Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 59-60)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ } جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً ، بل معنويًّا . وزعم بَعْضهُمْ أنها جواب القسم ، وذلك القسم هو قوله : { وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ } كأنه قيل : أقسم بالذكر الحكيم أنَّ مثل عيسى ، فَيَكُونُ الْكَلاَمُ قد تم عند قوله : { مِنَ الآيَاتِ } ثم استأنف قسماً ، فالواو حَرْف جَرٍّ ، لا عطف وهذا بَعِيدٌ ، أو مُمْتَنعٌ ؛ إذ فيه تفكيكٌ لنَظْم القرآنِ ، وإذْهاب لرونقه وفصاحته . قوله : { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } في هذه الجملة وَجْهَانِ : أظهرهما : أنها مفسِّرة لوجه الشبه بين المثلين ، فلا مَحَلَّ لَهَا حينئذٍ مِنَ الإعْرَابِ . الثاني : أنها في محل نصب على الحال من آدَمَ عليه السلام و " قد " معه مضمرة ، والعامل فيها معنى التشبيه والهاء في " خَلَقَهُ " عائدة على " آدم " ولا تعود على " عِيْسَى " لِفَسَادِ المعنى . وقال ابن عطية : " ولا يجوز أن تكون خَلَقَه [ صفة ] لآدم ولا حالاً منه " . قال الزّجّاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها , بل هو كلامٌ مَقْطُوعٌ منه مَضمَّن تفسير الْمَثَلِ ، كما يقال في الكَلامِ : مثلك مثل زيد ، يشبه في امر من الأمور ، ثم يخبر بقصة زيد ، فيقول : فعل كذا وكذا . قال أبو حيّان : " وَفيهِ نَظرٌ " ولم يُبَيِّنُ وَجْهَ النظر . قال شهاب الدِّينِ : " والظاهر من هذا النظر أن الاعتراضَ - وهو قوله : لا يكون حالاً أنت فيها غير لازمٍ ؛ إذ تقدير " قَدْ " تُقَرِّبُه من الحال . وقد يظهر الجوابُ عما قاله الزَّجَّاجُ من قول الزمخشريِّ : قدره جسداً من طين { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ } أي : أنشأه بَشَراً " . قال أبو حيّان : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء - لا بمعنى التقدير - لم يأت بقوله : " كُنْ " ؛ لأن ما خلق لا يقال له : كُنْ ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى : { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } عِبَارةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ . وقال الواحديُّ : قوله { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } لَيْسَ بِصِلَةٍ لآدم وَلاَ صِفَةٍ ؛ لأن الصِّلَةَ للمبهمات ، والصفة للنَّكِرِاتِ ، ولكنه خبر مُسْتَأنَف على وجه التفسِيرِ لحال آدمَ عليه السلام . وعلى قول الزجّاج : { مِن تُرَابٍ } فيه وجهان : أظهرهما : أنه متعلق بـ " خَلَقَهُ " أي : ابتدأ خلقه من هذا الجنس . الثاني : أنه حال من مفعول " خلقه " تقديره : خلقه كائناً من تراب ، وهذا لا يساعده المعنى . وَالْمَثَلُ هاهنا منهم من فسَّره بمعنى الحال والشأن . قال الزَّمَخْشَريُّ : " إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدمَ " . وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها - من كونها حرف تشبيه - وفسَّر بعضُهم المثل بمعنى الصفة ، كقوله : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [ الرعد : 35 ] ، أي : صفة الجنة . قال ابنُ عَطِيَّة : وهذا عندي خطأٌ وضَعْفٌ في فَهْمِ الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمُتَصَوَّر من آدمَ ؛ إذ النّاس كلهم مُجْمِعُون على أن الله - تعالى - خلقه من تراب ، من غير فحل ، وكذلك قوله : { مَّثَلُ الْجَنَّةِ } عبارة عن المُتَصَوَّر منها . والكاف في " كَمَثَلِ " اسم على ما ذكرناه من المعنى . قال أبو حيّان : " ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام مَنْ جعل المثل بمعنى الشأن والحَال أو بمعنى الصفةِ " . [ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : قَد تَقَدَّمَ فَي أوَّلِ الْبَقَرةِ أنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَن الصِّفَةِ ، وَقَدْ لا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهِمَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ النَّاسِ فِيهِ ، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ " ريِّ الظَّمآنِ " عن الفارسيّ الْجَميعِ ، وقَالَ : " المَثَلُ بِمعنَى الصِّفَةِ ، لا يمكن تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ ، إنَّمَا الْمثَلُ التشبيه على هذا تدور تصاريفُ الكلمةِ ، ولا معنى للوصفية في التشابه ؛ ومعنى المثل ] في كلامهم أنها كلمة يُرْسِلها قائلُها لحكمة تُشَبَّه بها الأمور ، وتقابَل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة . قال بعضهم : إن الكافَ زائدة . وقال آخرون : إنّ " مَثَلاً " زائدة فحصل في الكافِ ثَلاَثَةُ أقوالٍ : قيل : أظهرها : أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه . وقال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ووُجِد آدم من غير أب ولا أمٍّ ؟ قلت : هو مثله في أحد الطَّرَفَيْنِ ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به ؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ ، وهما في ذلك يظهران ، ولأن الوجود من غير أب ولا أمٍّ أغرب وأخرق للعادةِ من الوجود من غيرأب ، فشبَّه الغريبَ بالأغرب ؛ ليكون أقطعَ للخَصْم ، وأحسم لمادة شُبْهَتِه ، إذا نُظِّر فيما هو أغرب مما اسْتَغْرَبَه " . فصل قال القرطبيُّ : " دَلَّت هذه الآية على صحةِ القياسِ . والتشبيه واقع على أن عيسى خُلِقَ من غير أب كآدم ، لا على أنه خلق من ترابٍ ، والشيء قد يُشَبَّه بالشيء - وإن كان بينهما فرقٌ [ كَبِيرٌ ] - بعد أن يَجْتَمِعَا في وصف واحدٍ " . وعن بعض العلماء أنه أسِر بالروم ، فقال لهم : لِمَ تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أبَ لَه . قال : فآدم أوْلَى ؛ لأنه لا أبوين له ، قالوا : فإنه كان يُحْيي الموتَى ؟ قال : فحَزقيل أوْلَى ؛ لأن عيسى أحْيَى أربعةَ نفر ، وحزقيل أحْيَى ثَمَانِيةَ آلاف ، قالوا : فإنه كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص . قال : فجَرْجيس أوْلَى ؛ لأنه طُبخَ ، وأحرق ، وخَرَجَ سَالِماً . قوله : { كُنْ فَيَكُونُ } اختلفوا في المقول له : كُنْ ، فالأكثرون على أنه آدم - عليه السلام - وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية ؛ لأنه إنما يقول له : كن قبل أن يخلقَه لا بعده ، وهاهنا يقول : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن } . والجوابُ : أن الله - تعالى - أخبرنا - أولاً - أنه خلق آدم من غير ذَكَرٍ ، ولا أنثى ، ثم ابتدأ أمراً آخر - يُريد أن يُخْبرَنا به - فقالَ : إني مُخبِرُكم - أيضاً بعد خبري الأولِ - أني قلتُ له : كُن فكان ، فجاء " ثُمَّ " لمعنى الخبر الذي تقدم ، والخبر الذي تأخر في الذكر ؛ لأنَّ الخلقَ تقدم على قوله : " كُنْ " . وهذا كما تقولُ : أخْبِرُكَ أنِّي أعطيكَ اليومَ ألفاً ثم أخبرك أني أعطيتك أمسَ ألفاً ، فـ " أمسِ " متقدم على " اليوم " وإنما جاء بـ " ثُمَّ " ؛ لأنَّ خبرَ " اليومَ " متقدِّمٌ خبر " أمس " ؛ حيث جاء خبرُ " أمس " بعد مُضِيِّ خَبَر " اليوم " ومثله قوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] - وقد خَلَقَنا بعد خلق زَوْجِها ، ولكن هذا على الخبر دون الخلق ؛ لأنَّ التأويلَ : أخبركُمْ أني قد خلقتُكُم من نفسٍ واحدةٍ - ؛ لأن حواءَ قد خُلِقَتْ من ضِلعِهِ ثم أخبركم أني خَلَقْتُ زَوْجَهَا منها . ومثل هذا قول الشاعر : [ الخفيف ] @ 1490 - إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلِكَ جَدُّهُ @@ ومعلوم أن الأبَ متقدِّمٌ له ، والجدُّ متقدمٌ للأبِ ، فالترتيب يعود إلى الخبرِ لا إلى الوجودِ ، كقولهِ : { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] فكذا قوله : { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } أي : صيَّره خلْقاً سَويًّا ، ثم إني أخبرُكم أني إنما خلقتُه بأن قُلتُ لَهُ : كُنْ . فالتراخي في الخبرِ ، لا في هذا المخبرِ عن ذلك المخبر . ويجوز أن يكون المرادُ أنَّهُ خلقَهُ قالباً من ترابٍ ، ثم قال له : كُنْ بَشَراً . فإن قيل : الضميرُ في قوله : { خَلَقَهُ } راجع إلى آدم ، وحين كان تراباً لم يكن آدم موجوداً . فالجواب : أن ذلك الهيكل لما كان بحيث يصير آدم عن قريب سماه آدم ؛ تسمية للشيء بما يئول إليه . قال أبُو مُسْلِم : " قد بَيَّنَّا أن الخلق هو التقدير والتسوية ، ويرجع معناه إلى علم الله - تعالى - بكيفية وقوعه ، وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص ، وكل ذلك مُتَقدِّم في الأزل ، وأما قوله : كن ، فهو عبارة عن إدخاله في الوجود ، فثبت أن خلق آدم متقدِّم على قوله : كن " . وقال بعضهم : المقول له : كن هو عيسى ، ولا إشكال على هذا . قوله : { فَيَكُونُ } يجوز أن يكون على بابه من كونه مستقبلاً ، والمعنى : فيكون كما يأمر الله - تعالى - فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم . قال بعضُهُمْ : معناه : اعلم يا محمد أن ما قال له ربُّك : كن فإنه يكون لا محالة . ويجوز أن يكون { فَيَكُونُ } بمعنى : " فكان " وعلى هذا أكثر المفسِّرين ، والنحويين ، وبهذا فَسَّرَهُ ابنُ عبَّاس رضي الله عنه . فصل أجمع المفسّرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران وذلك " أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك تشتم صاحِبَنَا ؟ قال : ومَا أقُولُ ؟ قالوا : تقول : إنه عَبْدٌ ، قَالَ : أجلْ ، هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، وَكَلِمتُهُ ألْقَاهَا إلَى الْعَذْرَاء الْبَتُولِ ، فغَضِبُوا ، وقالوا : هل رأيت إنساناً - قطُّ - من غير أب ؟ فقال { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ } " كأنهم قالوا : يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله ، فَقَالَ : إنَّ آدَمَ مَا كَانَ لَهُ أبٌ وَلاَ أمٌّ وَلَمْ يَلْزَمْ أن يَكُونَ أبُوهُ هُوَ الله ، وأنْ يَكَونَ ابْناً للهِ ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى ، وأيضاً إذَا جَازَ أن يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ مِن التراب ، فلم لا يجوز أن يخلُقَ عيسَى منْ دمِ مَرْيَمَ ؟ بل هذا أقرب إلى العقل ، فإن تولُّد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولُّده من التراب اليابس . فصل اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول ، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقاً بوالد لا إلى أول ، وهو مُحَالٌ ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم . لقوله : { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] ثُم إنه - تعالى - ذكر في كيفية خلق آدمَ وجوهاً كثيرةً : أحدها : أنه مخلوق من التراب - كما في هذه الآية . الثاني : أنه مخلوق من الماء ، قال تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً } [ الفرقان : 54 ] . الثالث : أنه مخلوق من الطين ، قال تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } [ السجدة : 7 ] . رابعها : أنه مخلوق من سلالة من طين ، قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] . خامسها : أنه مخلوق من طين لازبٍ ، قال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] . سادسها : أنه مخلوق من صلصال من حَمَأ مسنون . سابعها : أنه [ خلق ] من عَجَلٍ . ثامنها : قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } [ البلد : 4 ] . قال الحكماء : إنما خُلِق آدمُ من التراب ؛ لوجوهٍ : الأول : ليكون متواضعاً . الثاني : ليكون سَتَّاراً . الثالث : إذا كان من الأرض ليكون أشدَّ التصاقاً بالأرض ؛ لأنه إنما خلق لخلافة الأرض ؛ لقوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] . الرابع : أراد الحق إظهار القدرة ، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرامِ ، وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام ، وأعطاهم كمال الشدة والقوة ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاهم المعرفة والنور والهداية ، وخلق السموات من أمواج مياه البحر ، وأبقاها مُعَلَّقة في الهواء ، حتى يكون خلقه هذه الأجرام بُرْهاناً باهِراً ، ودليلاً ظاهراً على أنه - تعالى - هو المدبر بغير احتياج . الخامس : خلق الإنسان من تراب ، فيكون مُطْفِئاً لنار الشهوة ، والغضب ، والحِرْص ؛ فإن هذه النيران لا تنطفئ إلا بالتراب ، وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً ، تتجلَّى فيه صُوَرُ الأشياء ، ثم إنه - تعالى - فرج بين الأرض والماء ليمتزجَ اللطيفُ بالكثيفِ ، فيصير طيناً ، وهو قولُهُ : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ثم إنه في المرتبةِ الرابعة قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] والسلالةُ بمعنى المسلولةِ قال : فعالة بمعنى مفعولة ؛ لأنها هي التي من ألطف أجزاء الطين ، ثم إنه في المرتبة الخامسة جعله طيناً لازباً ، فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] ثم إنَّه في المرتبةِ السادسةِ أثبت له ثلاثةَ أنواعٍ من الصفاتِ : أحدها : أنَّه صلصالٌ ، والصلصالُ : اليابسُ الذي إذا حُرِّك تصلصلَ ، كالخزفِ الذي يُسْمَع مِنْ داخلهِ صوتٌ . الثاني : الحمأ ، وهو الذي استقر في الماء مُدَّةً ، وتغيَّر لونُه إلى السَّوادِ . الثالث : تغيُر رائحته ، وهو المسنونُ ، قال تعالى : { فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } [ البقرة : 259 ] ، أي : لم يتغيَّر . قوله : { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ مستقلةً برأسِهَا والمعنى أنَّ الحقَّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو مِنْ ربك ، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربكَ قصةُ عيسى وأمُهُ ، فهو حقٌّ ثابتٌ . ويجوز أن يكونَ " الحقُّ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : ما قَصَصْنَا عليكَ من خبرِ عيسى وأمه ، وحُذِفَ لكونه معلوماً . و { مِّن رَّبِّكُمْ } على هذا - فيهِ وجهانِ : أحدهما : أنه حال فيتعلق بمحذوف . والثاني : أنه خبر ثان - عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة . وقال بعضهم : " الحق رفع بإضمار فعل ، أي : جاءك الحق " . وقيل : إنه مرفوع بالصفة ، وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : من ربك الحق . والامتراء : الشك . قال ابنُ الأنباريِّ : هو مأخوذٌ من قول العرب : مَرَيْتُ الناقة والشاة - إذا حلبتهما - فكأن الشاك يجتذب بشكِّه شَرًّا - كاللبن الذي يُجْتَذَب عند الحلب . ويقال قد مارى فلان فلاناً - إذا جادله - كأنه يستخرج غضبه ، قال ابنُ عبّاسٍ لعمر رضي الله عنهما : لا أماريك أبَداً . ومنه قيل : الشكر يَمْتَرِي المزيد ؛ أي : يجلبه . فصل هذا الخطابُ - في الظاهر - مع النبي صلى الله عليه وسلم واختُلِفَ في تأويلِهِ : فقيل إن هذا الخطاب - وإن كان ظاهره مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه في المعنى مع الأمة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكاً في أمر عيسى ، فهو كقوله : { يَٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [ الطلاق : 1 ] . وقيل إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه أنه من باب الإلهاب والتهييج على الثبات على ما هو عليه من الحق أي : دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من تَرْك الامتراء . فصل ومعنى الآية فيه قولان : أحدهما : قال أبو مسلم : معناه أن هذا الذي أنزلتُ عليك - من حبر عيسى - هو الحقُّ ، لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت إلَهاً ، واليهود رَمَوْا مريم عليها السلام بالإفك ، ونسبوها إلى يوسف بن يعقوب النجار ، فالله - تعالى - بَيَّن أن هذا الذي نزل في القرآن هو الحق ، ثم نهى عن الشك فيه . الثاني : ما ذكرنا من المثل - وهو قصة آدم - فإنه لا بيان لهذه المسألة ، ولا برهان أقوى من التمسُّك بهذه الواقعةِ .