Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 193-194)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" سمع " إن دخلت على ما يصح أن يُسْمَعَ - نحو : سمعتُ كلامكَ وقراءتك - تَعَدَّتْ لواحدٍ ، فإن دخلت على ما يصح سماعهُ - بأنْ كان ذاتاً - فلا يصحُّ الاقتصارُ عليه وَحْدَه ، بل لا بد من الدلالة على شيء يُسْمَع ، نحو سمعتُ رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، وللنحويين - في هذه المسألة - قولانِ : أحدهما : أنها تتعدى فيه - أيضاً - إلى مفعولٍِ واحدٍ ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة ، أو حالاً ، إن كان معرفة . والثاني : - قول الفارسيِّ وجماعة - : أنها تتعدى لاثنين ، والجملة في محلِّ الثاني منهما ، فعلى قول الجمهورِ يكون " يُنَادِي " في محل نَصْبٍ ، لأنهُ صفةٌ لمنصوبٍ قبلهُ ، وعلى قول الفارسيِّ يكون في محل نَصْبٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ . وقال الزمخشريُّ : " تقول : سمعت رجلاً يقولُ كذا ، وسمعت زيداً يتكلمُ ، فتوقع الفعل على الرجل ، وتحذف المسموع ؛ لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالاً منه ، فأغناك عن ذِكْره ، ولولا الوصفُ أو الحالُ لم يكن منه بُدٌّ ، وأن تقول : سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قَوْلَهُ " . وهذا قولُ الجمهورِ المتقدم ذِكره . إلا أن أبا حيّان اعترض عليه ، فقال " وقوله : ولولا الوصفُ أو الحالُ … إلى آخره ، ليس كذلك ، بل لا يكونُ وَصْفٌ ولا حالٌ ، ويدخل " سَمِعَ " على ذات على مسموع ، وذلك إذا كان في الكلام ما يُشْعِر بالمسموع - وإن لم يكن وَصْفاً ولا حالاً - ومنه قوله تعالى : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } [ الشعراء : 72 ] فأغنى ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع " . وأجاز أبو البقاء في " يُنَادِي " أن تكون في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير المستكن في " مُنَادِياً " . فإن قيل : ما الفائدة في الجمع بين " مُنَادِياً " و " يُنَادِي " ؟ فأجاب الزمخشريُّ بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ، ثم مقيَّداً بالإيمانِ ، تفخيماً لشأن المُنَادِي ؛ لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان ، ونحوه قولك : مررت بهادٍ يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادِيَ إذا أطلق ذهب الوَهم إلى منادٍ للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروبِ ، أو لكفاية بعض النوازلِ ، أو لبعض المنافعِ وكذلكَ الهادي يُطلق على مَنْ يهدي للطريق ، ويهدي لسدادِ الرأي ، وغير ذلك فإذا قُلْتَ : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام فقد رَفَعْتَ من شأن المنادِي والهادي وفخّمته . وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبةٍ : أحدها : التوكيد ، نحو : قُم قَائِماً . الثاني : أنه وصل به ما حسَّن التكرير ، وهو الإيمان . الثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون " سَمِعَ " مقروناً بالنداء بذكر ما ليس بنداءٍ ، فلمَّا قال : " يُنَادِي " محذوفٌ ، أي : ينادي في الناس ، ويجوز ألا يُرادَ مفعول ، نحو : أمات وأحيا . ونادى ودعا يتعديان باللام تارةً ، وبـ " إلى " أخرى ، وكذلك نَدَبَ . قال الزمخشريُّ : وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً ، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ : إنها بمعنى " إلى " ولا أنها بمعنى الباء ، ولا أنها لام العلة - أي : لأجل الإيمان - كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى - إذا وفَّقه الله لذلك - صار كأن يدعو إلى الهُدَى ، وينادي بما فيه من أنواعِ الدلائلِ ، كما قيل - في جهنم - : { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } [ المعارج : 17 ] إذْ كان مصيرهم إليها . فصل اختلفوا في المراد بالمنادِي : فقال ابنُ مسعود ، وابنُ عباسٍ ، وأكثرُ المفسّرين : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وقال القرطبيُّ : يعني القرآن ؛ إذ ليس كلهم سَمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليلُ هذا القولِ ما أخبر اللَّهُ - تعالى - عن مؤمني الجِنِّ إذْ قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } [ الجن : 1 - 2 ] . قوله : " أَنْ آمَنُوا " في " أنْ " قولان : أحدهما : أنها تفسيرية ؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه ، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ . ثانيهما : أنها مصدرية ، وُصلت بفعل الأمرِ ، وفي وَصْلِها به نظرٌ ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية ، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم : كتبت إليه بأنْ قُمْ فهي - هنا - مصدرية [ ليس إلا ، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر ، وإذا قيل بأنها مصدرية ] فالأصل التعدي إليها بالباء ، أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ - الجرُّ والنصبُ . قوله : " فآمَنَّا " عطف على ما " سَمِعْنَا " والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة ، والمعنى : فآمنا بربنا . قوله : { رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } اعلم أنهم قد طلبوا من اللَّه في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ : أحدهَا : غفران الذنوب ، والغفران : هو الستر والتغطية . ثانيها : التكفير ، وهو التغطية - أيضاً - يقال : رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح - أي : مُغَطَّى - ومنه الكُفْر - أيضاً - قال الشاعرُ : [ الكامل ] @ 1715 - … فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا @@ فالمغفرة والتكفير - بحسب اللغة - معناهما شيء واحد ، وأما المفسرون فقال بعضهم : المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد ؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ . وقيل : المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنفُ . وقيل : المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة ، وبالتكفير ما تكفرِّه الطاعةُ العظيمةُ . وقيل : المرادُ بالأولِ : ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية ، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل . ثالثها : قوله : { وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ } أي : توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم ، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ ، وقيل : تُجُوِّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول ، فيتعلق بمحذوف . وأجازَ مَكِّيٌّ ، وأبو البقاءِ : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، أي : أبراراً مع الأبرارِ ، كقوله : [ الوافر ] @ 1716 - كأنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ @@ أي : كأنك جمل من جمال . قال أبو البقاء : " [ تقديره ] أبراراً مع الأبرار ، وأبراراً - على هذا - حالٌ " . والأبرار يجوز أن يكونَ جمع بارّ - كصاحب وأصحاب ، ويجوز أن يكون جمع بَرٍّ ، بزنة : كَتِف وأكتاف ، ورَبّ وأرْبَاب . قال القفّالُ : في تفسير هذه المعية وجهانِ : أحدهما : أن وفاتهم معهم : هي أن يموتوا على مثل أعمالهم ، حتى يكونوا في درجاتهم يومَ القيامةِ ، كما تقول : أنّا مع الشافعي في هذه المسألة ، أي : مساوٍ له في ذلك الاعتقادِ . ثانيهما : أنّ المرادَ منه كونُهم في جُملة أتباع الأبرار ، كقوله : { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ } [ النساء : 69 ] . فصل احتجوا بهذه الآية على حصول العفو بدون التوبة من وجهين : الأول : أنهم طلبوا المغفرةَ مطلقاً ، ثم أجابهم الله تعالى بقوله : { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] وهذا صريحٌ في أنه - تعالى - قد يغفرُ الذنبَ وإنْ لم توجد التوبةُ . الثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم إخبارَهم بإيمانهم ، ثم قالوا : { فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } فأتى بفاء الجزاء وهذا يدلُّ على أنّ مجردَ الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أجابَهُمْ بقوله : { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] فدلت هذه الآيةُ على أنَّ مجردَ الإيمانِ سببٌ لحصول الغُفْرانِ ، إما ابتداء - بأن يعفوَ عنهم ، ولا يُدخلَهم النار - أو بأن يُعَذِّبهم مدةً ، ثم يعفوَ عنهم ، ويُخْرِجَهم من النار . قوله تعالى : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } في هذا الجارّ ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أنه متعلق بـ " وعدتنا " . قال الزمخشريُّ : " على - هذه - صلة للوعد ، كما في قولك : وعد اللَّه الْجَنَّةَ على الطَّاعَةِ ، والمعنى : ما وعدتنا على تصديق رُسُلك " . ثانيها : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من المفعولِ ، وقدَّره الزمخشريُّ بقوله : ما وعدتنا مُنَزَّلاً على رسلك ، أو محمولاً على رسلك ؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُحَمَّلون ذلك قال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } [ النور : 54 ] . وردَّ عليه أبو حيّان : بأنَّ الذي قدَّره محذوفاً كون مقيّد ، وقد عُلِم من القواعد أنَّ الظرفَ والجارَّ إذا وقعَا حالَيْن ، أو وَصْفَيْن ، أو خَبَرَيْن ، أو صِلَتَيْن تعلَّقاً بكون مطلق ، والجار - هنا - وقع حالاً ، فكيف يقدر متعلقه كوناً مقيَّداً ، وهو منزَّل ، أو محمول ؟ ثالثها : - ذكره أبو البقاء - أن يتعلق " على " بـ " آتِنَا " وقدر مضافاً محذوفاً ، فقال : على ألْسِنة رسُلك وهو حسن . وقرأ الأعمشُ : على رُسْلِكَ - بسكون السّينِ . فإن قيل : إن الخُلْف في وَعْد اللَّهِ - تعالى - محالٌ ، فكيف طلبوا ما علموا أنه واقع لا محالة ؟ فالجوابُ من وجوهٍ : الأول : أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعلِ ، بل المقصود منه إظهارُ الخضوعِ والذَّلَّة والعبودية ، وقد أمِرْنا بالدعاء بأشياء نقطع بوجودها لا محالة , كقوله : { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] وقوله : { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [ غافر : 7 ] . الثاني : أنَّ وعدَ اللَّهِ لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم ، بل بحسب أوصافهم ، فإنه - تعالى - وعد المتقين بالثوابِ ، ووعد الفُسَّاقَ بالعقاب ، فقوله : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } معناه : وفَّقْنا للأعمال التي نصير بها أهلاً لوعدك ، واعصمْنا من الأعمال التي نصير بها أهلاً للعقابِ والخِزْي . الثالث : أن اللَّهَ - تَعَالَى - وعد المؤمنينَ بأن ينصُرَهُمْ في الدُّنُيَا على أعدائِهِم ، فهُم طلبوا تعجيل ذلك . فصل دلَّت الآية على أنَّهُم إنَّمَا طلبوا منافعَ الآخرةِ بحُكْم الوعدِ لا بحُكْم الاستحقاق ؛ لقولهم : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } ثم قالوا : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } وهذا يدلُّ على أنَّ المقتضي لحصول منافع الآخرةِ هُوَ الوَعْدُ لا الاستحقاقُ . فإن قيلَ : متى حصل الثوابُ لزم اندفاعُ العقابِ لا محالةَ ، فلما طلبوا الثَّوابَ بقولهم : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } كيف طلبوا ترك العقاب بقولهم : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } بل لو طلب ترك العقاب - أولاً - ثم طلب الثَّوابَ بعده لاستقام الكلامُ ؟ فالجوابُ من وجهينِ : الأول : أن الثَّوابَ شرطه أن يكون منفعة مرونة بالتعظيم والسرور ، فقوله : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } المراد منه المنافعُ وقوله : { وَلاَ تُخْزِنَا } المرادُ منه التعظيمُ . الثاني : ما تقدم من أنّ المقصودَ طلب التوفيق إلى الطاعة ، والعصمة عن المعصية ، كأنه قيل : وفقنا للطاعات ، وإذا وفقتنا فاعصمنا عما يبطلها ، ويوقعنا في الخزي . وعلى هذا يحسن النظم . و " الميعاد " مصدر بمعنى الوَعْد . قوله : { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } فيه وجهان : الأول : أنه منصوب بـ { وَلاَ تُخْزِنَا } . والثَّاني : أنه أجاز أبو حيَّان أن يكونَ من باب الإعمالِ ؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً بـ { وَلاَ تُخْزِنَا } وبـ { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } إذا كان الموعود به الجنة .