Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 38-41)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

القصة الثانية " هنا " هو الاسم ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب ، وهو منصوب على الظرف المكاني بـ " دَعَا " وزان " ذلك " ، وهو منصوب على الظرف المكاني ، بـ " دعا " أي : في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى من أمر مريمَ ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية بـ " مِنْ " وَ " إلَى " . قال الشاعر : [ الرجز ] @ 1426 - قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ @@ وحكمه حكم " ذَا " من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه ، ومن الكاف واللام ، نحو " هُنَا " وقد يَصْحَبه " ها " التنبيه ، نحو هاهنا ، ومع الكاف قليلاً ، نحو ها هناك ، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام . وأخوات " هنا " بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و " ثَمَّ " بفتح الثاء - وقد يقال : " هَنَّت " . ولا يشار بـ " هُنَالِكَ " وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة ، كقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 119 ] وقوله : { هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ } [ الكهف : 44 ] وقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] . وقد زعم بعضهم أن " هُنا " و " هناك " و " هنالك " للزمان ، فمن ورود " هنالك " بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي : في ذلك الزمان دعا زكريا ربه ، ومثله : { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ الأحزاب : 11 ] ، وقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } ومنه قول زهير : [ الطويل ] @ 1427 - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا … @@ ومن " هنَّا " قوله : [ الكامل ] @ 1428 - حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ @@ لأن " لات " لا تعمل إلا في الأحيان . وفي عبارة السجاوندي أن " هناك " في المكان ، و " هنالك " في الزمان ، وهو سهو ؛ لأنها للمكان سواء تجردت ، أو اتصلت بالكاف واللام معاً ، أم بالكاف من دون اللام . فصل ذكر المفسّرون أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خَوَارِقَ العادة عند مريم طمع في خرق العادةِ في حقه ، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر . فإن قيل : لِمَ قلتم : إنَّ زكريا - عليه السلام - ما كان عالماً بأن الله قادر على خَرْق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم ، وهذه النسبة شَكٌّ في قدرة الله - تعالى - من زكريا ، وإن قلتم بأنه كان عالماً بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سبباً لزيادة علمه بقدرة الله - تعالى - فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أَثرٌ في السببية ؟ فالجواب : أنه كان عالماً قبل ذلك بالخوارق ، أما أنّه هل تقع أم لا ؟ فلم يكن عالماً به ، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوَلِيّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى ، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك . قوله : { مِن لَّدُنْكَ } فيه وجهان : أحدهما : أنه يتعلق بـ " هَبْ " وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً ، أي : يا رب هَبْ لي من عندك . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِـ " ذُرِّيَّة " فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً . وتقدم الكلام على " لَدُنْ " وأحكامها . قال ابن الخطيب : " وقول زكريا : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة ، قال : { مِن لَّدُنْكَ } أي بمحض قدرتك ، من غير شيء من هذه الأسباب " . فصل الذرية : النسل ، وهو يقع على الواحدِ والجمعِ والذكرِ والأنثى ، والمراد - هنا - ولد واحد ، وهو مثل قوله : " فهب لي من لدنك وليًّا " . قوله : { طَيِّبَةً } إن أريد بـ " ذُرِّيَّة " الجنس ، فيكون التأنيث في " طيِّبة " باعتبار تأنيث الجماعة ، وإن أريد به ذَكر واحد فالتأنيث باعتبارِ اللفظِ . قال الفراء : وأنّث " طَيِّبَةً " لتأنيث لفظ " الذرية " كما قال القائل في ذلك البيت : [ الوافر ] @ 1429 - أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى وَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ @@ وهذا فيما لم يُقْصَد به واحد مُعين ، أما لو قُصِدَ به واحدٌ معيَّن امتنع اعتبار اللفظ نحو طلحة وحمزة ، فيجوز أن يُقال : جاءت طلحة ؛ لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان مذكَّراً لم يجز فيه إلا التذكيرُ ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتانيث في قوله : [ الطويل ] @ 1430 - فَمَا تَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جبَلِيَّةٍ سُكَاتٍ إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدَا @@ قوله { سَمِيعٌ ٱلدُّعَآءِ } مثال مبالغة ، مُحَوَّل من سامع ، وليس بمعنى مُسْمِع ؛ لفساد المعنى ؛ لأن معناه إنك سامعه ، وقيل : مُجِيبه ، كقوله : { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } [ يس : 25 ] أي : فأجيبوني ، وكقول المصلي : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين . فصل قال القرطبيُّ : دَلَّتْ هذه الآيةُ على طلب الولد ، وهي سُنَّةُ المرسلين والصِّدِّيقينَ . قال تعالى - حكاية عن إبراهيم - : { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] . وقال تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس فقال : " اللهُمَّ أكثر مالَه وولَده ، وبَارِك لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَه " وقال صلى الله عليه وسلم : " تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الوَدُودَ ؛ فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ الْقِيَامةِ " فدلَّ على أن طلب الولَد مندوبٌ إليه ؛ لِما يُرْجَى من نفعه في الدنيا والآخرة ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إذَا مَاتَ أحَدُكُم انْقَطَع عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ " فذكر " أو ولَدٌ صَالح يَدْعُو لَهُ " . فصل ويجب على الإنسان أن يتضرَّع إلى الله - تعالى - في هداية زوجته وولده بالتوفيق ، والهداية ، والصَّلاح ، والعَفَاف ، وأن يكونا معينَيْنِ له على دينه ودُنياه ، حتى تَعْظُم منفعتُهما قال زكريا : { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 6 ] ، وقال : { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } وقال تعالى : { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] . قوله : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } قرأ الأخوان " فَنَادَاهُ المَلاَئِكَةُ " - من غير تأنيث - والباقون " فَنَادَتْهُ " بتاء التأنيث - باعتبار الجمع المُكَسَّر ، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع ، والتأنيث باعتبار الجماعة ، ولتأنيث لفظ " الملائكة " مع أن المذكور إذا تقدَّم فعلُهم - وهم جماعة - كان التأنيث فيه أحسن ؛ كقوله تعالى : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ } [ الحجرات : 14 ] . ومثل هذا { إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } [ الأنفال : 50 ] تُقْرأ بالتاء والياء ، وكذا قوله : { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [ المعارج : 4 ] . قال الزجاج : يلحقها التأنيث للفظ الجماعة ، ويجوز أن يُعَبَّر عنها بلفظ التذكير ؛ لأنه - تعالى جمع الملائكة ، وهكذا قوله : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } [ يوسف : 30 ] . وإنما حَسُنَ الحذفُ - هنا - للفصل بين الفعل وفاعله . وقد تجرأ بعضُهم على قراءة العامة ، فقال : " أكره التأنيثَ ؛ لما فيه من موافقة دَعْوَى الجاهلية ؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث " . روى إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الملائكةَ في كُلِّ القرآنِ . قال أبو عُبَيْد : " نراه اختار ذلك ؛ خلافاً على المشركين ؛ لأنهم قالوا : الملائكة بناتُ اللهِ " . وروى الشعبيُّ أن ابن مسعود قال : " إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً " . وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين ، فقال : وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية ، ولذلك قرأ " فناداه " بغير تاء - والقراءة غير جيِّدة ؛ لأن الملائكة جمع ، وما اعتلوا ليس بشيءٍ ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله : { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ } [ آل عمران : 42 ] . وهذان القولان - الصادران من أبي البقاء وغيره - ليسا بجيِّدَيْن ؛ لأنهما قراءتان متواترتان ، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة . والأخوان على أصلهما من إمالة " فَنَادَاهُ " . والرسم يحتمل القراءتين معاً - أعني : التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد - وهو جبريل . قال الزَّجَّاج : أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة ، كقولك : فلان يركب السُّفُنَ - أي : هذا الجنس كقوله تعالى : { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ } [ النحل : 2 ] يعني جبريل " بِالرُّوحِ " يعني الوحي . ومثله قوله : { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } [ آل عمران : 173 ] وهو نعيم بن مسعود ، وقوله : { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] يعني أبا سفيان . ولما كان جبريل - عليه السلام - رئيسَ الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة ؛ تعظيماً له . قيل : الرئيس لا بدَّ له من أتباع ، فلذلك أخبر عنه وعنهم ، وإن كان النداء قد صدر منه - قاله الفضل بن سلمة - ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءةُ عبد الله - وكذا في مصحفه - فناداه جبريل . والعطف بالفاء - في قوله " فَنَادَتْهُ " - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير . والنداء : رفع الصوت ، يقال : نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم ، نحو البُكَاء ، والصُّراخ ، والدُّعاء ، والرُّغاء . وقيل : المكسور مصدر ، والمضموم اسم . ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ ؛ لموافقته نظائره من المصادر . قال يعقوب بن السكيت : إن ضمّيت نونه قصرته ، وإن كسرتها مددته . وأصل المادة يدل على الرفع ، ومنه المنْتَدَى والنادي ؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم . وقالت قريش : دار الندوة ، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها ، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي : أرفع - هذا أصله في اللغة ، وفي العرف : صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً ، والنَّدَى : المَطَر ، ومنه : نَدِيَ ، يَنْدَى ، ويُعَبَّر به عن الجود ، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً . قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و " يُصَلِّي " يحتمل أوجهاً : أحدها : أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو : زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ . الثاني : أنه حال من مفعول النداء ، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال . الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في " قَائِمٌ " فيكون حالاً من حال . الرابع : أن يكون صفة لِـ " قَائِمٌ " . قوله : { فِي ٱلْمِحْرَابِ } متعلق بـ " يُصَلِّي " ، ويجوز أن يتعلق بـ " قَائِمٌ " إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في " قَائِمٌ " ؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد ، فلا يلزم فيه فَصْل ، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِـ " قَائِمٌ " أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ . هذا معنى كلام أبي حيّان . قال شِهَابُ الدِّيْنِ : والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ فإن كُلاًّ من " قَائِمٌ " و " يصلِّي " يصح أن يتسلَّط على " فِي الْمِحْرَابِ " وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب . والمحراب - هنا - : المسجد . قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ } قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر " إنَّ " والباقون بفتحها ، فالكسر عند الكوفيين ؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ ، فيُكْسر معه ، وعند البصريين ، على إضْمار القول - أي : فنادته ، فقالت . والفتح والحذف - على حذف حرف الجر ، تقديره : فنادته بأن الله ، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها . وفي قراءة عبد الله : " فنادته الملائكة يا زكريا " فقوله : " يا زكريا " هو مفعول النداء ، وعلى هذه القراءة يتعين كسر " إن " ولا يجوز فتحُها ؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه ، وهما الضمير وما نُودي به زكريا . قوله : { يُبَشِّرُكَ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - في موضعين - وفي سورة الإسراء : { وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 9 ] وفي سورة الكهف : { وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } - بضم الياء ، وفتح الباء ، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه ، يُبَشِّرُه . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى ، وهو قوله : { ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ الشورى : 23 ] . وقرأ الجميع - دون حمزة - كذلك في سورة براءة : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } [ التوبة : 21 ] وفي الحجر - في قوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] - ولا خلاف في الثاني - وهو قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] - أنه بالتثقيل . وكذلك قرأ الجميع - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين - { إِنَّا نُبَشِّرُكَ } [ مريم : 7 ] وقوله : { لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ } [ مريم : 97 ] . وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة ، وسكون الياء وضم الشين . وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل ، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ : فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ . وحمزة خفّف الجميع إلا قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] . وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة . والكسائي خفَّف خمساً منها ، وثقَّل أربعاً ، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى . وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ : بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ - بالتخفيف - . وعليه ما أنشده الفراء قوله : [ الطويل ] @ 1431 - بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا @@ الثالثة : أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم " يُبَشِّرُكَ " - بضم الياء . ومن التبشير قول الآخر : [ الكامل ] @ 1432 - يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ ؟ @@ وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو " فَبَشِّرْهُمْ " . { وَأَبْشِرُوا } [ فصلت : 30 ] { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] . قالوا : { بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } [ الحجر : 55 ] . فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دونَ الماضي . وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة . قوله : { بِيَحْيَـىٰ } متعلق بـ { يُبَشِّرُكَ } ولا بد من حذف مضاف ، أي : بولادة يحيى ؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة ، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياقُ ، تقديره : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، دلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلامِ . و " يحيى " فيه قولان : أحدهما - وهو المشهور عند المفسِّرين - : أنه منقول من الفعل المضارع وقد سَمُّوا بالأفعالِ كثيراً ، نحو يعيش ويعمر ويموت . قال قتادة : " سُمِّي { يَحْيَـىٰ } لأن الله أحياه بالإيمان " . وقال الزَّجَّاج : " حيي بالعلم " وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميَّة ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب . والثاني : أنه أعجميّ لا اشتقاق له - وهو الظاهر - فامتناعه للعلمية والعُجْمَة الشخصية . وعلى كلا القولين يُجْمَع على " يَحْيَوْنَ " بحَذْف الألف وبقاء الفتحةِ تدلّ عليها . وقال الكوفيون : إن كان عربيَّا منقولاً من الفعل فالأمر كذلك ، وإن كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو ، وكسر ما قبل الياء ؛ إجراءً له مُجْرَى المنقوص ، نحو جاء القاضُون ، ورأيت القاضِين ، نقل هذا أبو حيّان عنهم . ونقل ابنُ مالك عنهم أن الاسم إن كانت ألفه زائدةٌ ضُمَّ ما قبلَ الواو ، وكُسِرَ ما قبلَ الياءِ ، نحو : جاء حبلون ورأيت حُبلِين ، وإن كانت أصليةً نحو دُجَوْن وجب فتح ما قبل الحرفين . قالوا : فإن كان أعجمياً جاز الوجهان ؛ لاحتمال أن تكون ألفهُ أصليةً أو زائدة ؛ إذْ لا يُعْرَف له اشتقاق . ويصغر يحيى على " يُحَيَّى " وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك : [ مجزوء الرمل ] @ 1433 - أيُّها الْعَالِمُ بِالتَّصْرِ يفِ لا زِلْتَ تُحَيَّا قَالَ قَوْمٌ : إنَّ يَحْيَى إنْ يُصَغَّرْ فَيُحَيَّا وَأبَى قَوْمٌ فَقَالُوا لَيْسَ هَذَا الرَّأيُ حَيَّا إنَّمَا كَانَ صَوَاباً لَوْ أجَابُوا بِيُحَيَّا كَيْفَ قَدْ رَدُّوا يُحَيَّا وَالَّذِي اخْتَارُوا يُحَيَّا ؟ أتُرَاهُمْ فِي ضَلالٍ أمْ تَرَى وَجْهاً يُحَيَّا ؟ @@ وهذا جارٍ مَجْرَى الألْغاز في تصغير هذه اللفظة ، وذلك يختلف بالتصريف والعمل ، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصَغَّر ثلاثُ ياءاتٍ جرى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبةِ إلى الحَذْف والإثبات ، وأصل المسألة تصغير " أحْوَى " ويُنْسَب إلى " يَحْيَى " " يَحْيَى " - بحذف الألف ، تشبيهاً لها بالزائد - نحو حُبْلِيّ - في حُبْلَى - و " يَحْيَوِيّ " - بالقلب ؛ لأنها أصل كألف مَلْهَوِيّ ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً - و " يَحْيَاوِيّ " - بزيادة ألف قبل قَلْبِ ألفِهِ واواً . وقرأ حمزة والكسائي " يَحْيَى " بالإمالة ؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم . قال ابن عباس : " سُمِّيَ " يَحْيَى ؛ لأن اللهَ أحيا به عَقْرَ أمِّه . وقال قتادة : لأن الله أحيا قلبه بالإيمان . وقيل : لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يَعْصِ اللهَ ، ولم يَهِمّ بمعصيةٍ . قال القرطبي : " كان اسمه - في الكتاب الأول - حَيَا ، وكان اسم سارة - زوجة إبراهيم - يسارة ، وتفسيره بالعربية : لا تلد ، فلما بُشِّرَت بإسحاق قيل لها : سارة ، سمَّاها بذلك جبريل - عليه السلام - فقالت : يا إبراهيم ، لم نقص من اسمي حرف ؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل - عليه السلام - فقال : إن ذلك حرف زيد في اسمِ ابنٍ لها من أفضل الأنبياء ، اسمه حيا ، فسُمِّي بيَحْيَى " . قوله : { مُصَدِّقًا } حال من " يَحْيَى " وهذه حال مقدرة . وقال ابن عطية : " هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام " . و " بِكلِمةٍ " متعلق بـ " مُصَدِّقاً " . وقرأ أبو السّمال " بِكِلْمَةٍ " - بكسر الكاف وسكون اللام - وهي لغة صحيحة ؛ وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها ، فالتقى بذلك كسرتان ، فحذف الثانيةَ ؛ لأجل الاستثقال . فصل قيل : المراد بها الجمع ؛ إذ المقصود التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة فعبَّر عن الجمع ببعضه ، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ " حيثُ قال : [ الطويل ] @ 1434 - ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِل … @@ وذكر جابر - رضي الله عنه - الحُوَيْدِرَة فقال : لَعَنَ اللهُ كلمته - يعني قصيدته . وقال الجمهور : الكلمة : هي عيسى عليه السلام . قال السديُّ : لقيت أمُّ عيسى ، أمَّ يَحيى - وهذه حامل بعيسى ، وتلك حامل بيحيى - فقالت أم يحيى : أشعَرْتِ أني حُبْلَى ؟ : فقالت : مريم : وأنا - أيضاً - حُبْلَى ، قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك قوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } . قال القرطبيُّ : " رُوِيَ أنها أحسَّت بجنينها يَخِرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم " . وقال ابن عبّاسٍ : إن يحيى كان أكبر سِنًّا من عيسى بستةِ أشهر . وقيل : بثلاث سنين ، وكان يحيى أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروحه . وسمي عيسى عليه السلام كلمة . قيل : لأنه خُلِقَ بكلمة من الله { كُنْ فَيَكُونُ } من غير واسطة أب فسمي لهذا كلمة - كما يسمى المخلوق خَلْقاً ، والمقدور قُدْرة ، والمرجُوُّ رجاءً ، والمشتَهَى شهوةً - وهو باب مشهور في اللغة . وقيل : هو بشارة اللهِ مريم بعيسى - بكلامه على لسان جبريل عليه السَّلام . وقيل : لأنه تكلم في الطفوليَّة ، وأتاه الكتاب في زَمَنِ الطفوليَّةِ ، فلهذا كان بالغاً مبلغاً عظيماً ، فسُمِّيَ كلمة كما يقال : فلان جود وإقبال - إذا كان كاملاً فيهما . وقيل : لما وردت البشارةُ به في كتب الأنبياء قبله ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة - كما إذا أخبر عن حدوث أمر ، فإذا حَدَث ذلك الأمر ، قال : قد جاء قولي ، وجاء كلامي - أي : ما كنت أقول ، وأتكلم به - ونظيره قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [ غافر : 6 ] وقوله : { وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] . وقيل : لأن الإنسان قد يُسَمَّى بـ " فضل الله " و " لطف الله " وكذلك عيسى كان اسمه كلمة الله وروح الله . واعلم أن كلمة الله - تعالى - كلامه ، وكلامه - على قول أهل السنة - صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاته وفي قول المعتزلة : صفة يخلقها الله في جسم مخصوص ، دالة بالوضع على معاني مخصوصة . وضروريّ حاصل بأن الصفة القديمة ، أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : إنها ذات عيسى ، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول ، لم يَبْقَ إلا التأويل . قوله : { مِّنَ ٱللَّهِ } في محل جر ؛ صفة لـ " كَلِمَةٍ " فيتعلق بمحذوف ، أي : بكلمة كائنة من الله { وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً } أحوال أيضاً - كمصَدِّقاً . والسيد : فَيْعِل ، والأصل سَيْود ، ففُعِلَ به ما فعل بـ " ميت " ، كما تقدم ، واشتقاقه من سَادَ ، يَسُودُ ، سِيَادَةً ، وسُؤدُداً - أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد . ومنه قوله : [ الرجز ] @ 1435 - نَفْسٌ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ والإقْدَامَا وَصَيَّرَتْهُ بطلاً هُمَامَا @@ وجمعه على " فَعَلَة " شاذ قياساً ، فصيح استعمالاً ؛ قال تعالى : { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا } [ الأحزاب : 67 ] . وقال بعضهم : سُمي سيِّداً ؛ لأنه يسود سَوَاد الناس أي : مُعْظَمهم وجُلَّهم . والأصل سَوَدَة ، و " فَعَلَة " لِـ " فاعِل " نحو كافِر وكفرة ، وفاجِر وفَجَرَة ، وبارّ وبررة . وقال ابن عباس : السَّيِّد : الحليم . قال الجبائي : إنه كان سيداً للمؤمنين ، ورئيساً لهم في الدين - أعني : في العلم والحلم والعبادة و الورع . قال مجاهدٌ : السَّيِّد : الكريم على الله تعالى . وقال ابن المُسَيِّبِ : السيِّد : الفقيه العالم . وقال عكرمة : السيد : الذي لا يغلبه الغضبُ . وقيل : هو الرئيس الذي يتبع ، ويُنتَهَى إلى قولهِ . وقال المفضل : السيد في الدين . وقال الضحاك : الحسن الخلق . وقال سعيد بن جبير : هو الذي يُطيع ربَّه . ويقول عن الضَّحَّاكِ : السيد : التقِيّ . وقال سفيان : الذي لا يحسد . وقيل : هو الذي يفوق قومَه في جميع خصال الخيرِ . وقيل : هو القانع بما قسم الله له . وقيل : هو السَّخِيّ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " " مَنْ سَيدُكُمْ يَا بَنِي سَلمةَ " ؟ قالوا : جَد بن قَيْس على بُخْلِه ، فقال : " وأي دواء أدوى من البخل ، لكن سَيِّدَكم عمرو بن الجموح " " وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيداً كما تجوز تسميته عزيزاً وكريماً . وقال صلى الله عليه وسلم لبني قريظة : " قوموا إلى سيِّدكم " . وقال - في الحسن - : " إن ابني هذا سَيِّدٌ ، فلعلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْن عَظِيْمَتين من المسلمين " . قال الكسائي : السيّد من المَعْز : [ الْمُسِّن ] . وفي الحديث : " الثَّنِيُّ من الضَّأن خير من السَّيِّد مِن الْمَعْزِ الْمُسِنّ " . وقال الشاعر : [ الطويل ] @ 1436 - سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَت لَهُ لِيَذْبَحَهَا للِضَّيْفِ أمْ شَاةُ سَيِّد @@ والحصور : فعول للمبالغة ، مُحَوَّل من حاصر ، كضروب . وفي قوله : [ الطويل ] @ 1437 - ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا إذَا عَدِمُوا زاداً فَإنَّكَ حَاصِرُ @@ وقيل : بل هو فَعُول بمعنى : مفعول ، أي : محصور ، ومثله ركوب بمعنى : مركوب ، وحلوب بمعنى : محلوب . والحصور : الذي يكتم سره . قال جرير : [ الكامل ] @ 1438 - وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا @@ وهو البخيل - أيضاً - قال : [ البسيط ] @ 1439 - … لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئَّارِ @@ وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع ؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء - إما لطبعه على ذلك ، وإما لمغالبته نفسه - قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن : الحصور : الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ ، وهو - على هذا - بمعنى فاعل ، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات . قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء له ، فيكون بمعنى " مفعول " كأنه ممنوع من النساء . واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد - مثل الشروب والظلوم والغشوم - والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائماً ، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة . والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضاً فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء - والصفة التي ذكروها صفة نقص ، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ ، لا يجوز ، ولا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً . فصل احتجَّ بعضُهم - بهذه الآية - على أن ترك النكاح أفضل ؛ لأنه - تعالى - مدحه بترك النكاح ، فيكون تركه أفضل في تلك الشريعة ، فيجب أن يكون الأمر كذلك في شريعتنا ؛ للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] . وأمَّا المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان ، والنسخ على خلاف الأصل . وأجيبوا بأن هذا منسوخ بقوله - " تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا " وقوله : " لا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإسلامِ " . وقوله عليه الصلاة والسلام : " النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأنبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ، فَمَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " . وقولهم : النسخ على خلاف الأصل . قلنا : مسلم إذا لم يُعْلَم الناسخُ ، وقد علمناه . قوله : { وَنَبِيًّا } اعلم أن السيادةَ إشارة إلى أمرين : أحدهما : القدرة على ضبط مصالح الخَلْق فيما يرجع إلى تعليمِ الدين . والثاني : ضبط مصالحهم في تأديبهم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . والحصور إشارة إلى الزهد التام ، فلما اجتمعا حصلت النبوة ؛ لأنه ليس بعدهما إلا النبوة . قوله : { مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } صفة لقوله : { وَنَبِيّاً } فهو في محل نصب ، وفي معناه ثلاثة أوجهٍ : الأول : معناه من أولاد الصالحين . الثاني : أنه خَيِّر - كما يقال للرجل الخَيِّر : إنه من الصالحين . الثالث : أن صلاحه كان أتمَّ من صلاح سائر الأنبياء ؛ لقوله - عليه السلام - : " مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ عَصَى وَهَمّ بِمَعْصِيَةٍ إلاَّ يحيَى بن زكريا ، فإنه لم يَعْصِ ولم يَهِمَّ بمعصيةٍ " . فإن قيل : إن كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح ، فما الفائدة في ذكر منصب الصلاح بعد ذكر النبوة ؟ فالجواب : أن سليمان - بعد حصول النبوة - قال : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } [ النمل : 19 ] . وتحقيقه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، فذلك القدر - بالنسبة إليهم - يجري مجرى حفظ الواجبات - بالنسبة إلينا - وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتُهم في الزيادة على ذلك القدر ، فكلما كان أكثر نصيباً كان أعلى قَدْراً . والله أعلم . قوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } يجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها - حينئذ - وجهان : أحدهما : " أَنَّىٰ " لأنها بمعنى " كيف " أو بمعنى " مِنْ أيْنَ " ؟ ، و " لِي " - على هذا - تبيين . والثاني : أن الخبر هو الجار والمجرور ، و " كيف " منصوب على الظرف . ويجوز أن تكون التامة ، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين بـ " يَكُونُ " ، أي : كيف يحدث لي غلام ؟ ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " غُلاَمٌ " ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له . قوله : { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } جملة حالية . قال أهل المعاني : " كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ " . فلهذا جاز أن نقول : بلغتُ الكِبَرَ ، وجاز أن تقول : بلغَنِي الكِبَرُ ، يدل عليه قولُ العربِ : تلقيت الحائط وتلقاني الحائط . وقيل : لأن الحوادث تطلب الإنسان . وقيل : هو من المقلوب ، كقوله : [ البسيط ] @ 1440 - مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ @@ فإن قيل : أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد ؟ فالجواب : أنه لا يجوز ، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان ، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه ، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب ، فظهر الفرقُ . فصل قدم في هذه السورة حال نفسه ، وأخَّر حالَ امرأته ، وفي سورة مريم عكس . فقيل : لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب ؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه ، واشتعالَ شيْبه ، وخوفه مواليه ممن ورائه ، وقال : " وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً " فلما أعاد ذِكْرَهما في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر ، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير . فصل الغلام : الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز ؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه ، وأما الكهل ، فباعتبار ما كان عليه . قالت ليلى الأخيليّة : [ الطويل ] @ 1441 - شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا @@ وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً ، قال تعالى : { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النجم : 32 ] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم ، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا ، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين ، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين ، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة ، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً ، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 1442 - وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ @@ ثم حَلْحَلاً إلى أربعين ، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل : إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله : { فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } [ آل عمران : 46 ] ثم هو راغم بعد ذلك . واشتقاق " الغلام " من الغِلْمَة والاغتلام ، وهو طلب النكاح ، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه . ويقال : اغتلم الفَحْلُ : أي : اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح ، واغتلم البحر ، أي : هاج وتلاطمت أمواجه ، مستعار منه . وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ ، وفي الكثرة : غِلْمان ، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة ، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع ؟ قال الفراء : " يقال : غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية ، قال : والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون : عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل - " . قال القرطبي : والغَيْلم : ذكر السلحفاة ، والغَيْلم : موضع . وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي : طعن في السِّنِّ ، قال : [ الطويل ] @ 1443 - صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ @@ فصل قال الكلبيُّ : كان زكريا - يوم بُشِّر بالولد - ابن ثنتين وتسعين سنة . وقيل : ابن ثنتين وسبعين سنة . وروى الضحاك - عن ابن عباسٍ - قال : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنةً . فإن قيل : قوله : { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ } خطاب مع الله ، أو مع الملائكة ، وليس جائزاً أن يكون مع الله تعالى ؛ لأن الآية المقدمةَ دلَّت على أن الذين نادَوْه هم الملائكةُ ، وهذا الكلام ، لا بُدَّ أن يكون خطاباً مع ذلك المنادَى لا مع غيره ، وليس جائزاً أن يكون خطاباً مع الملك ؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك : يا رب ، فذكر المفسّرون فيه جوابَيْنِ : أحدهما : أن الملائكة لما نادَوه وبَشَّروه تعجَّب زكريا ، ورجع في إزالة ذلك التعجُّب إلى الله - تعالى - . الثاني : أنه خطاب مع الملائكة ، و الربُّ إشارة إلى المربِّي ، ويجوز وَصْف المخلوقِ به ، فإنه يقال : فلان يربيني ويُحْسِن إليَّ . فإن قيل : لم قال زكريا - بعدما وعده الله وبشره بالولد - : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أكان ذلك عنده محال أو شَكًّا في وعد الله وقدرته ؟ فالجواب : من وجوهٍ : أحدها : إن قلنا : معناه من أين ؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نُطْفَةَ إلا مِن خَلْق ، ولا خَلْقَ إلا من نطفة ، لزم التسلسل ، ولزم حدوث الحوادث في الأزل - وهو محال - فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله - تعالى - لا من نطفة ، أو من نطفة خلقها اللهُ - تعالى - لاَ مِنْ إنسان . [ ثانيها ] : يحتمل أن زكريَّا طلب ذلك من الله - تعالى - فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لَمَا طلبه من الله - تعالى - . وإذا كان معنى " أنَّى " : كيف ، فحدوث الولد يحتمل وجهين : أحدهما : أي منع شيخوخته ، وشيخوخة امرأته ، أو يجعله وامرأته شابين ، أو يرزقه الله ولداً من امرأة أخْرَى ، فقوله : { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } معناه : كيف تعطيني الولد ؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول ، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهماً لا شاكاً . قاله الحسنُ والأصمّ . وثانيهما : أن من كان آيساً من الشيء مستبعِداً لحصوله ووقوعه ، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود ، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرحِ ، ويقول : كيف حصل هذا ؟ ومن أين وقع ؟ كمن يرى إنساناً وَهَبَ أموالاً عظيمة ، يقول : كيف وَهَبَ هذه الأموالَ ؟ ومن أين سَمَحَتْ نفسك بِهبَتِهَا . كذا هنا . الثالث : أن الملائكة لما بشَّروه بيحيى ، لم يعلم أنه يُرزَق الولد من جهة أنثى ، أو من صُلْبه ، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال . الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياقِ إلى شيء يطلب من السيد ، ثم إن السيد يَعِدُه بأنه سيعطيه ، فعند ذلك يلتذُّ السائلُ بسماعِ ذلك ، فربما أعاد السؤال ؛ ليُعِيدَ ذلك الجواب ، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى ، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام . الخامس : نقل عن سفيان بن عيينة قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارةِ ، فلما سمع البشارة - زمان الشيخوخة - استبعد ذلك - على مجرى العادة لا شكًّا في قدرة الله - تعالى - . السادس : قال عكرمة والسُّدِّيُّ : إنَّ زكريا - عليه السلام - جاءه الشيطان عند سماع البشارة ، فقال يا زكريا إن هذا الصوت من الشيطان - وقد سخر منك - ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور ، فقال زكريا ذلك ؛ دَفْعاً للوسوسة ، ومقصوده من هذا الكلام أن يُرِيَه الله آيةً تدل على أن ذلك الكلامَ من الوَحْيِ والملائكة لا من إلقاء الشيطانِ . قال القرطبي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطينِ عند الأنبياء عليهم السلام ؛ إذْ لَوْ جوَّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع . ويمكن أن يُجاب بأنه لمَّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة ، ولا مَدْخَل للشيطان فيه ، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد ، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات . فلا جرم [ بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ] ، فرجع إلى الله - تعالى - في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال . قوله : { وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } جملة حالية ، إما من الياء في " لِي " فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في " بَلَغَنِي " ، والعاقر : مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة ، مشتقاً من العَقْر ، وهو القتل ، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده ، والفعل - بهذا المعنى - لازم ، وأما عَقَرْتُ - بمعنى " نَحَرْت " فمُتَعَدٍّ . قال تعالى : { فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ } [ الأعراف : 77 ] . وقال الشاعر : [ الطويل ] @ 1444 - … عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ @@ وقيل : عاقر - على النسب - أي : ذات عقر ، وهي بمعنى مفعول ، أي : معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء ، ومنه عقر الدار ، وعقر الحوض ، وفي الحديث : " ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا " وعقرته ، أي : أصبت عقره ، أي : أصله - نحو رأسته ، أي أصبت رأسه ، والعقر - أيضاً - آخر الولد ، وكذلك بيضة العَقر ، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته ، أي : صوته ، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته ، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته . وقال : وأنشد الفراء : [ الرجز ] @ 1445 - أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا @@ وقال بعضهم : يقال : عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال : عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته ، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة . قال الزّجّاج : عاقر بمعنى ذات عُقر قال : لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة ، وكريمة ، وإنما عاقر على ذات عُقْر ، قلت : وهذا نص في أن الفعل المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف ؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها ، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب ، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل : [ الطويل ] @ 1446 - لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ @@ قال القرطبيُّ : " والعاقر : العظيم من الرمل ، لا يُنْبِت شيئاً ، والعُقْر - أيضاً - مهر المرأة إذا وطئت بِشُبْهَةٍ وبَيْضَةُ الْعُقْر : زعموا أنها بيضة الديك ، لأنه يبيض في عمره بيضةً واحدةً إلى الطول ، وعقر النار - أيضاً - وسطها ومعظمها وعقر الحوض : مُؤخِّره - حيث تقف الإبل إذا وردت " . قوله : { قَالَ كَذَلِكَ } هذا القائل هو الرب المذكور في قوله : { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون هو الله تعالى , وأن يكون هو جبريل - عليه السلام . قوله : { كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } في الكاف وجهان : أحدهما : أنها في محل نصب ، وفيه التخريجان المشهوران : الأول - وعليه أكثر المعربين - : أنها نعت لمصدر محذوف ، وتقديره يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة ، مثل ذاك الفعل ، وهو خلق الولد بين شيخ فَانٍ وعجوز عاقرٍ . والثاني أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدرِ ، أي : يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك وهو مذهب سيبويه ، وقد تقدم إيضاحه . الثاني - من وجهي الكاف - : أنها في محل رفع خبر مقدَّم ، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر ، فقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة لله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، وقدره ابن عطية : " كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله " . وقدّره أبو حيّان ، فقال : " وذلك على حذف مضاف ، أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، فيكون { يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة " . فالكلام - على الأول - جملة واحدة ، وعلى الثاني جملتان . وقال ابن عطية : " ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رَبِّ على أيّ وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا ؟ فقال لهما : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام ، على هذا التأويل - في قوله " كذلك " ، وقوله : { ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } جملة مبيِّنة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب " . وعلى هذا الذي ذكره يكون " كَذَلِكَ " متعلقاً بمحذوف ، و " اللهُ يَفْعَلُ " جملة منعقدة مع مبتدأ وخبر . قوله : { ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً } يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير ، فيتعدى لاثنين : أولهما " آية " الثاني : الجار قبله ، و التقديم - هنا - واجب ؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة - وهي آية - أي : لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار ، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله ، والتقدير : صير آية من الآيات لي ، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد - أي : أوجد لي آية - فيتعدى لواحد ، وفي " لِي " - على هذا - وجهان : أحدهما : أن يتعلق بالجَعْل . والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " آيةً " ؛ لأنه لو تأخَّر لجاز أن يقع صفة لها . ويجوز أن يكون للبيان . وحرك الياء - بالفتح - نافع وأبو عمرو ، وسكنها الباقون . فصل المراد بالآية : العلامة ، أي : علامة أعلم بها وقتَ حَمْل امرأتي ، فأزيد في العبادة شكراً لذلك ، وذكروا في الآية وجوهاً : أحدها : أنه - تعالى - حبس لسانه ثلاثة أيامٍ ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً ؛ وهو قول أكثر المفسّرين ، وفيه فائدتان : إحداهما : أن يكون ذلك دليلاً على علوق الولد . والثانية : أنه تعالى - حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقْدَره على الذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، فيكون في تلك المدةِ مشتغِلاً بذكر الله - تعالى - وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة . واعلم أن اشتمالَ تلك الْوَاقِعَةِ على المعجزة من وجوهٍ : أحدها : أن قدرته على التكلُّم بالتسبيح والذكر ، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا من أعظم المعجزات . وثانيها : أن حصول تلك المعجزة في تلك الأيامِ المقدرة - مع حصول البنية واعتدال المزاج - معجزة ظاهرة . ثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة ، فقد حصل الولد ، ثُم إنَّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر . الثاني : قال أبو مسلم : إنّ زكريا لما طلب من الله آيةً تدل على علوق الولد ، قال تعالى : آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ بلياليها مع الخلق ، وأن تكون مشتغلاً بالذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، معرضاً عن الخلق والدنيا ؛ شكراً لله - تعالى - على إعطاء مثل هذه الموهبة ، فإن كانت لك حاجة دُلَّ عليها بالرمز ، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب . الثالث : قال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام ؛ عقوبة لسؤاله الآية - بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة - فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام . وقوله : { أَلاَّ تُكَلِّمَ } " أن " وما في حَيِّزها في محل رفع ؛ خبراً لقوله : { آيَتُكَ } أي آيتك عدم كلامك الناس . والجمهور على نصب " تُكَلِّمَ " بأن المصدرية . وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وفيه وجهان : أحدهما : أن تكون " أن " مخففة من الثقيلة ، واسمها - حينئذ - ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيَّة بعدها في محل رفع ، خبراً لِـ " أن " ومثله : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] وقوله : { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] ووقع الفاصل بين " أن " والفعل الواقع خبرها حرف نفي ، ولكن يُضعف كونَها مخفَّفةً عدمُ وقوعها بعد فعل يقين . والثاني : أن تكون " أن " الناصبة حُمِلَتْ على " ما " أختها ، ومثله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] و " أن " وما في حيزها - أيضاً - في محل رفع ، خبراً لـ " آيتك " . قوله : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف ، خلافاً للكوفيين ، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به . وقيل : وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها ، فحذف ، كقوله تعالى : { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] ونظائره ؛ يدل على ذلك قوله - في سورة مريم - { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من الآيتين ، فلا حاجة إلى ادعاء حذف ؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه - يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرى : ثلاث ليال وأيامها . قوله : { إلاَّ رَمْزًا } فيه وجهان : أحدهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام ، إذ الرمز الإشارة بعَيْن ، أو حاجب أو نحوهما ، ولم يذكر أبو البقاء غيره . وبه بدأ ابن عطية مختاراً له ، فإنه قال : " والمراد بالكلام - في الآية - إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيْمَان ونحوها ؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً " . والوجه الثاني : أنه متصل ؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ : الرمز والإشارة من جملتها . أنشدوا : [ الطويل ] @ 1447 - إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 1448 - أرَادَتْ كَلاَماً فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ @@ وهو مستعمل ، قال حبيب : [ البسيط ] @ 1449 - كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ @@ وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختاراً له ، قال : " لما أدى مؤدَّى الكلام ، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلاماً ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً " . والرمز : الإشارة والإيماء بعين ، أو حاجب أو يَدٍ - ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة : الرَّمَّازة ، والرمَّازة ، وفي الحديث : " نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ " يقال منه : رمزت ترمُز وترمِز - بضم العين وكسرها في المضارع . وأصل الرمز : التحرك ، يقال : رمز وارْتَمز أي : تحرَّك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، لتحركه واضطرابه . وقال الراغب : " الرمز : الإشارة بالشفة والصوت الخفي ، والغمز بالحاجب . وما ارمَازَّ : أي ما تكلم رمزاً ، وكتيبه رمَّازة : أي : لم يُسْمَع منها إلا رَمزاً ؛ لكثرتها " . ويؤيد كونه الصوت الخفي - على ما قاله الراغب - أنه كان ممنوعاً من رفع الصوت . قال الفراء : " قد يكون الرمز باللسان من غير أن يتبيَّن ، وهو الصوت الخفي ، شبه الهَمْس " . وقال عطاء : أراد صوم ثلاثة أيامٍ ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً . وقرأ العامة : " رمزاً " - بفتح الراء وسكون الميم - وقرأ يحيى بن وثَّابِ وعلقمة بن قيس " رُمُزاً " بضمها - وفيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر على " فُعْل " - بتسكين العين - في الأصل ، ثم ضُمَّتِ العين ؛ إتباعاً ، كقولهم اليُسُر والعُسُر - في اليُسْر والعُسْر - وقد تقدم كلام أهل التصريف فيه . والثاني : أنه جمع رموز - كرُسُل في جمع رسول - ولم يذكر الزمخشريُّ غيره . وقال أبو البقاء : " وقرئ بضمها - أي : الراء - وهو جمع رُمُزَة - بضمتين - وأقر ذلك في الجمع . ويجوز أن يكون مسَكَّنَ الميم - في الأصل - وإنما أتبع الضمُّ الضَّمَّ . ويجوز أن يكون مصدراً غير جمع ، وضُمَّ ، إتباعاً ، كاليُسُر واليُسْر " . قال شهاب الدين : قوله : " جمع رُمُزة " إلى قوله : في الأصل ؛ كلام لا يفهم منه معنى صحيح . وقرأ الأعمش : " رَمَزاً " بفتحهما . وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز - كخادم وخَدَم - وانتصابه على هذا - على الحال من الفاعل - وهو ضمير زكريا - والمفعول معاً - وهو الناس - كأنه قال : إلا مترامزين ، كقوله : [ الوافر ] @ 1450 - مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا @@ وكقوله : [ الكامل ] @ 1451 - فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ أَيِّي وَأيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ ؟ @@ قوله : " كَثِيراً " نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير ذلك المصدر ، أو نعت لزمان محذوف تقديره : ذِكْراً كثيراً ، أو زماناً كثيراً ، والباء في قوله : " بِالْعَشِيِّ " بمعنى " فِي " أي : في العشي والإبكار . والعشي : يقال من وقت زوال الشمس إلى مَغيبها ، كذا قال الزمخشريُّ . وقال الراغب : " العشيُّ من زوال الشمسِ إلى الصباحِ " . والأول هو المعروف . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 1452 - فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ وَلاَ الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ @@ وقال الواحديُّ : " العَشِيّ : جمع عشية ، وهي آخر النهارِ " . والعامة قرءوا : " والإبْكَارِ " بكسر الهمزة ، وهو مصدر أبكر يُبْكِر إبكاراً - أي : خرج بُكْرَةً ، ومثله : بَكَرَ - بالتخفيف - وابتكر . قال عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ] @ 1453 - أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنْتَ غَادٍ فَمُبْكر … @@ وقال : [ الخفيف ] @ 1454 - أيُّهَا الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَاراً … @@ وقال أيضاً : [ الطويل ] @ 1455 - بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ @@ وقرئ شاذاً " والأبْكَار " - بفتح الهمزة - وهو جمع بَكَرَ - بفتح الفاء والعين - ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرُّف ، فلا يُستعمَل غيرَ ظرف ، تقول : أتيتك يوم الجمعة بَكَر . وسبب مَنْع صَرْفه التعريفُ والعدل عن " أل " . فلو أرِيدَ به وقت مُبْهَم انصرف نحو أتيتك بكراً من الأبكار ونظيره سحر وأسْحار - في جميع ما تقدم . وهذه القراءة تناسب قوله : { بِٱلْعَشِيِّ } عند من يجعلها جمع عَشِيَّة ؛ ليتقابل الجَمْعَان . ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى . وقال الراغب : أصل الكلمة هي البكرة - أول النهار - فاشتقَّ من لفظه لفظُ الفعل ، فقيل : بكر فلان بُكُوراً - إذا خرج بُكْرَةً . والبَكور : المبالغ في البكور ، وبَكَّر في حاجته ، وابتكر وبَاكَر . [ وتصور فيها ] معنى التعجيل ؛ لتقدُّمِها على سائر أوقاتِ النهار فقيل لكل مُتَعَجِّل : بَكَّر . وظاهر هذه العبارة أن البَكَر مختص بطلوع الشمس إلى الضُّحَى ، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصلِ . وقد صرح الواحديُّ بذلك ، فقال : " هذا معنى الإبكارِ ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجر إلى الضُّحَى إبكاراً كما يسمى إصْبَاحاً " . فصل قيل : المراد بالذكر الكثير : الذكر بالقلب ، وقوله : { وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } محمول على الذكر باللسان . وقيل : المراد بالتسبيح : الصلاة ؛ لأنها تسمى تسبيحاً ، قال تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] . ومنه سمي صلاة الظهر والعصر : صلاتي العشيّ .