Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 52-58)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الإحساس : الإدراك ببعص الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال : أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به ، ويقال : حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه - . قال الشاعر : [ الوافر ] @ 1486 - سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ @@ قال سيبويه : ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت ، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون : أحسست وأحسَسْنَ ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت : لم أحس ، لم تحذف . وقيل : الإحساس : الوجود والرؤية ، يقال : هل أحْسَسْتَ صاحبَك - أي : وجدته ، أو رأيته ؟ قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ " الحِسّ " في القرآن على أربعة أضربٍ : الأول : بمعنى الرؤية ، قال تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ } [ آل عمران : 52 ] وقوله تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] أي رأوه . وقوله { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [ مريم : 98 ] أي : هل تَرَى منهم ؟ الثاني : بمعنى القتل ، قال تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [ آل عمران : 152 ] أي : تقتلونهم . الثالث : بمعنى البحث ، قال تعالى : { فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } [ يوسف : 87 ] . الرابع : بمعنى الصوت ، قال تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] أي : صَوْتَهَا . قوله : { مِّنْهُمْ } فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلق بـ " أحَسَّ " و " مِنْ " لابتداء الغاية أي : ابتداء الإحساس من جهتهم . الثاني : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه حال من الكفر ، أي : أحس الكفر حال كونه صادراً منهم . فصل في هذا الإحساس وجهان : أحدهما : أنهم تكلَّمُوا كلمةَ الكُفْرِ فأحَسُّوا ذلك بإذنه . والثاني : أن يُحْمَلَ على التأويل ، وهو أنه عرف منهم إصرارَهم على الكفر وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم عِلْماً لا شُبْهَةَ فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس - لا جرم - عبر عنه بالإحساس ، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وُجُوهٍ : أحدها : قال السُّدِّيُّ : إنه - تعالى - لما بعثه إلى بني إسرائيل ، ودعاهم إلى دينِ اللهِ تعالى فتمردوا وعصوا ، فخافهم واختفى عنهم . وقيل : نفوه وأخرجوه ، فخرج هو وأمُّه يَسِيحَانِ في الأرض ، فَنَزَلا في قرية على رجل ، فأضافهم ، وأحسن إليهم ، وكان بتلك المدينة ملك جَبَّار ، فجاء ذلك الرجل يوماً حَزِيناً ، مُهْتَمًّا ، ومريم عند امرأته ، فقالت مريم ما شأن زَوْجك ؟ أراه كئيباً ؟ قالت : لا تسأليني . فقالت : أخبريني ، لعل الله يفرِّج كرْبَتَه ، قالت : إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده ، ويسقيهم الخمر ، فإن لم يفعل ، عاقبه ، واليوم نوبتنا ، وليس لذلك عندنا سَعَةٌ ، قالت : فقولي له : لا يهتم ؛ فإني آمُرُ ابني فيدعو له ، فيُكفى ذلك . فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك ، فقال : يا أمَّه ، إن فعلتُ ذلك كان فيه شر فقالت : قد أحْسَنَ إلينا وأكرمنا ، فقال عيسى : قولي له إذا قَرُب مجيء الملك فاملأ قُدُورَك وجوابيَك [ ماءاً ] ثم أعْلِمْني . ففعل ذلك ، فدعا الله تعالى - فتحوَّل ما في القدور طبيخاً ، وما في الجوابي خَمْراً ، لم يرى الناس مثلَه ، فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمرَ ، قال : من اين هذا الخمر ؟ قال : من أرض كذا ، قال الملك : إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هذه من أرض أخرى ، فلما خلط على الملك ، واشتد عليه ، قال : أنا أُخْبِرُك ، عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً وكان للملك ابن يُريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحبَّ الخلق إليه - فقال : إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمراً ليُستجابَنَّ له حتى يُحْييَ ابني ، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقال عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال : ما أبالي ما كان - إذا رأيته - قال عيسى : فإن أحيَيْتُهُ تتركني وأمي نذهب حيث شئنا ؟ قال : نعم . فدعا الله تعالى - فعاش الغلامُ ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا ، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلفَ علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه ؟ فاقتتلوا . وذهب عيسى وأمُّه فمروا بالحواريِّين - وهم يصطادون السمكَ - فقال ما تصنعون ؟ قالوا : نصطاد السمك ، قال : أفلا تمشون حتى تصطادوا الناسَ ؟ قالوا : مَنْ أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله ، { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } ؟ فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهوراً في الخلق ، فقصد اليهودُ قتلَه ، وأظهروا الطعن فيه . وثانيها : أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشَّر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينَهم ، فكانوا هم أوَّل طاعنين فيه ، طالبين قَتْلَهُ ، فلما أظهر الدعوةَ ، اشتد غضبهُم ، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله . وثالثها : أن عيسى - عليه السلام - ظنّ من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به ، وأن دعوته لا تنجع فيهم ، فأحب أن يمتحنهم ، ليتحقق ما ظنه بهم ، فقال لهم : { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } فما أجابه إلا الحواريُّونَ ، فعند ذلك أحس بأن مَنْ سِوَى الحواريين كافرون ، مصرون على إنكار دينه ، وطلب قتله . قوله : { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } ؟ " أنْصَار " جمع نصير نحو شريف وأشراف . وقال قوم : هو جمع نَصْر المراد به المصدر ، ويحتاج إلى حذف مضاف أي مَنْ أصْحَابُ نُصْرَتي ؟ و " إلى " على بابها ، وتتعلق بمحذوف ؛ لأنها حال ، تقديره : من أنصاري مضافين إلى الله ، كذا قدره أبو البقاء . وقال قوم إن " إلَى " بمعنى مع أي : مع الله ، قال الفرَّاء : وهو وجه حسن . وإنما يجوز أن تجعل " إلَى " في موضع " مع " إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه ، كقول العرب : الذود إلى الذَّوْدِ إبل ، أي : مع الذود . بخلاف قولك : قدم فلان ومعه مال كثير ، فإنه لا يصلح أن يقال : وإليه مال ، وكذا قوله : قدم فلان مع أهله ، ولو قلت إلى أهله لم يصح ، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله : { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] . وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى : " مع " فقال : [ وقيل : هي بمعنى : " مع " ] وليس بشيء ؛ فإن " إلَى " لا تصلح أن تكون بمعنى " مع " ولا قياس يُعَضِّدُهُ . وقيل : إن " إلَى " بمعنى اللام من أنصاري لله ؟ كقوله : { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } ، كذا قدره الفارسي . وقيل : ضمَّن أنصاري معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي ، فيكون " إلَى الله " متعلقاً بنفس " أنصاري " . وقيل : متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في " أنْصَارِي " أي : مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه ، قاله الزمخشريُّ . وقيل : التقدير : من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله ، وإلى أن أظهر دينه ، ويكون " إلَى " هاهنا غاية ؛ كأنه أراد : من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمرُ الله ؟ وقيل : المعنى : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه ؟ وفي الحديث : أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى - : " اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ " أي تقرّبنا إليك . وقيل : " إلَى " بمعنى : " في " تقديره : من أنصاري في سبيل الله ؟ قاله الحسنُ . فصل والحواريون ، جمع حواري ، وهو النّاصرُ ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل " مفاعل " ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف : قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ ، فإنهما ممنوعان من الصرف ، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة ، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ . والحواريّ : الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره : حوارياً ؛ تسمية له باسم أولئك ؛ تشبيهاً بهم ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم في الزبير : " ابن عمتي وحواريّ أمتي " وفيه أيضاً - " إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر " ، وقال معمر قال قتادة : إن الحواريّين كلهم من قريش : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عبيدةِ بن الجراح ، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ - رضي الله عنهم أجمعين . وقيل : الحواريّ : هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب ، أي : أخلصت بياضَه بالغَسْل ، ومنه سُمِّي القَصَّار حوارياً ؛ لتنظيفه الثياب ، وفي التفسير : إن أتباع عيسى كانوا قصارين . قال أبو عبيدة : سمي أصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين . وقال الفرزدق : [ البسيط ] @ 1487 - فَقُلْتُ : إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ @@ يعني النساء ؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن : الحواريات ، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ : وحواري الرَّجُلِ : صفوته وخالصته ، ومنه قيل للحضريات : الحواريات ؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن . [ وأنشد لأبي حلزة اليشكري ] : [ الطويل ] @ 1488 - فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ : يبكين غيرَنا ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ @@ ومنه سميت الحور العين ؛ لبياضهن ونظافتهن ، والاشتقاق من الحور ، وهو تبيض الثياب وغيرها : وقال الضّحّاكُ : هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - هواري - بالهاء مكان الحاء - . قال ابن الأنباري : فمن قال بهذا القول قال : هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون . وقيل : " هم المجاهدون " كذا نقله ابنُ الأنباريّ . وأنشد : [ الطويل ] @ 1489 - وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ @@ قال الواحديُّ : والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة . وقال الراغبُ : حوَّرت الشيء : بيَّضته ودوَّرته ، ومنه الخبز الحُوَّارَى ، والحواريُّون : أنصار عيسى . وقيل : اشتقاقه من حار يَحُور - أي : رَجَع . قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الانشقاق : 14 ] . أي لن يرجع ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي : رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه : حار الماء في القدر ، وحار في أمره ، وتحيَّر فيه ، وأصله تَحَيْوَرَ ، فقُلِبَت الواوُ ياءً ، فوزنه تَفَيْعَل ، لا تفعَّل ؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل : تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة : مِحْوَر ؛ لتردُّدِهِ ، ومَحَارة الأذُنِ ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء ؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة ، والقوم في حوارى أي : في تَرَدُّد إلى نقصان ، ومنه : " نعوذ بالله من الحور بعد الكور " وفيه تفسيران : أحدهما : نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني : نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها . ويقال : حَارَ بعدما كان . والمحاورة : المرادَّة في [ الكلام ] ، وكذلك التحاورُ ، والحوار ، ومنه : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [ الكهف : 34 ] و { وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [ المجادلة : 1 ] ومنه أيضاً : كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي : بعَقْل يرجع إليه . والحور : ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد ، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ ، يقال - منه - : أحورت عينه ، والمذكر أحور ، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء - . وقيل : سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك . وقيل : اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه ، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك ، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض ، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام ، وما يشوب الدين . قاله ابن المبارك : سُمُّوا بذلك ؛ لما عليهم من أثر العبادة ونورها . وقال رَوْحُ بن قَاسِم : سألت قتادةَ عن الحواريِّين ، فقال : هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ ، وعنه أنه قال : الحواريون هم الوزراء . والياء في " حواريّ وحواليّ " ليست للنسب ، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ ، وقرأ العامة " الْحَوَارِيُّونَ " بتشديد الياء في جميع القرآن ، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن ، قالوا : لأن التشديد ثقيل . وكان قياس هذه القراءة أن يُقال فيها : الحوارون ؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها ، فتنتقل ضمة الياءِ إلى ما قبلها ، فتَسْكُن الياء ، فيلتقي ساكنان ، فيحذفوا الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، وهذا نحو جاء القاضون ، الأصل : القاضيون ، فَفَعَلُوا به ما ذُكِر . قالوا : وإنما أقِرَّت ضمةُ الياء عليها ؛ تنبيهاً على أن التشديد مُرادٌ ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة ، كما ذهب الأخفشُ في " يَسْتَهْزِيُونَ " إذ أبدل الهمزةَ ياءً مضمومةً ، وإنما بقيت الضمة ؛ تنبيهاً على الهمزة . فصل في المراد بـ " الحواريين " اختلفوا في الحواريين ، فقال مجاهد والسُّدِّيُّ : كانوا صيادين يصطادون السمك وسُمُّوا حواريين ؛ لبياض ثيابهم ، وذلك أن عيسى لما خرج سائحاً مَرَّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويُوحَنَّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر ، فقال لهم عيسى : أنتم تصيدون السمك ، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناسَ بحياة الأبد ، قالوا : ومن أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز ، وكان شمعون قد رَمَى شبكته تلك الليلة ، فما اصطاد شيئاً ، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا سفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى صلى الله عليه وسلم . وقال الحسنُ : كانوا قصَّارين ، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثيابَ ، أي يبيِّضونها . وقيل : كانوا ملاَّحين وكانوا اثني عشر رجلاً ، اتَّبعوا عيسى ، وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روحَ الله جعنا ، فيضرب بيده الأرضَ ، فيخرج لكل واحد رغيفانِ ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا ، فيضرب بيده الأرضَ فيخرج الماء ، فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا ؛ إذا شئنا أطُعِمْنَا ، وإذا شئنا استقينا ، وقد آمنا بك ؟ فقال : أفضل منكم مَنْ يعمل بيده ، ويأكل من كَسْبه ، قال : فصاروا يَغْسِلُون الثيابَ بالكراء ، فسُمُّوا حَوَاريِّين . وقيل : كانوا ملوكاً ، وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلامُ على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : أتعرفونه ؟ قالوا : نعم فذهبوا ، فجاءوا بعيسى ، فقال : من أنت ؟ قال عيسى ابن مريم ، قال : وأنا أترك ملكي وأتبعك ، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون . وقيل : إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه ، فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه ، فقال له : هاهنا ثياب مختلفة ، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً ، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب ، فطبخ عيسى صلى الله عليه وسلم جُبًّا واحداً ، وجعل الجميع فيه ، وقال : كوني بإذن الله كما أريد ، فرجع الصباغ ، وسأله ، فأخبره بما فعل ، فقال : أفسدت عليَّ الثيابَ ، قال : قم فانظر ، فكان يخرج ثوباً أخضر ، وثوباً أصفر ، وثوباً أحمر ، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به ، وهم الحواريُّونَ . قال القفَّال : ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السَّمكِ ، وبعضهم من القصَّارين ، وبعضهم من الصبَّاغين ، والكل سموا بالحواريين ؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه ، والمخلصين في محبته وطاعته . قوله : { قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } أي : أنصار أنبيائه ؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ . { آمَنَّا بِٱللَّهِ } هذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى : أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله ؛ لأجل أن آمنا به ؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله ، والذَّبَّ عن أوليائه ، والمحاربة لأعدائه ، ثم قالوا : { وَٱشْهَدْ } يا عيسى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك . ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام ، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام - ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرَّعوا إلى الله ، وقالوا : { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ } عيسى { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق . وقال عطاء : مع النبيين ؛ لأن كل نبي شاهد أمته ، وقد أجاب الله دعاءهم ، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى - عليه السلام - . قال ابن عباس : مع محمد وأمته ، قال تعالى : { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] . وقيل : اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنتَ ذكرَهم بذكرِك في قولك : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 18 ] . قوله : { مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } حال من مفعول { فَٱكْتُبْنَا } وفي الكلام حذف ، أي : مع الشاهدين لك بالوحدانية . قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } من باب المقابلة ، أي : لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به . هكذا قيل ، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ } [ الأعراف : 99 ] والمكر في اللغة أصله الستر ، يقال : مكر اللَّيْلُ ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه . قال القرطبي : وأصل المكر في اللغة : الاحتيال والخِداع ، والمكر : خَدَالةُ الساق ، والمكر : ضَرْب من النبات ويقال : بل هو المَغْرَة ، حكاه ابنُ فارس ، قالوا : واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملقف ، تخيلوا منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه ، وامرأة ممكورة الخَلْق ، أي : ملتفة الجسم ، وكذا ممكورة البَطْن . ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع ، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد ، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم ، وعبر بعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ ، وذلك ضربان : محمود ، وهو ان يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ ، وعلى ذلك قوله : { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } . ومذموم ، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح ، نحو : { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] . فصل أمَّا مَكْرُهُمْ بعيسى - عليه السلام - فهو أن عيسى لما خرج عن قومه - هو وأمه - عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فَهَمُّوا بقتله ، فذلك مكرهم به . وأما مكرُ الله بهم ففيه وجوه : أحدها : أن مكر الله استدرَاج العبد ، وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم ، كما قال { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] . وقال الزّجّاج : " مكر الله " مجازاتهم على مكرهم ، فسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء ؛ لأنه في مقابلته ، كقوله : { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] وقوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] . ومكر الله - تعالى - خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتلَ عيسى ، وكان جبريل لا يفارقه ساعةً واحدةً ، وهو معنى قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [ البقرة : 87 ] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه رَوْزَنَةٌ ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة ، وكان قد ألقي شبهه على غيره ، فأخِذ ، وصُلِب ، فتفرَّق الحاضرون ثلاث فرقٍ : فرقة قالوا : كان الله فينا فذهب . والأخْرَى قالت : ابن الله . والثالثة قالت : كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع ، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم . الثاني : أن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحدٌ منهم ، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ، ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافقَ الذي كان منهم وقتلوه ، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام ، ثم قالوا : وجهه يُشْبِه وَجْه عيسى ، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا ، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيمٌ ، حتى قتل بعضهم ، فذلك هو مكرُ اللهِ بهم . الثالث : قال محمدُ بنُ إسحاقَ : إن اليهودَ عَذبُوا الحواريين بعد أن رُفِع عيسى عليه السلام ، ولَقُوا منهم الجهد ، فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فقيل له : إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله ، وأراهم إحياء الموتَى ، وإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ ، وفَعَل وَفَعَل ، فقال : لو علمتُ ذلك ما خَلَّيْتُ بينهم وبينه . ثم بعث إلى الحواريين ، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى ، فأخبروه وبايعوه على دينهم ، وأنزل المصلوب ، فغيبه ، وأخذ الخشبة ، فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خَلْقاً عظيماً ، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس ، وصار نصرانياً إلا أنه ما أظهَر ذلك ، ثم جاء بعده ملك آخرُ يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ، ولم يترك في مدينة بيت المقدسِ حجراً على حجر ، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهَمِّ بقَتْله . الرابع : أن الله تعالى سلَّط عليهم ملك فارس ، فقتلهم ، وسباهم ، وهو قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ } [ الإسراء : 5 ] فهذا هو مكر الله - تعالى - بهم . الخامس : يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره ، وإبطال دينه ، ومكر الله بهم ، حيثُ أعلى دينَهُ ، وأظهر شَرِيعَتَهُ ، وقهر بالذل أعداءَه - وهم اليهود . وفي قوله : { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمر ؛ إذ الأصل : ومكروا ومكر اللهُ ، وَهُوَ خَيرُ بالْماكِرِينَ . قوله : { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ } في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : قوله : { وَمَكَرَ ٱللَّهُ } أي : مكر الله بهم في هذا الوقت . الثاني : { خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } . الثالث : أنه " اذكرْ " - مقدَّراً - فيكون مفعولاً به كما تقدم تقريره . قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ، فيه وجهان : أحدهما : وهو الأظهر - أن يكون الكلام على حاله - من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه - بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك - من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار - ورافعك إلى سمائي . الثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والأصلُ : رافعك إليَّ ومتوفيك ؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء ، ثم يتوفى بعد ذلك ، والواو للجمع ، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء . ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى ، إلا أن أبا البقاء حمل التوفي على الموت ، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه ، ونزلوه إلى الأرض ، وحُكمِه بِشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديثِ . فعلى الأول ففيه وجوهٌ : أحدها : إني متمم عمرك ، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه . الثاني : إني مُميتُك ، والمقصود منه ألا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله . وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجهٍ : الأول : قال وَهْبٌ : تُوفِّي ثلاثَ ساعاتٍ ، ثم رُفِع وأحْيِيَ . الثاني : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه . الثالث : قال الربيع بن أنس : إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء ، قال تعالى { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] . وثالثها : أن الواو لا تفيد الترتيب ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت أنه حي ، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلك . رابعها : إني متوفيك عن شهواتك ، وحظوظ نفسك ، فيصير حاله كحال الملائكة - في زوال [ الشهوات ] والغضب والأخلاق الذميمة - . خامسها : أن التَّوفِّيَ اخذ الشيء وافياً ، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ ، لا جَسَدُهُ ، ذكر ذلك ؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده . وسادسها : إني متوفيك ، أي جاعلك كالمتوفى ؛ لأنه إذا رفع إلى السماء ، وانقطع خبره ، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن . وسابعها : أن التوفِّي هو القبض ، يقال : فلان وفاني دراهمي ، ووافاني ، وتوفيتها منه ، كما يقال سلم فلان دراهمي إلي ، وتسلمتها منه . فإن قيل : فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع ، فيصير قوله : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } تكراراً ، فالجواب : أن قوله { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } يدل على حُصُولِ التَّوفِّي ، وهو جنس تحته أنواع ، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ ، فلما قال : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } صار تعييناً للنوع ، فلم يكن تكراراً . ثامنها : أن يقدر حذف مضاف ، أي : متوفي عملك ، بمعنى مستوفي عملك ، ورافعك إليَّ ، أي : ورافع عملك إليّ ، كقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] والمرادُ منه : أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله ، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه ، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره ، ولا يهدر ثوابهُ . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً ، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ ، فَيَفِيضُ الْمَالُ ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ " . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى : " وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال ، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ " . وقيل للحُسَيْن بن الفضل : هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن ؟ قال : نعم ، قوله : { وَكَهْلاً } وهو لم يكتهل في الدنيا ، وإنما معناه : { وَكَهْلاً } بعد نزوله من السماء . فصل قال القرطبيُّ : " والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس " . وقال الضحاك : وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً ، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ ، فأخذوا بباب الغرفة ، فقال المسيح للحواريين : أيُّكُمْ يخرج ، ويقتل ، ويكون معي في الجنة ؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله ، فألقَى إليه مدرعة من صوف ، وعمامة من صوفٍ ، ونَاوَلَه عُكَّازه ، وألقي عليه شبه عيسى ، فخرج على اليهود فقتلوه ، وصلبوه ، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ ، وألبسه النورَ ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ، فَطَارَ مع الملائكة ، ثم إن أصحابه تفرقوا ثلاث فرق : فقالت فرقة : كان اللهُ فينا ، ثم صعد إلى السماء ، وهم اليعقوبية . وقالت فرقة : كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية . وقالت فرقة : كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون . فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } [ الصف : 14 ] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى . قوله : { وَرَافِعُكَ إلَيَّ } تمسَّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية ، وأجيبُوا عنها بوجوهٍ : أحدها : أن المراد إلى محل كرامتي ، كقول إبراهيم : " إنِّي ذاهبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ " وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من " العراق " إلى " الشام " ، ويُسَمَّى الحُجَّاجُ زُوَّارَ الله ، والمجاورون جيران الله ، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم ، فكذا هاهنا . وثانيها : أن معناه [ رافعك إلى مكان ] لا يملك الحكم عليه فيه غيرُ اللهِ ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلقَ أنواعُ الحُكَّامِ ، أمَّا السموات فلا حاكم هناك - في الظاهر وفي الحقيقة - إلا اللهُ . وثالثها : أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سبباً لانتفاعه ، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبهُ من الثواب والرَّوح والريحان والراحة ، فلا بد من حمل اللفظِ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك ، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يَبْقَ في الآية دلالة على ما ذكروه . قوله : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } معناه مُخْرِجك من بينهم ، ومُنَجِّيك ، فكما عظَّم شأنَه بلفظ الرفع ، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنَه وتعظيم منصبه عند الله تعالى . قوله : { وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ } فيه قولان : أظهرهما : أنه خطاب لعيسى عليه السلام . الثاني : أنه خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم فيكون الوقف على قوله : { مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } تاماً ، والابتداء بما بعده ، وجاز هذا ؛ لدلالة الحال عليه . و { فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ثاني مفعولي { وَجَاعِلُ } لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط . و { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } متعلق بالجَعْل ، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم . ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي : جاعلهم قاهرين لهم ، إلى يَوْمِ القيامةِ ، يعني أنهم ظاهرون على اليهود ، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا ، فأما يوم القيامة ، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم ، فيدخل الطائع الجَنَّةَ ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا ، وانقضائها ؛ لأن لهم استعلاءً آخر غير هذا الاستعلاء . قال أبو حيّان : " والظاهر أن " إلى " تتعلق بمحذوف وهو العامل في " فَوْقَ " وهو المفعول الثاني لـ " َجَاعِل " إذْ معنى " جاعل " هنا مُصَيِّر ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة . وهذا على أن الفوقية مجاز ، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق " إلى " بذلك المحذوف ، بل بما تقدم من " مُتَوَفِّيك " أو من " رَافِعُكَ " أو من " مُطَهِّرُكَ " إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها ، أما تعلقه بـ " رَافِعُكَ " أو بـ " مُطَهِّرُكَ " فظاهر ، وأما بـ " مُتَوَفِّيكَ " فعلى بعض الأقوال " . يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به : قابضك من الأرض من غير موت ، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [ وابن جريج ] وابن زيد وغيرهم . أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ : وهو مُسْتَوْفٍ أجلك ، ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك ، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار ، وإن على قول مَنْ يقول : إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به ؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة ، بل قائل يقول : إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة . وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل ، والظاهر أنه متعلق بـ " جَاعِل " . وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم " أحكم " ونحوه قبل الباء . فصل قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتل والكلبيُّ : الذين اتبعوه هم أهْلُ الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينَه في التوحيد من أمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة ، والمنعة ، والحُجَّةِ . قال الضحاك : يعني الحواريين . وقيل : هم الروم . وقيل : النصارى ، فَهُمْ فَوْقَ اليهود إلى يَوْمِ القيامةِ ، فإن اليهود قد ذهب ملكُهم ، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة . وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين ، فإن النصارى - وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشَدَّ مخالفةٍ ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجُهَّالُ ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود ، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهوديًّا ولا بلدة مملوءة من اليهود ، بل يكونون - أيْنَما كانوا - في الذلة والمسكنة ، والنصارى بخلاف ذلك . فصل قال أهلُ التّاريخِ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً ، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل ، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْدِس ليلة القدر في شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين ، وعاشت أمُّه مريم بعد رفعه ست سنين . فصل قال ابنُ الْخَطِيبِ : في مباحث هذه الآية موضعٌ مشكل ، وهو أن نَصَّ القرآن يدل على أنه - تعالى - حين رفعه ألقى شبهه على غيره ، على ما قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } [ النساء : 157 ] والأخبار واردة أيْضاً بذلك ، إلا أن الرواياتِ اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شَبَهَهُ على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه ، فقتلوه وصلبوه ، وتارة يُرْوَى أنه صلى الله عليه وسلم رغَّب أحد خَوَاصِّ أصحَابه في أن يُلْقِيَ اللهُ شَبَهَهُ عليه حتى يُقْتَل في مكانه ، وبالجملة ففي إلقاء شَبَهِهِ على الغير إشكالات : الأول : أنا لو جوَّزنا إلقاء شَبَه إنسان على إنسان آخر ، لزم السفسطة ؛ فإني إذا رأيتُ ولدي ، ثم زينته ثانياً فحينئذ أجوِّزُ أن يكون هذا الذي أراه ثانياً ليس ولدي ، بل هو إنسان آخر أُلْقِي شَبَهُهُ عليه وحينئذٍ يرتفع الأمانُ عن المحسوسات . وأيضاً فالصحابة الذين رأوْا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يأمرهم ، ويَنْهَاهُمْ ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمدٌ ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير ، وذلك يُفْضِي إلى سقوط الشرائعِ . وأيضاً فمدار الأمرِ في الأخبار المتواترةِ على أن يكون المُخْبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا [ جاز ] الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى ، وبالجملة ، فَفَتْحُ هذا البابِ أوله السفسطةُ ، وآخره إبطالُ النبوات بالْكُلِّيَّةِ . الإشكال الثاني : أن اللهَ - تعالى - كان قد أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [ المائدة : 110 ] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي للعالم من البشر ، فكيف لم يَكْفِ في منع أولئك اليهود عنه . وأيضاً إنه عليه السلام - لَمَّا كان قادراً على إحياء الموتَى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة اليهودِ الذين قصدوه بالسوء ، وعلى إسْقامهم ، وإلقاء الزمانة والفَلَج عليهم حتى يصيروا عاجزينَ عن التعرُّضِ له ؟ الإشكال الثالث : أنه - تعالى - كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعَه عنهم ، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير ؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القَتْل من غير فائدة ألبتة ؟ الإشكال الرابع : أنه إذا ألقي شبهه على الغير ، ثم إنه رُفِعَ بَعدَ ذلك إلى السماء فالقومُ اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه السلام مع أنه ما كان عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى . الإشكال الخامس : أن النصارَى - على كثرتهم في مشارقِ الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح ، وغلوّهم في أمره - أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً ، مصلوباً ، فلو أنكرنا ذلك ، طعَنَّا فيما ثبت بالتواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكل ذلك باطل . الإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيًّا زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى - بل كان غيره - لأظهر الجزع ، ولقال : إني لَسْتُ بعيسى - بل إنما أنا غيره - ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم . والجواب عن الأول : أنه كل من أثبت القادرَ المختارَ سلَّم أنه - تعالى - قادرٌ على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زَيْدٍ - مثلاً - ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم . والجواب عن الثاني : أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه ، أو أقدر الله عيسى على دَفْع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز ، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث ؛ فإنه - تعالى لو رفعه إلى السماء ، وما ألْقَى شَبَهَهُ على الغير لبلغت تلك المعجزةُ إلى حَدِّ الإلجاء . والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة ؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس . والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ، ودخول الشبهة على الجَمْع القليل جائز ، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الْجَمْعِ القليلِ ، لم يكن مُفِيداً للعلم . والجواب عن السادس : أن بتقدير أن يكون الذي أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى عليه كان مُسْلِماً ، وقَبِل ذلك عن عيسى عليه السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقةِ الحالِ في تلك الواقعةِ . وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوهِ ، ولما ثبت بالمعجز القاطِع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملةِ معارِضَةً للنص القاطع عن الله . قوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدّينِ ، وأمر عيسى عليه السلام ؛ التفات من غيبة إلى خطابِ ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رضي الله عنهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه ، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات ، لكان : ثم إليّ مرجعهم ، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا ، ولكنه التفت إلى الخطاب ؛ لأنه أبلغ في البشارة ، وأزجر في النذارة . وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني : إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا ؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه ، ومتولّي أمره ، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي : إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته ، ومحل عبادته ؛ ليسكن فيها ، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به ، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم ؛ ليتمَّ بذلك سروره ، ويكمل فرحه . وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره ؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم ، وبشأنه أعْنَى ، كقوله : { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] وفي الحديث : " ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ " . قوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } في محل هذا الموصول قولان : أظهرهما - وهو الأظهر - : أنه مرفوع على الابتداء ، والخبر الفاء وما بعدها . الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، على أن المسألة من باب الاشتغال ، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره ، وهذا وجه ضعيف ؛ لأن " أمَّا " لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل ، ومن جوَّز ذلك قال : بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم ، ولا يضمر قبله . قال : لئلا يَلِيَ " أمَّا " فعل - وهي لا يليها الأفعال ألبتة - فَتُقَدِّر - في قولك : أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه ، وكذا هنا يُقَدَّر : فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم ؛ قدر العامل بعد الصلة ، ولا تقدره قبل الموصول ؛ لما ذكرناه . وهذا ينبغي أن لا يجوز ؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ . وقد قرئ شاذًّا { وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] بنصب " ثمود " واستضعفها الناس . فصل عذاب الكفار - في الدنيا - بالقتل والسبي والجزية والذلة ، وفي الآخرة بالنار أي : في وقت الآخرة بالنار { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّـٰصِرِينَ } . فإن قيل : وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار ، وأخرى على المسلمين ، ولا نجد بين الناس تفاوتاً . فالجوابُ : أن التفاوُتَ في الدنيا موجود ؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى - عليه السلام ، وَنَرى الذِّلَّةَ والمسكنةَ لازمةً لهم . فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار ؛ بسبب العهد وعقد الذِّمَّة ؟ فالجواب : أن المانع من القتل هو العهد ، ولذلك إذا زالَ العهدُ حَلَّ قَتْلُه . قوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا } الكلام فيه كالكلام في الموصول قبله . وقد قرأ حفص عن عاصم والحسن " فَيُوَفِّيهِمْ " - بياء الغيبة - والباقون بالنون . فقراءة حفص على الالتفاتِ من التكلُّم إلى الغيبة ؛ تفنُّناً في الفصاحةِ ، وقراءة الباقين جاريةٌ على ما تقدم من إتِّسَاق النظم ، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده ، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه ؛ اعتناءً بالمؤمنين ، ورفْعاً من شأنهم ؛ لمَّا كانوا مُعَظَّمِينَ عندَه . فصل دَلّتْ هذه الآية على أن العملَ الصالحَ خارجٌ عن مُسَمَّى الإيمان وقد تقدم ذلك ، واستدلوا بالآية على أن العملَ علةٌ للجزاء ؛ لقوله : { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } فشبههم - في عبادتهم لأجل طلب الثّوابِ بالمستأجر . واحتج المعتزلة بقوله : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } - بمنزلة قوله : لا يريد ظُلْمَ الظالمين - على أنه تعالى - لا يريد الكفر والمعاصي ، قالوا : لأن مُرِيدَ الشيء لا بد وأن يكون مُحِبًّا له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال ، وإنما تخالف المحبةُ الإرادة إذا علقناهما بالأشخاص ، فقد يقال : أحبّ زيداً ، ولا يقال : أريده . فأما إذا عُلِّقَتا بالأفعال فمعناهما واحد ، إذا استُعْمِلَتَا على حقيقة اللغة ، فصار قوله : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } بمنزلة قوله : لا يريد ظلم الظالمين كذا قرره القاضي . وأجيب بأن المحبةَ عبارة عن إرادة إيصالِ الخيرِ إليه فهو - تعالى - وإن أراد كُفْرَ الكافرِ إلا أنه لا يريد إيصالَ الثواب إلَيْه . قوله : { ذٰلِكَ نَتْلُوهُ } يجوز أن يكون " ذَلِكَ " مبتدأ ، " نَتْلُوهُ " الخبر " مِنَ الآيَاتِ " حال أو خبر بعد خبر . ويجوز أن يكون " ذَلِكَ " منصوباً بفعل مقدَّر يفسِّره ما بعده - فالمسألة من باب الاشتغال - و " مِنَ الآيَاتِ " حال ، أو خبر مبتدأ مُضمَرٍ [ أي : هو من الآيات ، ولكنّ الأحسن الرفعُ بالابتداء ؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار ، وعندهم " زيد ضربته " أحسن من " زيداً ضربته " ، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر ] ، يعني الأمر ذلك ، و " نَتْلُوهُ " على هذا حال من اسم الإشارة ، و { مِنَ الآيَاتِ } حال من مفعول " نَتْلُوهُ " . ويجوز أن يكون " ذَلِكَ " موصولاً بمعنى " الذي " و " نَتْلُوهُ " صلة وعائد ، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي : الذي نتلوه عليك كائن من الآيات ، أي : المعجزات الدالة على نبوتك . جوَّز ذلك الزَّجَّاجُ وتبعه الزمخشريُّ ، وهذا مذهب الكوفيين . أما البصريون فلا يُجيزُون أن يكون اسماً من أسماء الإشارة موصولاً إلا " ذَا " خاصةً ، بشروطٍ تقدم ذكرها ؛ ويجوز أن يكون " ذلك " مبتدأ ، و " مِنَ الآيَاتِ " خبره ، و " نَتْلُوهُ " جملة في موضع نصب على الحال ، والعامل معنى اسم الإشارة . قوله : " نَتْلُوهُ " فيه وجهان : أحدهما : أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى ، أي : الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك ، كقوله : { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ } [ البقرة : 102 ] . والثاني : أنه على بابه ؛ لأن الكلام لم يتم ، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية . و " من " فيها وجهانِ : أظهرهما : أنها تبعيضية ؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ . والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك . والثاني : أنها لبيان الجنسِ ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به . قال أبو حيّان : وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز ؛ لأن تقدير " من " البيانية بالموصول ليس بظاهر ؛ إذ لو قلتَ : ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل ، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [ على سبيل المجاز ] . والحكيمُ : صيغة مبالغة محول من " فاعل " . ووصف الكتاب بذلك مجازاً ؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به ، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه . وجوزوا أن تكون بمعنى " مُفْعَل " أي : مُحْكَم ، كقوله : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] إلا أن " فعيل " بمعنى " مُفْعَل " قليل ، قد جاءت منه أليْفَاظ ، قالوا : عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [ في سبيل الله ] فهو حبيس ومُحْبَس . وفي قوله : " نَتْلُوه " التفات من غيبة إلى تكلُّم ؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } - كذا قاله أبو حيّان ، وفيه نظرٌ ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ . فصل التلاوة والقصص واحد ؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يُذْكَر بعضُه على أثَر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله : { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ } [ القصص : 3 ] ، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه ؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك ، فَجَعلَ تِلاَوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلاَوَتِهِ . والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن . وقيل : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذي مِنْهُ نُقِلَت الْكُتُبُ المنزلةُ على الأنبياء - عليهم السلام - أخبر - تعالى - أنَّهُ أنزلَ هذه القَصصَ مما كُتِبَ هنالك .