Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 35-37)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في الناصب لِـ " إذْ " أوجه : أحدها : أنه " اذكر " مقدَّراً ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، أي : اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت وإليه ذهب أبو الحسن وأبو العباس . الثاني : أن الناصب له معنى الاصطفاء ، أي : " اصْطَفَى " مقدَّراً مدلولاً عليه بـ " اصْطَفَى " الأوَّل والتقدير : واصطفى آل عمران - إذ قالت امرأة عمران . وعلى هذا يكون قوله : { وَآلَ عِمْرَانَ } [ آل عمران : 33 ] من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ؛ إذ لو جُعِل من عطف المفردات لزم أن يكون وقتُ اصطفاءِ آدمَ وقول امرأةِ عمران كيت وكيت ، وليس كذلك ؛ لتغاير الزمانَيْن ، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظِ به ، وإلى هذا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وغيره . الثالث : أنه منصوب بـ " سميع " وبه صرح ابن جرير الطبري ، وإليه نحا الزمخشري ؛ فإنه قال : سميع عليم لقول امرأة عمران ونِيَّتها ، و " إذْ " منصوب به . قال أبو حيّان : ولا يَصِحُّ ذَلِكَ ؛ لأن قوله : { عَلِيمٌ } إمّا أن يكون خبراً بعد خبر ، أو وصفاً لقوله : " سميع " فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول ؛ لأنه أجنبيٌّ عنهما ، وإن كان وَصْفاً فلا يجوز أن يَعْمَل { سَمِيعٌ } في الظرف ؛ لأنه قَدْ وُصِفَ ، واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وُصِفَ قَبْلَ معموله لا يجوز له - إذ ذاك - أن يعمل ، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ؛ لأن اتصافه تعالى بـ { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لا يتقيد بذلك الوقت . قال شهابُ الدين : " وهذا القدر غيرُ مانع ؛ لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيره ، ولذلك تقدم على ما في خبر " أل " الموصولة وما في خبر " أن " المصدرية " . وأما كونه - تعالى - سميعاً عليماً لا يتقيد بذلك الوقت ، فإن سَمْعَه لذلك الكلام مقيَّد بوجود ذلك الكلام ، وعلمه - تعالى - بأنها تذكر مقيَّد بذكرها لذلك ، والتغيُّر في السمع والعلم ، إنما هو في النسبِ والتعلُّقات . الرابع : أن تكون " إذْ " زائدةً ، وهو قول أبي عُبَيْدَةَ ، والتقدير : قالت امرأة عمرانَ ، وهذا غلط من النحويين ، قال الزّجّاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً ؛ لأن إلغاء حرفٍ من كتاب الله تعالى - من غير ضرورةٍ لا يجوز ، وكان أبو عبيدة يُضَعَّفُ في النحو . الخامس : قال الأخفش والمُبَرِّد : التقدير : " ألم تر إذْ قالت امرأة عمران ، ومثله في كتاب الله كثير " . فصل امرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا أم مريم ، وهي حنة - بالحاء المهملة والنون - وجدة عيسى - عليه السلام - وليس باسم عربي . قال القرطبيُّ : " ولا يُعْرَف في العربية " حنة " : اسم امرأة - وفي العرب أبو حنة البدريّ ، ويقال فيه أبو حبة - بالباء الموحَّدة - وهو أصح ، واسمه عامر ، ودير حنة بالشام ، ودير آخر أيضاً يقال له كذلك . قال أبو نواس : @ 1414 - يَا ديرَ حَنَّةَ مِنْ ذَاتِ الأكَيْرَاحِ مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِي @@ وفي العرب كثير ، منهم أبو حبة الأنصاريّ وأبو السنابل بن بعْكك - المذكور في حديث سبيعة الأسلمية ، ولا يعرف " خَنَّة " - بالخاء المعجمة - إلا بنت يحيى بن أكثم ، وهي أم محمد بن نصر ، ولا يُعْرَف " جَنَّة " - بالجيم - إلاَّ أبو جنة وهو خال ذي الرمة الشاعر ، نقل هذا كله ابنُ ماكولا " . وعمران بن ماثان ، وليس بعمران أبي موسى ، وبينهما ألف وثمانمائة سنة ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم . وقيل : عمران بن أشهم ، وكان زكريا قد تزوَّج إيشاع بنت فاقوذ ، وهي أخت حنة أم مريم ، فكان يحيى بن زكريا ومريم عليهما السلام ولدي خالة ، وفي كيفية هذا النذر روايات . قال عكرمةُ : إنها كانت عاقراً لا تلد ، وتغبط النساء بالأولاد ، فقالت : اللهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً ن أتصدَّقَ به على بيتك المقدَّس ، فيكونَ من سَدَنَتِهِ . الثانية : قال محمد بن إسحاق : إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد ، فلما شاخت جلست يوماً في ظل شجرة فرأت طائراً يُطْعِم فِراخًاً له فتحركت نفسها للولد ، فدعت رَبَّها أن يَهَبَ لها وَلَداً ، فحملت مريم وهلك عمران - فلما عرفت جعلته لله محرراً - أي : خادماً للمسجد . قال الحسن البصري : إنما فعلت ذلك بإلهام من الله - تعالى - ولولاه لما فعلت ، كما رأى إبراهيم - عليه السلام - ذبحَ ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر الله تعالى - وإن لم يكن عن وحي ، وكما ألهم الله أمَّ موسى بقَذْفه في اليم وليس بوحي ، فلما حررت ما في بطنها - ولم تعلم ما هو ، قال لها زوجها : ويحكِ : ما صنعتِ ؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثَى لا يصح لذلك ؟ فوقعوا جميعاً في هَمٍّ من ذلك ، فهلك عمران وحنة حامل بمريم { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } . قوله : " مُحَرَّراً " في نَصبه أوجه : أحدها : أنها حال من الموصول - وهو { مَا فِي بَطْنِي } - فالعامل فيها " نذرت " . الثاني : أنه حال من الضمير المرفوع بالجار ؛ لوقوعه صلة " ما " وهو قريب من الأول ، فالعامل الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور . الثالث : أن ينتصب على المصدر ؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعول من الفعل الزَّائد على ثلاثة أحرف ، وعلى هذا ، فيجوز أن يكون في الكلام حذفُ مضاف ، تقديره : نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير ، ويجوز أن يكون " ما " انتصب على المعنى ؛ لأن معنى { نَذَرْتُ لَكَ } : حرَّرتُ لك ما في بطني تحريراً ، ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] وقوله : { وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [ الحج : 18 ] - في قراءة من فتح الراء - أي : كلَّ تمزيق ، فما له من إكرام . ومثله قول : [ الوافر ] @ 1415 - ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي فَلاَ عِيًّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا @@ أي تسريحي القوافي . الرابع : أن يكون نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديره : غلاماً مُحَرَّراً ، قاله مكيُّ بن أبي طالب - وجعل ابنُ عطية ، في هذا القول نظراً . قال شهاب الدين : " وجه النظر فيه أن " نذر " قد أخذ مفعوله - وهو قوله : { مَا فِي بَطْنِي } فلم يتعد إلى مفعول آخرَ ، وهو نظر صحيح " . وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالاً مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العِتْق ومقدرة معنى خدمة الكنيسة - كما جاء في التفسير ، ووقف أبو عمرو والكسائي على " امرأة " بالهاء - دون التاء - وقد كتبوا " امرأة " بالتاء وقياسها الهاء هاهنا وفي يوسف " امرأة العزيز " موضعين - وامرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون ، وأهل المدينة يقفون بالتاء ؛ إتباعاً لرسم المصحف ، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة : حمزت . وأنشدوا : @ 1416 - وَاللهُ نَجَّاكَ بِكَفَّيْ مَسْلَمَتْ مِنْ بَعْدِمَا وَبعْدِمَا وَبَعْدِمَتْ @@ فصل والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه وهذا النوع من النَّذْر كان في بني إسرائيل ، ولم يوجَد في شرعنا . قال ابن العربي : " لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حَمْلِها نذرٌ ؛ لكونها حُرَّةٌ ، فلو كانت امرأته أَمَة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده . وكيفما تصرفت حاله فإنه إن كان الناذرُ عبداً فلم يتقرر وله في ذلك ، وإن كان حُرًّا ، فلا يصح أن يكون ، مملوكاً له ، وكذلك المرأة مثله ، فأي وجه للنذر فيه ؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريدُ ولَده للأنس به والتسلّي ، والاستنصارِ ، فطلبت هذه المرأة أنساً به ، وسُكوناً إليه ، فلمَّا مَنَّ الله - تعالى - عليها به نذرَتْ أن حظها من الأنس متروك فيه ، وهو على خدمة الله - تعالى - موقوفٌ ، وهذا نَذْر الأحرار من الأبرار ، وأرادت به مُحَرَّراً من جهتي رق الدنيا وأشغالها . قوله : { مَا فِي بَطْنِي } أتى بـ " ما " التي لغير العاقلِ ؛ لأن ما في بطنها مُبْهَمٌ أمرُه ، والمُبْهَم أمره يجوز أن يُعَبَّر عنه بـ " ما " . ومثاله أن تقول إذا رأيتَ شبحاً من بعيد لا تدري إنسان هو أم غيره : ما هذا ؟ ولو عرفته إنساناً وجهلت كونه ذكراً أو أنثى ، قلت : ما هو أيضاً ؟ والآية من هذا القبيل ، هذا عند مَنْ يرى أن " ما " مخصوصة بغير العاقل ، وأما من يرى وقوعها على العقلاء ، فلا يتأوَّل شيئاً . وقيل : إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر عنه بـ " ما " التي لغير العُقَلاء . المحرر : الذي يُجْعَل حُرًّا خالصاً ، يقال : حرَّرت العبدَ - إذا أخلصته من الرق - وحرَّرْت الكتاب ، أي : أصلحته وخلصته من وجوه الغلط ، ورجل حُرّ : إذا كان خالصاً لنفسه ، وليس لأحد عليه تعلُّق . والطين الحر : الخالص من الرمل والحمأة والعيوب ، فمعنى " مُحَرَّراً " ، أي : مُخْلصاً للعبادة ، قاله الشعبيُّ . وقيل : خادماً للبيعة . وقيل : عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله . وقيل : خادماً لمن يدرس الكتاب ، ويُعَلِّم في البيع . والمعنى أنها نذرت أن تجعلَ الولدَ وَقْفاً على طاعة الله تعالى . قيل : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا شيء ، فكان تحريرهم جعلَهم أولادَهم على الصفة التي ذكرنا ؛ وذلك ؛ لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صَارَ بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين ، فكانوا - بالنذر - يتركون ذلك النوعَ من الانتفاع ، ويجعلونهم محرَّرين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى . وقيل : كان المحرر يجعل في الكنيسة - يقوم بخدمتها - حتى يبلغَ الحلم ، ثم يُخَيَّر بين المُقام والذهاب فإن أبي المقام ، وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فليس له بعدَ ذلك خيار ، ولم يكن نبيّ إلا ومن نسله محرَّر في بيت المقدس . وهذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان ، أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك ؛ لِمَا يُصِيبها من الحيض ، والأذى ، وحنَّةُ نذرت مطلقاً ، إما لأنها بنت الأمر على التقدير ، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلةً إلى طلب الذكر ومعنى : نذرت لك أي لعبادتك ، وتقدم الكلام على النذر ، ثم قال تعالى - حاكياً عنها - : { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } ، والتقبُّل : أخذ الشيء على الرضا ، قال الواحديُّ : " وأصله من المقابلة ؛ لأنه يقابَل بالجزاءِ ، وهذا كلام مَن لم يرد بفعله إلا رضا الله - تعالى - والإخلاصَ في عبادته ومعنى { ٱلسَّمِيعُ } أي : لتضرعي ودعائي وندائي { ٱلْعَلِيمُ } بما في ضميري ونيَّتي . قوله : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير في " وضعتها " يعود على " ما " - من حيث المعنى - ؛ لأن الذي في بطنها أنْثَى - في علم الله - فعاد الضمير على معناها دون لفظها . وقيل : إنما أنث ؛ حَمْلاً على مضيّ النسمة أو الْجِبلَّة أو النفس ، قاله الزمخشريُّ . وقال ابنُ عطية : حملاً على الموجودة ، ورفعاً للفظ " ما " في قوله { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } . قوله : { أُنْثَىٰ } فيه وجهان : أحدهما : أنها منصوبة على الحال ، وهي حال مؤكِّدَة ؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير ، فجاءت " أُنْثَىٰ " مؤكدة . قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : كيف جاز انتصاب " أُنْثَىٰ " حالاً من الضمير في " وَضَعْتُهَا " وهو كذلك كقولك : وضعت الأنثى أُنْثَىٰ ؟ قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال ؛ لأن الحالَ وذا الحال لشيء واحد ، كما أنث الاسم في من كانت أمك ؛ لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْن } [ النساء : 176 ] . وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهرٌ ، كأنه قيل : إني وَضَعْتُ النسمةَ أنثى " . يعني أن الحال على الجواب الثاني - تكون مبيِّنة لا مؤكِّدة ؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى ، فلما حصل الاشتراكُ جاءت الحال مبيِّنةً لها ، إلا أن أبا حيّان ناقشه في الجواب الأول ، فقال : وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أن " أنثى " تكون حالاً مؤكِّدة ، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالاً مؤكِّدة ، وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك - حيث عاد الضمير على معنى " ما " - فليس ذلك نظير { وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } ؛ لأن ذلك حَمْلٌ على معنى " ما " إذ المعنى : أية امرأة كانت أمك ، أي كانت هي أي أمُّك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبرِ ، وإنما هو من باب الحملِ على معنى " ما " ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير { وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } ؛ لأن الخبر تخصَّصَ بالإضافة إلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يُستفاد من الاسم ، بخلاف " أنْثَى " فإنه لمجرَّد التأكيد ، وأما تنظيره بقوله : { فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْن } . فيعني أنه ثَنَّى الاسمَ ؛ لتثنية الخبر . والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات ، فالأحسن أن يُجعل الضمير - في { وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } - عائداً على النسمة أو النفس ، فتكون الحال مبيِّنة مؤكِّدة . قال شهاب الدين : قوله : " ليس نظيرها ؛ لأن من كانت أمك " حُمل فيه على معنى من ، وهذا أنث لتأنيث الخبر " ليس كما قال ، بل هو نظيره ، وذلك أنه في الآية الكريمة حُمل على معنى " ما " كما حمل هناك على معنى " من " ، وقول الزمخشري : " لتأنيث الخبر " أي لأن المرادَ بـ " من " : التأنيث ، بدليل تأنيث الخبر ، فتأنيث الخبر بَيَّنَ لنا أن المراد بـ " من " المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى ، بيّن لنا أن المراد بـ " ما " في قوله : { مَا فِي بَطْنِي } أنه شيءٌ مؤنث ، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر ، وأما قوله : " فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف { وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } ، فإنه لمجرد التوكيد " ليس بظاهر أيضاً ؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقَبْل مجيء الخبر في النظير المذكور ؛ أما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض ، فلا يضر ذلك في التنظير ، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة ، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان : أحدهما : أنها مؤكِّدة إن قلنا : إن الضمير في { وَضَعَتْهَا } عائد على معنى " ما " . الثاني : أنها مبيِّنة إن قلنا : إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى . الوجه الثاني من وجهي " أُنْثَىٰ " : أنها بدل من " ها " في { وَضَعَتْهَا } بدل كل من كل - قاله أبو البقاء . ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة ، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو : { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا } [ الأنبياء : 3 ] - على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه ، والصحيح جوازه كقول الشاعر : [ الطويل ] @ 1417 - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ @@ بجر حاتم الأخير بدلاً من الهاء في " جُودِهِ " . فصل والفائدةُ في قولها : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها ، وكان الغالبُ على ظَنِّها أنه ذَكَر ، فلم تشترط ذلك في كلامِها ، وكانت عادتُهم تحريرَ الذكر ، لأنه هو الذي يُفَرَّغ لخدمة المسجد دون الأُنْثَىٰ ، فقالت : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يُعتَد به ، ومعتذرةً من إطلاقها النذر المتقدم ، فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار ، لا على سبيل الإعلام ؛ تعالى الله عن [ أن يحتاج إلى إعلامها ] . قوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرأ ابن عامر وأبو بكر " وَضَعْتُ " بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها ؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى ؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس . قال الزمخشريُّ - وقد ذكر هذه القراءة - : " تعني ولعل لله - تعالى - فيه سِرًّا وحكمةً ، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر ؛ تَسلِيَةً لنفسها " . وقيل : قالت ذلك ؛ خوفاً أن يُظَنَّ بها أنها تُخْبِر الله - تعالى - فأزالت الشبهةَ بقولها هذا وبينت أنها إنما قالتْ ذلك للاعتذارِ لا للإعلام - وفي قولها : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } التفات من الخطاب إلى الغيبة ؛ إذ لو جَرَتْ على مقتضَى قولها : " رَبِّ " لقالت : وأنت أعلم . وقرأ الباقون : " وَضَعَتْ " بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم ، وهو من كلام الباري تعالى ، وفيه تنبيه على عِظَم قَدْر هذا المولود ، وأنَّ له شأناً لم تعرفيه ، ولم تعرفي إلا كونه أُنْثَىٰ لا غير ، دون ما يئول إليه من أمور عِظَامٍ ، وآيات واضحةٍ . قال الزمخشريُّ : " ولتكلُّمها بذلك على وجه التحسُّر والتحزُّن قال الله - تعالى - : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعها ، وتجهيلاً لها بقدر ما وُهِبَ لها منه ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت ، وما علق به من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين ، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت " . وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ } قال : " ولو كان من كلامِ مريم لكان التركيب : وأنت أعلم " . وقد تقدم جوابُه بأنه التفات . وقرأ ابن عباس { والله أعلم بِمَا وَضَعَتِ } - بكسر التاء - خاطبها الله - تعالى - بذلك ، بمعنى : أنك لا تعلمين قدرَ هذه المولودة ، ولا قدر ما علم الله فيها من عظائمِ الأمورِ . قوله : { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } ؛ هذه الجملة - يحتمل أن تكون معترضةً ، وأن يكون لها محل ، وذلك بحسب القراءات المذكورة في " وَضَعَتْ " - كما يأتي تفصيله - والألف واللام في " الذكَر " يحتمل أن تكون للعهدِ ، والمعنى : ليس الذكر الذي طلبَتْ كالأنثى التي وَهِبَتْ لها . قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : فما معنى قولها : { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } ؟ قلت : هو بيان لما في قوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } من التعظيم للموضوع ، والرفع منه ، ومعناه : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهِبَتْ لها ، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس ، على أن المراد : أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية ؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب ، بخلاف الأنثى ؛ لِما يعتريها من الحيض ، وعوارض النسوان . وكان سياقُ الكلام - على هذا - يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر ، وحصل عندَها ، وانتفت عنه صفاتُ الكمال للغرض المقصود منه ، فكان التركيبُ : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عدل عن ذلك ؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده ، وهو المُتَلَجلِج في صدرها ، والحائل في نفسها ، فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به ، فصار التقديرُ : وليس جنسُ الذكرِ مثل جنس الأنثى ، لما بينهما من التفاوتِ فيما ذكر ، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء ، وفهموها عن الله - تعالى - لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنًى ؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلَمُ أن الذكر لَيْسَ كالأنثى . وقوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } هذه الجملة معطوفة على قوله { إِنِّي وَضَعْتُهَآ } على قراءة مَنْ ضَمَّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت : إني وضعتُها ، وقالت : والله أعلم بما وَضَعْتُ ، وقالت : وليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَم . وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا } أيضاً معطوفاً على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ } ويكون قد فصل بين المتعاطفَيْن بجملتي اعتراض ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] قاله الزمخشريُّ . قال أبو حيّان : " ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان ؛ لأنه يحتمل أن يكون : { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } من كلامها في هذه القراءة " ويكون المعترض جملة واحدة - كما كان من كلامها في قراءة من قرأ " وَضَعْتُ " بضم التاء - بل ينبغي أن يكون هذا المتعيِّن ؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، ولأن في اعتراضِ جملتين خلافاً لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان . وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما - على زعمه - بين المعطوف والمعطوفِ عليه ، بقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية ؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم - الذي هو { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } [ الواقعة : 75 ] - وبين جوابه - الذي هو { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] - بجملة واحدة - وهي قوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } - لكنه جاء في جملة الاعتراض - بين بعض أجزائها ، وبعض اعتراض بجملة - وهي قوله : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } اعتراضٌ بها بين المنعوتِ الذي هو " لَقَسَمٌ " - وبين نعته - الذي هو " عَظِيمٌ " - فهذا اعتراضٌ ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } . قال شهابُ الدين : والمشاحَّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة ، وقوله : " ليس فصلاً بجملتي اعتراض " ممنوع ، بل هو فَصْلٌ بجملتي اعتراض ، وكونه جاء اعتراضاً في اعتراض لا يضر ولا يقدَح في قوله : فصل بجملتين " فـ " سمى " يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه ، تقول : سميت زيداً ، و الأصل : بزيدٍ ، وجمع الشاعرُ بين الأصل والفرع في قوله : [ المتقارب ] @ 1418 - وَسُمِّيْتَ كَعباً بِشَرِّ الْعِظَامِ وَكَانَ أبُوكَ يُسَمَّى الْجُعَل @@ أي يسمى بالجُعَل - وقد تقدم الكلامَ في مريمَ واشتقاقها ومعناها . فصل ظاهر هذا الكلام يدل على أن عمران كان قد مات قبل وَضْعِ حَنَّة مَرْيمَ ، فلذلك تولَّت الأم تسميتها ؛ لأن العادة أن التسمية يتولاّها الآباء ، وأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله أن يعصمها من آفاتِ الدين والدنيا ؛ لأن مريم - في لغتهم - العابدة ، ويؤكد ذلك قوله : بعد ذلك : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } . وقولها : { سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } جَعَلت هذا اللفظَ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة ، وعلى أن تسمية الولد يكون يوم الوضع . قوله : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا } عطف على { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا } وأتى - هنا - بخبر " إنَّ " فعلاً مضارعاً ؛ دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف قوله : { وَضَعْتُها } و { سَمَّيْتُهَا } حيث أتى بالخبرين ماضيَيْن ؛ لانقطاعهما ، وقدم المُعَاذَ به على المعطوف ؛ اهتماماً به . وفتح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة ، وكذلك ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين فإن الكُلَّ اتفقوا على سكونها فيهما - : { بِعَهْدِيۤ أُوف } [ البقرة : 40 ] و { آتُونِيۤ أُفْرِغ } [ الكهف : 96 ] والباقي عشرة مواضع ، هذا الذي في هذه السورة أحدها . فصل لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد ، تضرعت إلى الله تعالى أن يحفظها من الشيطان ، وأن يجعلها من الصالحات القانتات . قال القرطبي : " معنى قوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } يعني خادم الرب - بلغتهم - { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ } مريمَ . { وَذُرِّيَّتَهَا } عيسى . وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصّة " . قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } الجمهور على { فَتَقَبَّلَهَا } فعلاً ماضياً على " تَفَعَّل " بتشديد العينِ - و { رَبُّهَا } فاعل به ، وتفعل يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير ، و - " تَفَعَّل " يأتي بمعنى " فَعَل " مُجَرَّداً ، نحو تعجب وعَجب من كذا ، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه . والثاني : أن " تفعل " بمعنى : استفعل ، أي : فاستقبلها ربُّها ، يقال : استقبلت الشيءَ أي : أخذته أول مرة . والمعنى : أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها . ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] @ 1419 - وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا @@ ومنه المثل : خذ الأمر بقوابله . و " تَفَعَّل " بمعنى " استفعل " كثير ، نحو : تعظم ، واستعظم ، وتكبر ، واستكبر ، وتعجَّل واستعجل . قال بعضُ العلماء : " إن ما كان من باب التفعُّل ، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل ، كالتصبُّر والتجلُّد ، ونحوهما ، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في إظهار الصَبْرِ والجَلَدِ ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ " . فإن قيل : فلِمَ لَمْ يَقُلْ : فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ ، حتى تكمُلَ المبالغةُ ؟ فالجوابُ : أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ ، فذكر التقبلَ ، ليفيد الجد والمبالغة ، ثم ذكر القبولَ ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ ، بل على وفق الطبعِ ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها ، وهو وجه مناسبٌ . والباء - في قوله : " بِقَبُولٍ " - فيها وجهانِ : أحدهما : أنها زائدة ، أي : قبولاً ، وعلى هذا فينتصب " قبولاً " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد ؛ إذْ لو جاء على " تَقَبُّل " لقيل : تَقَبُّلاً ، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً . وَقَبُول : من المصادر التي جاءت على " فَعُول " - بفتح الفاء - قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على " فَعُول " قَبُول ، وطَهُور ، ووَقُود ، ووَضُوء ، وولُوع ، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ ، يقال : قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً ، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس ، كالدخولِ والخروجِ ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب : قبلت قَبُولاً وقُبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً ، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم ، وأنشدوا : [ السريع ] @ 1420 - قَدْ يُحْمَدُ الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ @@ بضم القاف - كذا حكاه بعضهم . قال الزَّجَّاجُ : إن " قَبُولاً " هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر ، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له ، - أي : مجرداً - قال : والتقدير : فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً ، أي : رضيها ، وفيه بُعَدٌ . والوجه الثاني : أن الياء ليست بزائدة ، بل هي على حالها ، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ ، نحو اللدود ، لما يُلَدُّ به . والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر . فصل في تفسير ذلك القبولِ الْحَسَنِ وجوهٌ : أحدها : أنه - تعالى - استجاب دعاءَ أمِّ مريمَ ، وعصمها ، وعصم ولدَهَا عيسى - عليه السلام - من الشيطان . روى أبو هريرةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسه - حِيْنَ يُولَدُ - فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إلاَّ مَرْيَمَ وَابنها " ثم قال أبو هريرة : اقرَأُوا - إنْ شِئْتُمْ - { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } ، طعن القاضي في هذا الخبر ، وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدَّليلِ ؛ وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ : الأول : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشَّرِّ مَنْ يَعْرف الخير والشر ، والطفل المولود ليس كذلك . الثاني : أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك - من إهلاك الصالحين ، وإفساد أحوَالهم . الثالث : لِمَ خَصَّ - بهذا الاستثناء - مريم وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء ؟ الرابع : أن ذلك المس لو وُجِدَ بَقِيَ أثَرهُ ، ولو بقي أثره لدام الصُّرَاخُ والبُكاءُ ، فلمَّا لم يكن كذلك علمنا بُطْلانَهُ . الوجه الثاني - في معنى القبول الحسن - : ما رُوِيَ أن حَنَّةَ - حين ولدت مريمَ - لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة - وقالت : خذوا هذه النذيرةَ ، فتنافسوا فيها ؛ لأنها كانت بنت إمامهم ، فقال لهم زكريَّا : أنا أحق بها ؛ عندي خالتها ، فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا - وكانوا سبعةً وعشرين - إلى نهرٍ جارٍ . قال السُّدِّيُّ : هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها ، على أن كل من يرتفع قلمه ، فهو الراجحُ ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ ، وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريَّا . قاله محمد بن إسحاق وجماعة ، وقيل : جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ ، وجرت أقلامهم بجري الماء . وقال السُّدِّيُّ وجماعة : ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامُهم ، فذهب بها الماء ، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها . الوجه الثالث : رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط ، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ . الوجه الرابع : أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام ، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد ، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا ، وعدم قدرتها على خدمة المسجد . وقيل : معنى التَّقَبُّل : التكفُّل في التربية ، والقيام بشأنها . وقال الحسنُ : معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار . وقوله : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } نبات : مصدر على غير المصدر ؛ إذ القياس إنبات ، وقيل : بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً ، تقديره : فتنبت نباتاً حسناً ، قاله ابنُ الأنباريّ . وقيل : كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام . وقيل : تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ . وقال القرطبي : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أي : سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ . قوله : { وَكَفَّلَهَا } قرأ الكوفيون { وَكَفَّلَهَا } - بتشديد الْعَيْنِ - " زَكَرِيَّا " - بالقصر - إلا أبا بكر ، فإنه قرأه بالمد كالباقين ، ولكنه ينصبه ، والباقون يرفعونه . وقرأ مجاهدٌ " فَتَقَبَّلَهَا " بسكون اللام " رَبَّهَا " منصوباً ، " وأنْبَتَهَا " - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [ وسكون اللام ] والتخفيف وقرأ أبي : " وأكْفَلَهَا " - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً . وقرأ عبد الله المزني " وَكَفِلَهَا " - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ - . فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين ، ثانيهما زكريا ، فمن قصره ، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب ، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به ، وأما قراءة بقية السبعة فـ " كَفِلَ " مخفف عندهم ، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا . قال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ولا مخالفة بين القراءتين ؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها ، وهو في قراءتهم ممدود ، مرفوع بالفاعلية . وأما قراءة : " أكْفَلهَا " فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته ، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى ، والمفعول الأول هو : ضمير مَرْيَمَ والثاني : هو زكريا . أما قراءة " وَكفِلها " - بكسر الفاءِ - فإنها لغة في " كَفَل " يقال : كَفَلَ يَكْفُل - كقَتَل يقْتُل - وهي الفاشية ، وكَفِلَ يَكْفَلُ - كعَلِمَ يَعْلَمُ - وعليها هذه الْقِرَاءةُ ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون " زكريا " فاعلاً . وأما قراءة مجاهدٍ فإنها " كَفِّلْهَا " على لفظ الدعاء من أم مريم لله - تعالى - بأن يفعل لها ما سألته ربَّهَا منصوب على النداء ، أي : فَتَقَبَّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وأنبِتْهَا وكَفِّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضاً كقراءة الكوفيين . وقرأ حفص والأخوانِ " زكريا " - بالقصر - حيث ورد في القرآن ، وباقي السبعة بالْمَدِّ والمدُّ والقَصْرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز . وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه : مُنِع من الصرف للعلمية ، والعُجْمَة - كنظائره - وإنَّما قالوا منع من الصرف لوجود ألفِ التَّأنِيثِ فيه : إما الممدودة كَحَمْرَاءَ ، وإما المقصورة كحُبْلَى ، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوْه ممنوعاً - معرفةً ونكرة - قالوا : فلو كان منعه للعلمية والعُجمَةِ لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع ، لكن العرب منعته نكرةً ، فعلمنا أن المانع غير ذلك ، وليس معناه - هنا - يصلح مانعاً من صَرْفهِ إلا ألف التأنيث - يَعْنُون للشبه بألف التأنيث - وإلا فهذا اسم أعجمي لا يُعْرفَ له اشتقاقٌ ، حتى يُدَّعَى فيه أنَّ الألف فيه للتأنيث . على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صَرْفه نكرةً ، وكأنه لحظ المانعَ فيه ما تقدمَ من العلميَّة والعُجْمَةِ ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك ، وأشبع الفارسيُّ القولَ فيه فقال : " لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث ، أو للإلحاق أو منقلبة ، ولا يجوز أن تكون منقلبةٌ ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرفٍ أصلي ، أو من حرف الإلحاق ؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا مُلْحَقاً به ، وإذا ثَبَتَ ذلكَ ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة " . قال شِهَابُ الدِّينِ : " وهذا - الذي قاله أبو علي - صحيح ، لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاق ويدخله تصريف ، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجميّة مُجْرَى العربية بمعنى أنَّ هذا لَوْ وَرَدَ في لسان العرب كيف يكون حكمه " . وفيه - بَعْدَ ذلك - لغتانِ أخْرَيَانِ : إحداهما : زكريّ - بياء مشددة في آخره فقط دون ألف - وهو في هذه اللغة منصرف ، ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال : " القول فيه أنَّهُ حُذِفَ منه الياءان اللتان كانتا فيه - ممدوداً ومقصوراً - وما بعدها ، وألحق بياء النَّسَب ، ويدل على ذلك صرفُ الاسم ، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ ؛ للعجمة والتعريف ، وهذه لُغَةُ أهل نجد ومَنْ والاهم " . الثانية : زَكْر - بوزن عَمْرو - حكاه الأخفشُ . والكفالة أي : الضمان - في الأصل - ثم يُستعار للضَّمِّ والأخذ ، يقال منه : كَفَل يَكْفُل ، وكَفِلَ يَكْفَلُ ، كعلم يعلم - كفالةً وكَفْلاً ، فهو كافِل وكفيل ، والكافل : هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله ، وفي الحديث : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " وقال تعالى : { أَكْفِلْنِيهَا } [ ص : 23 ] . واختلفوا في كَفَالةِ زكريا - عليه الصلاة والسلام - إياها ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفولتها ، وبه جاءت الروايات . وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن طمثت ، واحتجوا بوجهين : أحدهما : قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } ثم قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النباتِ الحسنِ . الثاني : أنه - تعالى - قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة . وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الإنباتَ الحسنَ وكفالة زكريا حَصَلا معاً . وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها ، وسؤالَه لها هذا السؤالَ لعله وقع في آخرِ زمانِ الكفالةِ . قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ } " المحراب " فيه وجهان : أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف ، وشذ عن سائر أخواته بعد " دَخَلَ " خاصَّةً ، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة " في " نحو صليت في المحراب - ولا تقول : صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول : السوقَ - إلا مع دخل خاصة ، نحو دخلت السوق والبيت … الخ . وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو . والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد " دَخَلَ " على المفعول به لا على الظرف فقولك : دخلت البيت ، كقولك : هدمت البيت ، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح ؛ بدليل أن " دَخَلَ " لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة " في " تقول : دخلتُ في الأمر - ولا تقول : دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه . والجواب : قال أبو عبيدة : هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد . وقال أبو عمرو ابن العلاء : هو القصر ؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ . وقال الأصمعيُّ : هو الغُرْفَة . وأنشد لامرئِ القيس : [ الطويل ] @ 1421 - وَمَاذَا عَلَيْهِ أنّ ذَكَرْتَ أو أنِسَا كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ @@ قالوا معناه : في غرف أقيال . وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة : [ السريع ] @ 1422 - رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما @@ وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود ، وهو الأليق بالآية . وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به : المحراب من حيث هو ، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه . واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : { إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } [ ص : 21 ] والتسوُّر لا يكون إلا من عُلُو . يُرْوَى أنها لما صارت شابة بنى زكريا - عليه السلام - لها غرفة في المسجد , وجعل بابها في وسطها , لا يُصْعَد إليها إلا بِسُلَّم , ويقال للمسجد - أيضاً - المحراب . قال المبرد : " لا يكون المحراب : إلا أن يُرْتَقَى إليه بِدَرَج " . واشتقاقه من الحرب ؛ لتحارُبِ الناس عليه . قال ابنُ ذكوان - عن ابن عامر - " المِحْرَاب " في هذه السورة - موضعين - بلا خلاف ؛ كونه أن فيه سببَ الإمالة , وذلك أن الألف تقدمها كسرة , وتأخرت عنها كسرةٌ أخْرَى , فقوى داعي الإمالة , وهذا بخلاف المحراب غير المجرور فإنه نُقِل عن ابن ذكوان فيه الوجهان : الإمالة وعدمها , نحو قوله : { إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } [ ص : 21 ] فوجه الإمالة تقدم الكسرة ، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل . قوله : { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } " وجد " هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو " رِزْقاً " و " عندها " الظاهر أنه ظرف للوجدان . وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من " رِزْقاً " ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل ، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف ، فـ " وجد " هو الناصب لِـ " كُلَّمَا " لأنها ظرفية ، وأبو البقاء سمَّاه جوابها ؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي . قوله : { قَالَ يَٰمَرْيَمُ } فيه وجهان : أحدهما : أنه مستأنف ، قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون بدلاً من " وَجَدَ " ؛ لأنه ليس بمعناه " . الثاني : أنه معطوف بالفاء ، فحذف العاطف ، قال أبو البقاء : " كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] ، وكذلك قول الشاعر : [ البسيط ] @ 1423 - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا … @@ وهذا الموضع يشبه جوابَ الشرط ، لأن " كُلَّمَا " تشبه الشرط في اقتضائها الجواب . قال شهاب الدين : وهذا - الذي قاله - فيه نظر من حيث إنه تخيَّل أن قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } أن جوابَ الشرط هو نفس { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } حُذِفَتْ منه الفاء ، وليس كذلك ، بل جواب الشرط محذوف ، و - { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة ، وليس هذا مما حُذِفَتْ منه فاء الجزاء ألبتة ، وكيف يَدَّعِي ذلك ، ويُشَبِّهه بالبيت المذكور ، وهو لا يجوز إلا في ضرورة ؟ ثم الذي يظهر أن الجملةَ من قوله : " وَجَدَ " في محل نصب على الحال من فاعل " دَخَلَ " ويكون جواب " كُلَّمَا " هو نفس " قَالَ " والتقدير : كلما دخل عليها زكريا المحراب واجداً عندَها الرزق . قال : وهذا بَيِّن . ونكر " رِزْقاً " تعظيماً ، أو ليدل به على نوع " ما " . قوله : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } " أنى " خبر مقدم ، و " هَذَا " مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا : من أين ؟ كذا فسَّره أبو عبيدة . قيل : ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي : كيف تَهَيأ لكِ هذا ؟ قال الكميت : [ المنسرح ] @ 1425 - أنَّى وَمِنْ أيْنَ هَزَّكَ الطَّرَبُ مِنْ حَيْثُ لاَ صَبْوةٌ وَلاَ رِيَبُ @@ وجوَّز أبو البقاء في " أنَّى " أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في " ذلك " . و " لك " رافع لـ " هذا " يعني بالفاعلية . ولا حاجة إلى ذلك ، وتقدم الكلام على " أنى " في " البقرة " . فصل قال الرَّبيع ابن أنس : إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعةَ أبوابٍ ، فإذا دخل عليها غُرفتها وجد عندها رزقاً - أي : فاكهة في غير حينها - فاكهة الصَّيْفِ في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فيقول يا مريمُ ، أنى لك هذا ؟ قال أبو عبيدة : معناه من أين لك هذا ، وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا ؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة ، وأين للسؤال عن المكان . فصل احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية ؛ فإنَّ حصول الرزق عندها إمَّا أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون ، فإن كان غيرَ خارقٍ للعادة ، فذلك باطلٌ من خمسة أوْجُهٍ : الأول : أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزقُ عند مريم دليلاً على عُلُوِّ شأنِهَا ، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصِّيَّةِ ، وهو المعنى المراد من الآية . الثاني : قوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] والقرآن دلَّ على أنه كان آيساً من الولد ؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى خَرْقَ العادة في حق مريمَ طمع في حصول الولد ، فيستقيم قوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } . ولو كان الذي شاهده في حق مريم غيرَ خارق لم تكن مشاهدةُ ذلك سبباً لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر . الثالث : تنكير الرزق في قوله : " رِزْقاً " فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل : رزق وإنه رزق عجيب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية . الرابع : أنه - تعالى - قال : { وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] ولولا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك . الخامس : تواتُر الروايات على أن زكريا - عليه السلام - كان يجد عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقاً للعادة ، وإذا ثبت ذلك فنقول : إمّا أنه كان معجزةً لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل ؛ لأن النبيَّ الموجودَ في ذلكَ الزمانِ زكريا - عليه السلام - ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله ، ولم يَشْتبه أمْرُه عليه ، ولم يَقُلْ لـ " مريم " أنَّى لَكِ هَذَا ؟ وأيضاً فقوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } مُشْعِرٌ بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله ، فهنالك طمع في انخراق العادةِ في حصول الولد من المرأة الشيخة العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم ، وإذا كان كذلك ، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا - عليه السلام - فلم يَبْقَ إلاَّ أنها كانت لمريم عليها السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عليه الصلاة والسلام كرامة لمريم ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل . قال أبو علي الجبائي : لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا - عليه السلام - لوجهين : الأول : أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وأنه كان غافلاً عما يأتيها من الأرزاق من عند الله ، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معيَّن قال لها : أنَّى لكِ هذا ؟ فقالت هو من عند الله ، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزةَ . الثاني : يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقاً معتاداً ، إلا أنه كان يأتيها من السماء ، وكان زكريا يسألها عن ذلك ، حَذَراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها ، فقالت : هو من عند الله لا من عند غيره . وأيضاً لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق ، بل معنى الآية أن الله - تعالى - كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهداتِ العابداتِ ، فكأن زكريا عليه الصلاة والسلام لمّا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه رُبَّما أتاها ذلك الرزق من جهةٍ لا ينبغي ، فكان يسألها عن كيفية الحال . والجواب عن الأول والثاني : أنه لو كان معجزاً لزكريا لكان زكريا مأذوناً له من عند الله في طلب ذلك ، ومتى كان مأذوناً له في ذلك الطلب كان عالماً - قطعاً - بأنه يحصل ، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ، ولم يكن لقول : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } فائدة . والجواب عن الثالث : أنه - على هذا التقدير - لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه . أيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق ، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة ؟ فسقطت هذه الأسئلة . واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النَّبِيِّ لا يوجد مع غير النبي ، كما أن الفعل المُحْكَم - لما كان دليلاً على العلم لا جرم - لا يوجد في حَقِّ غَيْرِ العالمِ . والجواب من وجوه : الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدَّعِي ، فإن ادَّعَى صاحبهُ النبوةَ ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيًّا ، وإن ادَّعَى الولايةَ ، فذلك يدل على كونه وليًّا . والثاني : قال بعضهم : " الأنبياء مأمورون بإظهارها ، والأولياء مأمورون بإخفائها " . والثالث : أن النبي يدَّعي المعجزة ويقطع به ، والولي لا يمكنه القطع به . الرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة . قوله : { إنًّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يُحْتَمَل أن يكون من جملة كلام مريم - عليها السلام - فيكون منصوباً . ويحتمل أن يكون مستأنفاً ، من كلام الله تعالى ، وتقدم الكلامُ على نظيره .