟ فَقَالَ : يَا بِلاَلُ ، أفَلا أكُونُ عَبْداً شَكُوراً ، ثُمَّ قَالَ : مَا لِيَ لا أبكي وَقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآيات ، ثُمَّ قَالَ : وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا " وروي : " ويلٌ لِمَنْ لاَكَها بَيْنَ فَكَّيْهِ وَلَمْ يَتَأمَّلْ فِيهَا " . وروي عن عَلِيٌّ - رضي الله عنه - " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قامَ من الليلِ يتسوكُ ، ثم ينظر إلى السماء ويقول : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } " . واعلم أنه - تعالى - ذكر هذه الآية في سورة البقرة ، وختمها بقوله : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] وختمها هنا - بقوله : { لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } وذكر في سورة البقرة - مع هذه الدلائل الثلاثة - خمسة أنواعٍ أخر حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل ، وهنا اكتفى بذكر ثلاثةٍ - وهي السموات والأرض والليل والنهار - فأمّا الأول فلأن العقلَ له ظاهرٌ ، وله لُبّ ، ففي أولِ الأمرِ يكون عقْلاً ، وفي كمالِ الحالِ يكون لُبًّا ، ففي حالةِ كمالِهِ لا يحتاجُ إلى كَثرة الدلائلِ ، فلذلك ذكر له ثلاثةَ أنواعٍ من الدلائلِ ، وأسقط الخمسةَ ، واكتفى بذكر هذه الثلاثة ؛ لأن الدلائل السماوية أقْهَر وأبْهَر ، والعجائب فيها أكثر . قوله : { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ } فيه خمسة أوجهٍ : أحدها : أنه نعت لـِ { لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } فهو مجرور . ثانيها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين . ثالثها : أنه منصوب بإضمار أعني . وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم . رابعها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : يقولون : ربنا . قاله أبو البقاء . خامسها : أنه بدل من { لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } ذكره مكِّيٌّ ، والأول أحسنها . و { قِيَاماً وَقُعُوداً } حالانِ من فاعلٍ { يَذْكُرُونَ } و { وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } حال - أيضاً - فيتعلق بمحذوف ، والمعنى : يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين ، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة ، عكس الآية الأخْرَى - وهي قوله تعالى : { دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [ يونس : 12 ] - حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة . و { قِيَاماً وَقُعُوداً } جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن ، وحينئذ يتأوَّلان على معنى : ذوي قيام وقعود ، ولا حاجة إلى هذا . فصل قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ ، وابنُ عباس ، والنَّخعيّ ، وقتادة : هذا في الصلاة ، يُصلي قائماً ، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ . وقال سائر المفسّرين : أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال ، لأن الإنسانَ قلما يخلو من إحدى هذه الحالات . قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ } فيه وجهان : أظهرهما : أنها عطف على الصلة ، فلا محلَّ لها . والثاني : أنها في محل نصبٍ على الحالِ ، عطفاً على { قِيَاماً } أي : يذكرونه متفكِّرين . فإن قيل : هذا مضارع مثبت ، فكيف دخلت عليه الواو ؟ . فالجوابُ : أن هذه واو العطف ، والممنوع إنما هو واو الحال . و " خَلْق " فيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر على أصْله ، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة ، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله . الثاني : أنه بمعنى المفعول ، أي : في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف ، أي : يتفكرون فيما أودع اللَّهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها . وقال أبو البقاء : " وأن يكون بمعنى المخلوق ، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى " . قال شِهَابُ الدّينِ : " وهذا كلامٌ متهافتٌ ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه ، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل " . فصل { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وما أبدع فيهما ؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع ، [ ويعرفوا ] أن لها مُدَبِّراً حَكِيماً . وقال بعض العلماءِ : الفكرة تُذْهِب الغفلة ، وتُحْدِث للقلب خشية ، كما يُحْدث الماء للزرع والنبات ، ولا أجليت القلوب بِمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفِكْرة . واعلم أن دلائلَ التوحيدِ محصورةٌ في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائلَ الآفاق أجَلُّ وأعْظَمُ ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [ غافر : 57 ] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض ؛ لأن دلالتها أعجب ، وكيف لا تكون كذلك لو أنَّ الإنسانَ نظرَ إلى ورقةٍ صغيرةٍ من أوراقِ شجرةٍ رأى في تلك الورقةِ عِرْقاً واحداً مُمْتداً في وَسَطها ، ثم يتشعَّب من ذلك العرق عروقٌ كثيرةٌ من الجانبين ، ثم بتشعَّب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرقٍ عروقٌ أخْرَى ، حتى تصيرَ في الورقة بحيثُ لا يراها البَصَر ، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حِكَمَاً بَالِغَةً ، وأسراراً عجيبةً ، وأن الله تعالى أودَعَ فيها قوةً جاذبةً لغذائها من قََعْر الأرض ، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزءٍ من أجزاء تلك الورقةِ جُزْءٌ من أجزاء ذلك الغذاء - بتقدير العزيز العليم - ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه على تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه ، فإذا عرف أن عقله قاصرٌ عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات - مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم - وإلى الأرض - مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان - عرف أن تلك الورقة - بالنسبة إلى هذه الأشياء - كالعدم ، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير ، عرف أنه لا سبيل لَهُ - ألبتة - إلى الاطلاع على عجائب حِكمته في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرض فلم يَبْقَ - مع هذا - إلا الاعترافُ بأنّ الخالقَ أجَلّ وأعظم من أن يُحِيط به وَصْفُ الواصفينَ ومعارفُ العارفين ، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حِكَمٌ بالغة - وإن كان لا سبيلَ له إلى معرفتها - فعند ذلك يقول : { سُبْحَانَكَ } والمرادُ منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد ، ويشتغل بالدعاء ، فيقول : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } . قوله : { رَبَّنَآ } هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف ، تقديره : يقولون ، والجملة القولية فيها وجهان : أظهرهما : أنها حال من فاعل " يَتَفَكَّرُونَ " أي : يتفكرون قائلين قائلين ربنا ، وإذا أعربنا " يَتَفَكَّرُونَ " حالاً - كما تقدم - فيكون الحالان متداخلين . والوجه الثاني : أنها في محل رفع ؛ خبراً لـِ " الَّذِينَ " على قولنا بأنه مبتدأ ، كما تقدم نقله عن أبي البقاءِ . قوله : " هَذَا " إشارة إلى الخلق ، إن أريد به المخلوق ، وأجاز أبو البقاء - حال الإشارة إليه بـ " هذا " - أن يكون مصدراً على حاله ، لا بمعنى المخلوق ، وفيه نظرٌ . أو إلى السّموات والأرض - وإن كانا شيئين ، كل منهما جمع - لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب ، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ . قوله : " بَاطِلاً " في نصبه خمسةُ أوجهٍ : أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : خَلْقاً باطلاً ، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالاً من ضمير ذلك المصدر . الثاني : أنه حالٌ من المفعولِ به ، وهو " هَذَا " . الثالث : أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ - وهو الباء - والمعنى : ما خلقتهما بباطلٍ ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ . الرابع : أنه مفعول من أجله ، و " فاعل " قد يجيء مصدراً ، كالعاقبة ، والعافية . الخامس : أنه مفعولٌ ثانٍ لـ " خلق " قالوا : و " خلق " إذا كانت بمعنى " جَعَلَ " التي تتعدى لاثنين ، تعدّت لاثنين . وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ ، بل المعروف أن " جعل " إذا كانت بمعنى " خلق " تعدت لواحدٍ فقط . وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالاً مِنْ " هَذَا " وهي حالٌ لا يُستغنَى عَنْهَا ؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ ، وهي كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] . قوله : { سُبْحَانَكَ } تقدم إعرابه ، وهو معترض بين قوله : { رَبَّنَآ } وبين قوله : { فَقِنَا } . وقال أبو البقاء : " دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ ، والتقدير : إذا نزهناك ، أو وَحَّدْناك فقنا " . وهذا لا حاجةَ إليه ، بل التسبب فيها ظاهر ؛ تسبب عن قولهم : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ } طلبهم وقاية النار . وقيل : هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه { سُبْحَانَكَ } من معنى الفعل ، أي : سبحانك فقنا . وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء . فصل قالتِ المعتزلةُ : دلَّتْ هذه الآيةُ على أنّ كلَّ ما يفعله الله تعالى ، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد ، ولأجل الحكمة ، والمراد منها رعاية مصالح العباد ، قالوا : لأنه لو لم يخلق السمواتِ والأرضَ لغرض كان قد خلقهما باطلاً ، وذلك ضد هذه الآية ، قالوا : وقوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهٌ له عن خَلْقِه لهما باطلاً . وأجابَ الواحدي : بأنّ الباطل هو الذاهبُ الزائلُ ؛ الذي لا يكون له قوةٌ ولا صلابةٌ ولا بقاءٌ ، وخَلْق السمواتِ والأرض مُحْكَمٌ ، مُتْقَن ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] ؟ وقوله تعالى : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] . فكان المرادُ من قوله : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } هذا المعنى ، لا ما ذكره المعتزلة . فإن قيل : هذا الوجهُ مدفوعٌ بوجوهٍ : الأول : لو كان المرادُ بالباطلِ : الرخو ، المتلاشي ؛ لكان قوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهاً لهُ أنْ يخلق مثل الخلق ، وذلك باطلٌ . الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه ؛ لأن التقدير : ما خلقته باطلاً بغير حكمةٍ ، بل خلقته بحكمةٍ عظيمةٍ . فعلى قولنا يحسن النظم ، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النَّظمُ . الثالثُ : أنه - تعالى - ذكر هذا في آيةٍ أخْرى ، فقال : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] وقال في آية أخرى : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [ الدخان : 38 - 39 ] وقال : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } [ المؤمنون : 115 و 116 ] . أي : فتعالى الملك الحقُّ على أنْ يكونَ خلقه عَبَثاً ، وإذا لم يكن عبثاً فامتناعُ كونِهِ باطلاً أولَى . فالجواب : أنّ بديهةَ العقلِ شاهدةٌ بأنّ الموجودَ إما واجبٌ لذاته ، وإما ممكن لذاته ، وشاهدة بأنّ كلَّ ممكنٍ لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته ، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ الخير والشر بقضاء اللَّهِ ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكونَ المرادُ من الآية تعليلُ أفعالِ اللهِ - تعالى - بالمصالح وأما قوله : لو كان كذلك لكان قوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهاً عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة ، وذلك باطلٌ ، فجوابُهُ : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ : ربنا ما خلقت هذا رخواً فاسدَ التركيب ، بل خلقته صلباً محكماً ؟ وقوله : { سُبْحَانَكَ } معناه : أنك إن خلقت السمواتِ والأرضَ صلبةً ، شديدةً ، باقيةً ، فأنت منزهٌ عن الاحتياج إليه والانتفاع به . وأما قولهم : إنما يحسن وصل قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } به إذا فسَّرناه بقولنا ، فالجوابُ : لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله : { سُبْحَانَكَ } اعتراف بكونه غنياً عن كل ما سواه ، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة ، فقال : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وهذا الوجه أحسن في النظم . وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالةٌ على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث ، واللعب ، والبطلان ونحن نقولُ بموجبه ، وأنّ أفعَالهُ كُلَّها حكمةٌ وصوابٌ . وقوله : { سُبْحَانَكَ } إقرارٌ بعجز العقولِ عن الإحاطة بآثار اللَّهِ في خلق السمواتِ والأرضِ . يعني أنَّ الخلقَ إذا تفكروا في هذهِ الأجسامِ العظيمةِ لم يعرفوا منها إلا هذا القدر . والمقصود منه تعليم العبادِ كيفية الدعاء وآدابه ، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناءَ ، ثم يذكر بعده الدعاء ، كهذه الآيةِ . قوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ } " من " شرطية ، مفعول مقدم ، واجب التقديم ، لأن له صدرَ الكلام ، و " تُدْخِل " مجزوم بها ، و { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } جوابٌ لها . وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين : الأول : أن تكون " من " منصوبة بفعل مقدَّر ، يُفَسِّره قوله : { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } . وهذا غلطٌ ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسِّر على ما هو منصوب ، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط ؛ لأنه لا يتقدم على الشرط . الثاني : أن تكون " مَنْ " مبتدأ ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ . وهذان الوجهان غلط ، والله أعلم . وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع ؛ خبراً لـِ " إنَّ " . ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً - والأكثر الرباعي ، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح - وخزايةً - إذا استحيا - فالفعل واحدٌ ، وإنما يتميز بالمصدرِ . قال الواحديُّ : الإخزاء - في اللغة - يَرِد على معانٍ يقرب بعضُها من بعض . قال الزَّجَّاجُ : أخْزَى الله العدُوَّ : أي : أبعده . وقال غيره : أخزاه اللَّهُ : أي : أهانه . وقال شمر : أخزاه اللَّهُ : أي : فضحه ، وفي القرآن : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } [ هود : 78 ] . وقال المفضَّلُ : أخزاه الله : أي : أهلكه . وقال ابنُ الأنباري : الخِزْي - في اللغة - الهلاك بتلف أو انقطاع حجة ، أو وقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة . وقال الزمخشريُّ : " فَقَدْ أخْزَيْتَهُ " أي : أبلغت في إخزائه . فصل قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ دالةٌ على أن صاحب الكبيرةِ - من أهل الصَّلاةِ - ليس بمؤمن ؛ لأن صاحبَ الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاهُ اللَّهُ ؛ لدلالة هذه الآية ، والمؤمن لا يخزى ؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] فوجب من [ مجموع هاتين ] الآيتين ألا يكون صاحب الكبيرةِ مؤمناً . والجواب أن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً ، وإنما يقتضي ألا يحصل الإجزاءُ حال ما يكونون مع النبيّ ، وهذا النفيُ لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة ؛ لاحتمال أن يَحْصُلَ الإخزاءُ في وقتٍ آخَرَ . وأجاب الواحديُّ في " البسيط " بثلاثة أجوبةٍ أُخَرَ . أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المُسَيَّبِ ، والثوري ، وقتادة ، أن قوله : " فَقَدْ أخْزَيْتَهُ " مخصوصٌ بمن يدخل النّارَ للخلودِ . وهذا الجوابُ ضعيفٌ ؛ لأن مذهبَ المعتزلةِ أنّ كلَّ فاسقٍ دخل النَّارَ ، فإنَّما يدخلُها للخلودِ فيها . وثانيها : أن المُدْخَل في النار مخزًى في حال دخوله ، وإن كان عاقبته أن يخرج منها . وهذا - أيضاً - ضعيفٌ ؛ لأنَّ موضعَ الاستدلالِ أن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] يدل على نفي الخِزْي عن المؤمنين على الإطلاق ، وهذه الآيةُ دلت على حصول الخِزْي لكل من دخل النّارَ ، فحصل بحُكم هاتين الآيتين - بين كونه مؤمناً ، وبين كونه كافراً - من يدخل النار - منافاةٌ . وثالثها : أنّ الإخزاءَ يحتمل وَجْهَيْن " : أحدهما : الإهانة والإهلاك . وثانيهما : التخجيل ، يقال : خَزِيَ خِزَايةً : إذا استحيا ، وأخزاهُ غيرُه : إذا عمل به عملاً يُخْجله ويستحيي منه . قال ابنُ الخطيبِ : " واعلم أنّ حاصلَ هذا الجوابِ : أنَّ لفظَ الإخزاءِ مشتركٌ بين التخجيلِ وبين الإهلاكِ ، واللفظُ لا يمكن حَمْله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعاً ، وإذا كانَ كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] غير المثبت في قوله : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } وعلى هذا يسقط الاستدلالُ ، إلا أنّ هذا الجوابَ إنما يتمشى إذا كان لفظُ الإخزاء مشتركاً بين هذين المفهومين ، أما إذا كان لفظاً متواطئاً ، مفيداً لمعنًى واحدٍ وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحديُّ نوعين تحت جنس واحدٍ ، سقط هذا الجوابُ ؛ لأن قوله : { لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] لنفي الجنس ، وقوله : " فقد أخزيته " لإثبات النوع ، وحينئذ تحصل المنافاةُ بينهما " . قال القرطبيُّ : " وقال أهل المعاني : الخِزي أن يكون بمعنى الحياء ، يقال : خَزِيَ يَخْزَى خزايةً إذا استحيا ، فهو خَزْيان . قال ذو الرمة : [ البسيط ] @ 1714 - خَزَايَةً أدْرَكَتْهُ عِنْدَ جُرْأتِهِ مِنْ جَانِبِ الحَبْلِ مَخْلُوطاً بِهَا الْغَضَبُ @@ فخِزْي المؤمنينَ - يومئذٍ - استحياؤهم في دخول النَارِ من سائرِ أهلِ الأدْيَانِ إلى أن يخرجوا مِنْهَا ، والخِزْي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موتٍ ، والمؤمنون يموتون ، فافترقوا ، كذا ثبت في صحيح السنة ، من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ ، أخرجه مسلمٌ " . فصل احتجت المرجئة بهذه الآيةِ في القطعِ بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يُخْزَى ، وكل مَنْ دخل النَّار فإنه يُخْزَى ، فيلزم القطع بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يدخل النارَ ، وإنما قُلْنا : صاحبُ الكبيرةِ لا يُخْزَى ؛ لأن صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ ، والمؤمنُ لا يُخْزَى ، وإنما قلنا : إنه مؤمنٌ ؛ لقوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } [ الحجرات : 9 ] سمي الباغي - حال كونِهِ باغياً - مؤمناً ، والبغي من الكبائر بالإجماع ، وأيضاً قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] سمى القاتلَ - بالعَمْد العدوان - مؤمناً ، فثبت أنّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ ، وإنما قلنا : إن المؤمن لا يُخْزَى ؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] ولقوله : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ آل عمران : 194 ] ، ثم قال : { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] وهذه الاستجابة تدل على أنه - تعالى - لا يخزي المؤمنين ، فثبت أن صاحبَ الكبيرِ لا يُخْزَى وكل مَنْ دخل النار فإنه يُخْزَى ؛ لقوله تعالى : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } فثبت - بهاتين المقدمتين - أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار . والجوابُ : ما تقدم من أن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] إنما يدل على نَفْي الإخزاء حال كونهم مع النَّبِيّ ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقتٍ آخرَ . فصل عموم هذه الآية مخصوصٌ في مواضع ، منها قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] ثم قال : { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } [ مريم : 72 ] وأهل الثَّوابِ مصونونَ عن الخِزْي . ومنها : أنَّ الملائكةَ - الذين هم خَزَنَة جَهَنَّم يكونونَ في النَّارِ ، وهُمْ - أيضاً - مصونونَ عَنِ الخزي ، قال تعالى : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . قوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } " مِنْ " زائدة ، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ ، وفي مجرورها وجهانِ : أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره في الجارّ قبله ، وتقديمه - هنا - جائزٌ لا واجبٌ ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً . الثاني : أنه فاعل بالجارِّ قبله ، لاعتماده على النفي ، وهذا جائزٌ عند الجميعِ . فصل تمسَّك المعتزلةُ بهذه الآيةِ في نَفْي الشفاعةِ للفسَّاق ؛ وذلك لأن الشفاعة ، نوع نُصْرَةٍ ، ونَفْي الجنس يقتضي نَفْيَ النَّوعِ ، والجوابُ من وجوهٍ : أحدها : أن القرآنَ دلَّ على أنّ الظالمينَ - بالإطلاقِ - هم الكفَّارُ ، قال تعالى : { وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ البقرة : 254 ] ويؤكِّده ما حكى عن الكفار من نفيهم الشفعاء والأنصار في قولهم : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 - 101 ] . ثانيها : أنَّ الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن اللَّهِ تَعَالَى ، قال تعالى : { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيعُ قادراً على النُّصرَةِ إلا بعد الإذن ، وإذا حصل الإذن ففي الحقيقة إنما ظهر العفو من اللَّهِ تَعَالَى ، فقوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } يُفيد أنه لا حكمَ إلا لله ، كما قال : { أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ } [ الأنعام : 62 ] وقال : { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] . فإن قيل : فعلى هذا التقديرِ لا يبقى لتخصيص الظالمينَ - بهذا الحكمِ - فائدةٌ . فالجوابُ : بل فيه فائدةٌ ، لأنه وعد المؤمنينَ المتقينَ في الدُّنْيَا بالفوزِ بالثَّوابِ ، والنجاةِ من العقابِ ، فلهم يومَ القيامةِ هذه المنزلةُ ، وأما الفُسَّاقُ فليس لهم ذلك ، فصحَّ تخصيصهم بنَفْي الأنصارِ على الإطلاقِ . ثالثها : أن هذه الآيةَ عامةٌ ، والأحاديثُ الواردةُ بثبوتِ الشفاعةِ خاصةٌ ، والخاصُّ مقَدَّم على العامّ .