Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 86-86)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام فيه كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } [ البقرة : 28 ] . وقيل : الاستفهام - هنا - معناه النَّفْي كقوله : [ الخفيف ] @ 1532 - كَيْفَ نَوْمي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا تَشمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ ؟ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 1533 - فَهَذِي سُيُوفٌ يَا صُدَيُّ بْنَ مَالِكٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ ؟ @@ يعني : أين بالسيف ؟ { وَشَهِدُوۤاْ } في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أنها معطوفة على " كَفَرُوا " و " كَفَرُوا " في محل نَصْب ؛ نعتاً لِـ " قوماً " أي : كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين ، وإلى هذا ذهب ابنُ عطيةَ والحَوْفِيُّ وأبو البقاء ، وردَّه مكيّ ، فقال : لا يجوز عطف " شَهِدُوا " على " كَفَرُوا " لفساد المعنى . ولم يُبَيِّن جهَةَ الفساد ، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة ، فلذلك فَسَد المعنى عنده . وهذا غير لازم ؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيباً ، ولذلك قال ابن عطيةَ : " المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكُفْر ، والواو لا تُرَتِّب " . الثاني : أنها في محل نصب على الحال من واو " كَفَرُوا " فالعامل فيها الرافع لصاحبها ، و " قد " مضمرة معها على رأي - أي كفروا وقد شهدوا ، وإليه ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ ، وأبي البقاء وغيرهما . قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون العامل " يَهْدِي " ؛ لأنه يهدي من شَهِدَ أن الرسولَ حق " . يعني أنه لا يجوز أن يكون حالاً من " قَوْماً " والعاملُ في الحالِ " يَهْدِي " لما ذكر من فساد المعنى . الثالث : أن يكون معطوفاً على " إيمَانِهِمْ " لما تضمَّنه من الانحلال لجملة فعلية ؛ إذ التقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا ، وإلى هذا ذهب جماعة . قال الزمخشريُّ : أن يُعْطَف على ما في " إيمانهم " من معنى الفعل ؛ لأن معناه : بعد أن آمنوا ، كقوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] وقول الشاعر : [ الطويل ] @ 1534 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا @@ وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوِّغ العطف عليه في الجملة ، كذا يقول النحاة : جزم على التوهم أي لسقوط الفاء ؛ إذْ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض ، ولذا يقولون : توهَّم وجودَ الباء فَجَرَّ . وفي العبارة - بالنسبة إلى القرآن - سوء أدبٍ ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك . وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى ، كقوله : { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ الحديد : 18 ] . إذ هو في قوة : إن الذين تصدقوا وأقرضوا . وقال الواحدي : " عطف الفعل على المصدر ؛ لأنه أرادَ بالمصدر الفعلَ ، تقديره : كفروا بالله بعد أن آمنوا ، فهو عطف على المعنى ، كقوله : [ الوافر ] @ 1535 - لَلُبْسُ عَبَاءةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي أحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ @@ معناه : لأن ألبس عباءةً وتقرَّ عيني " . وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوَّل لأجل الثاني ، وهذا ليس بظاهر ؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فِعْلاً ، كقوله : { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ } لأن الموصول يطلب جملة فعلية ، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله ، وعطفنا عليه و " أقرضُوا " وأما " بعد إيمانهم " وقوله : " للبس عباءة " ، فليس الاسم محتاجاً إلى فِعل ، فالذي ينبغي هو أن نتأوَّل الثاني باسم ؛ ليصحَّ عطفه على الاسم الصريح قبله ، وتأويله بأن تأتي معه بـ " أن " المصدريَّة مقدَّرةً ، تَقْدِيرُهُ : بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم ، ولهذا تأول النحويون قوله : للُبْسُ عباءة وتقرَّ : وأن تَقَرَّ ، إذ التقدير : وقرة عيني ، وإلى هذا ذهب أبو البقاء ، فقال : " التقدير : بعد أن آمنوا وأن شهدوا ، فيكون في موضع جر ، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف " . وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا ، ويشهد لتقدير الزمخشريِّ ؛ فإنه قال : قوله " وَشَهِدُوا " منسوق على ما يُمْكن في التقدير ، وذلك أن قوله : " بعد إيمانهم " يمكن أن يكون : بعد أن آمنوا ، و " أن " الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر ، كقوله : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم } [ البقرة : 184 ] ، أي : والصوم . ومثله مما حُمِل فيه على المعنى قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل } [ الشورى : 51 ] فهو عطف على قوله : " إلا وحياً " ويمكن فيه : إلاَّ أن يُوحِيَ إليه ، فلما كان قوله : " إلا وحياً " بمعنى : إلا أن يُوحِي إليه ، حمله على ذلك . ومثله من الشعر : [ الطويل ] @ 1536 - فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ صَفِيفَ شواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ @@ خفض قوله : قدير ؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله : منضج ؛ لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف ، فحملَه على ذلك ، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريِّ بهذه الآيةِ الكريمةِ والبيت المتقدميْن ؛ لأنه جر " قدير " - هنا - على التوهُّم ، كأنه توهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله ؛ تخفيفاً ، فَجرَّ على التوهُّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله : ليسوا مصلحين ؛ لأنها كثيراً ما تزاد في خبر " ليس " . فإن قيل : إذا كان تقدير الآية : كيف يهدي اللهُ قوماً كفروا بعد الإيمانِ وبعد الشهادةِ بأن الرسول حق ، وبعد أن جاءَهم البيِّنات ، فعطف الشهادة بأن الرسول حَقٌّ يقتضي أنه مغاير للإيمان . فالجواب : أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والشهادة هي الإقرار باللسان ، فهما متغايران . وقوله : " أن الرسول " الجمهور على أنه وَصْف بمعنى المُرْسَل ، وقيل : هو بمعنى الرسالةِ ، فيكون مصدراً ، وقد تقدم . فصل في سبب النزول أقوالٌ : الأول : قال ابنُ عباسٍ : نزلت في عشرة رهط ، كانوا آمنوا ، ثم ارتدُّوا ، ولَحِقُوا بمكةَ ، ثم اخذوا يتربصون به ريب المنون ، فأنزل اللهُ فيهم هذه الآيةَ ، وكان منهم مَنْ آمن ، فاستثنى التائبَ منهم بقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } [ البقرة : 160 ] . الثاني : رُوِيَ - أيضاً - عن ابن عباسٍ أنها نزلت في يهود قُرَيْظَةَ والنضير ، ومن دان بدينهم ، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بَعْثه ، وكانوا يشهدون له بالنبوةِ ، فلما بُعثَ ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بَغياً وَحَسَداً . الثالث : نزلت في الحرث بن سُوَيْد الأنصاري حين ندم على رِدَّتِه ، فأرسل إلى قومه أن سَلُوا : هل لي من توبة ؟ فأرسل إليه أخوه بالآية ، فأقبل إلى المدينة ، وتاب ، وقبل الرسولُ صلى الله عليه وسلم توبته . قال القفال : للناس في هذه الآية قولان : منهم من قال : إنَّ قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِينا } [ آل عمران : 85 ] وما بعده إلى قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ } [ آل عمران : 90 ] نزل جميعه في قصة واحدة ، ومنهم من قال : ابتداء القصة من قوله " إلا الذين تابوا " إلى " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار " على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان : أحدهما : أنها في أهل الكتاب . والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام ، آمنوا ثم ارتدوا . فصل قالت المعتزلةُ : أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ ؛ بمعنى : التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف ، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً ، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل ، ثم ذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ؛ ثواباً لهم على إيمانهم ، كقوله : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وقوله : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] وقوله : { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَه } [ المائدة : 16 ] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى . الثاني : أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة ، قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّم } [ النساء : 168 - 169 ] وقال : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَار } [ يونس : 9 ] . والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه ؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله ؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً ، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً ، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر ، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم ، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر ، وكونهم فاعلين للكفر ، فإنه قال : { كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } ؟ فأضاف الكفر إليهم ، وذمَّهم عليه . وقال أهل السنة : المرادُ من الهداية خلق المعرفة ، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله ، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد ، فكأنه - تعالى - قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه ؟ فإن قيل : قال - في أول الآية - : { كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ } وقوله في آخرها : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } يقتضي التكرار . فالجواب : أن الأولَ مخصوص بالمرتد ، والثاني عمّ ذلك الحكم في المرتد والكافر الأصلي ، وسمي الكافر ظالماً ؛ لقوله : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والسبب فيه أن الكافر أوْرد نفسَه مواردَ البلاء والعقاب ؛ بسبب ذلك الكفر ، فكان ظالماً لنفسه . قال القرطبي : " فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أن مَنْ كفر بعد إسلامه لا يهديه اللهُ ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله ، وقد رأينا كثيراً من المرتدين أسلموا وهداهم اللهُ ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظُّلْم . فالجواب : أن معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كُفْرِهم وظُلْمهم ولا يُقبِلون على الإسلام ، فأما مَنْ أسلموا وتابوا فقد وَفَّقَهُمُ اللهُ لذلك " .