Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 8-8)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لمَّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون : " آمنا به " ، حكى أنهم يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون ؛ لدلالة الأول عليه ، كما في قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا } [ آل عمران : 191 ] . قال القرطبيُّ : ويجوز أن يكون المعنى : قل يا محمدُ . قوله : " لا تُزغْ " العامة على ضَمِّ حَرْف المضارعةِ ، من أزاغ يزيغ ، و " قُلُوبَنَا " مفعول به ، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح : " لا تَزغْ قُلُوبُنَا " - بفتح التاء ، ورفع " قُلُوبُنَا " ، وقرأ بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، وعلى القراءتين ، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه ، والتذكير والتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمع وتذكيره ، والنهي في اللفظ للقلوب ، وفي المعنى دعاء لله تعالى - أي : لا تزغ قلوبنا فتزيغ ، فهو من باب " لا أرَينَّكَ ههُنَا " . وقول النابغة : [ البسيط ] @ 1329 - لا أعرِفَن رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا … @@ قوله : { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ، " بَعْدَ " منصوب بـ " لا تُزِغْ " ، و " إذْ " هنا خرجت عن الظرفية ؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل ، وإذا خرجت عن الظرفيةِ ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها ، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكمِ ، ألا ترى إلى قوله { هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] و { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } [ الانفطار : 19 ] - قراءة من رفع " يومُ " في الموضعين - . وقول الآخر : [ الطويل ] @ 1330 - … عَلَى حِينِ الكِرَامُ قَلِيلُ @@ وقوله : [ الطويل ] @ 1331 - عَلى حِينِ مَنْ تَلْبَثْ عَلَيْهِ ذُنُوبهُ … @@ وقوله : [ الطويل ] @ 1332 - عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا … @@ وقوله : [ الطويل ] @ 1333 - أَلا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاء جَدِيدُ … @@ كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب بـ " لَيْت " ، ومع ذلك هي مضافةٌ للجمل التي بعدها . فصل هذه الآية تدل على أن الزيغَ والهداية خلق الله تعالى ، قال أهل السنة : ذلك لأن القلب صالح لأن يميلَ إلى الكفر ، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين ، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى . فإن كانت تلك الداعية [ داعية ] الكفر ، فهي الخذلان ، والإزاغة ، والصد ، والختم ، والرَّيْن ، والقسوة والوقر والكنان ، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن . وإن كانت تلك الداعيةُ داعيةَ الإيمان ، فهي التوفيق ، والإرشاد ، والهداية ، والتسديد ، والتثبيت ، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قَلْبُ المؤمن بَيْنَ أصبعينِ مِنْ أصابعِ الرَّحْمَنِ ، إنْ شَاءَ أقامه ، وإن شاء أزاغَهُ " والمرادُ من هذين الأصبعين الداعيتان ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القلوب والأبصار ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دينك " ومعناه ما ذكرنا ، وقال صلى الله عليه وسلم : " مَثَلُ الْقلبِ كَرِيشَةٍ بأرْضٍ فَلاَةٍ تُقلبُهَا الرِّياحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ " . وقالت المعتزلةُ : الزيغُ لا يجوز أن يكون بفعل الله ؛ لقوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وهذا صريح في أن ابتداء الزيغ منهم . والجوابُ : أن مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لُطْفاً ، وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته ، ولصار محتاجاً ، والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجةٍ إلى طلبه بالدعاء ؟ فإن قيل : فما الجواب عن قوله : { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ؟ قلنا : لا يبعد أن الله تعالى يُزيغهم ابتداء ، فعند ذلك يزيغون ، ثم يترتب على الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى ، ولا منافاةَ فيه . وقوله : { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ، أي : جعلتنا مهتدين ، وهذا صريحٌ أيضاً في أن حصولَ الاهتداءِ في القلب بتخليق اللهِ تعالى . قوله : { وَهَبْ لَنَا } الهِبَة : العَطِيَّة ، حذفت فاؤها ، وكان حق عين المضارع منها كسر العين منه ، إلا أن ذلك منعه كونُ العين حرفَ حَلْقٍ ، فالكسرة مقدَّرة ، فلذلك اعتبِرَت تلك الكسرةُ المقدرةُ فحذفت لها الواو وهذا نحو : " يضع " و " يسع " ، لكون اللام حرف حلقٍ ، ويكون " هَبْ " فعل أمر بمعنى اعتقد ، فيتعدى لمفعولين . كقوله : [ المتقارب ] @ 1334 - … وَإلاَّ فَهَبْنِي أمْرَأ هالِكا @@ وحينئذ لا يتصرف . ويقال أيضاً : وَهَبني الله فِداك ، أي : جعلني ، ولا يتصرف أيضاً عن الماضي بهذا المعنى . قوله : " مِنْ لَدُنْكَ " متعلق بـ " هَبْ " ، و " لَدُنْ " ظرف ، وهي لأول غاية زمان أو مكان ، أو غيرها من الذوات نحو : من لدن زيد ، فليست مرادفة لـِ " عِنْد " ، بل قد تكون بمعناها ، وبعضهم يقيدها بظرف المكانِ ، وتضاف لصريح الزمانِ . قال : [ الراجز ] @ 1335 - تنتَهِضُ الرِّعْدَةُ فِي ظُهَيْرِي مِن لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى الْعُصَيْرِ @@ ولا يُقْطع عن الإضافة بحال ، وأكثر ما تضاف إلى المفردات ، وقد تُضاف إلى " أنْ " وَصِلَتها ؛ لأنهما بتأويل مفردٍ . قال : [ الطويل ] @ 1336 - وُلِيتَ فَلَمْ تَقْطَعْ لَدُنْ أنْ وَلِيتَنَا قَرَابَةَ ذِي قُرْبَى وَلاَ حَقَّ مُسْلِمِ @@ أي : لدن ولايتك إيانا ، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية . كقوله : [ الطويل ] @ 1337 - وَتَذْكُرُ نُعْمَاهُ لَدُنْ أنْتَ يَافِعٌ إلَى أنْتَ ذُو فَؤْديْنِ أبيضَ كَالنَّسْرِ @@ وقد تُضَافُ للفعلية . كقوله : [ الطويل ] @ 1338 - لزمْنَا لَدُنْ سَالَمْتُمُونَا وِفَاقَكُمْ فَلاَ يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلاَفِ جُنُوحُ @@ وقال آخرُ : [ الطويل ] @ 1339 - صَرِيعُ غَوانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ @@ وفيها لغتان : الإعراب ، وهي لغة قَيْس ، وبها قَرَأ أبو بكر عن عاصم { مِنْ لَدُنِهِ } [ النساء : 40 ] - بجر النون - ، وقوله : [ الرجز ] @ 1340 - … مَنْ لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى العُصَيْرِ @@ ولا تخلو من " من " غالباً ، قاله ابنُ جني ، ومن غير الغالب ما تقدم من قوله : @ 1341 - … لَدُنْ أنت يافع … @@ وإن وقع بعدها لفظ " غدوة " خاصة - جاز نصبها ، ورفعها ، فالنصب على خبر " كان " أو التمييز والرفع على إضمار " كَانَ " التامة ، ولولا هذا التقدير لزم إفراد " لَدُن " عن الإضافة ، وقد تقدم أنه لا يجوز ، فمن نَصْب " غدوة " قوله : [ الطويل ] @ 1342 - فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ @@ واللغةُ المشهورةُ بناؤها ؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمالٍ واحدٍ ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف " عند " و " لدن " فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً ؛ إذ يكون فضلةً ، وعُمدةً ، وغايةً وغير غاية ، بخلاف " لَدُن " . وقال بعضهم : " علة بنائِها كونها دالة على الملاصقة ، ومختصةً بها ، بخلاف " عند " فإنها لا تدل على الملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضَع لذلك ، فلم يُوضَع ، كما قالوا في اسم الإشارةِ ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان بـ " لَدُنْ " المفتوحة اللام ، المضمومة الدال ، الواقع آخرُها نونٌ ، وأما بقية لغاتها فهي - فيها - مبنية عند جميع العرب ، وفيها عشر لغاتٍ : أشهرها الأولى ، ولدَن ، ولدِن - بفتح الدال وكسرها - ولَدْنِ ، ولُدنِ - بفتح اللام وضمها ، مع سكون الدالِ وكسر النونِ - ولُدْنَ - بالضم والسكون وفتح النون - ، ولَدْ ، ولُدْ - بفتح اللام وضمها مع سكون الدالِ ، ولَدُ - بفتح اللام وضم الدال ولت - بإبدال الدال تاءً ساكنةً ، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رَدُّ النون . قوله : { أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } " أنت " يحتمل أن يكون مبتدأ ، وأن يكون ضميرَ الفصل ، وأن يكون تأكيداً لاسم " إنَّ " . فصل اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يَجْعَل قلوبَهُم مائلةً إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم . وقال " رحمة " ؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيمَ إلا هو أكد ذلك بقوله : { مِن لَّدُنْكَ } تنبيهاً للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه . وقوله : { أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } كأن العبد يقول : إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ - حقير - بالنسبة إلى كمال كرمك ، وغاية جودِك ورحمتك ؛ فإنك أنت الوهاب .