Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 93-94)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحِلّ بمعنى : الحَلالَ ، وهو - في الأصل - مصدر لِـ " حَلَّ يَحِلُّ " ، كقولك : عز يعز عزًّا ، ثم يطلق على الأشخاص ، مبالغة ، ولذلك يَسْتَوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموعُ ، والمذكَّرُ والمؤنثُ ، كقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] ، وفي الحديث عن عائشة : " كُنْتُ أطيِّبُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لِحِلِّه ولِحَرَمِهِ " أي لإحلاله ولإحرامه ، وهو كالحرم واللبس - بمعنى : الحرام واللباس - وقال ابن عباس - في زمزم - : هي حِلٌّ وبِلٌّ . رواه سفيان بن عُيَيْنَة ، فسئل سفيان ، ما حِلّ ؟ فقال : محَلَّل . و " لِبَني " : متعلق بـ " حِلاًّ " . قوله : { إِلاَّ مَا حَرَّمَ } مستثنى من اسم " كَانَ " . وجوَّز أبو البقاء أن يكون مستثنًى من ضمير مستتر في " حِلاًّ " فقال لأنه استثناء من اسم " كَانَ " والعامل فيه : " كان " ، ويجوز أن يعمل فيه " حِلاًّ " ، ويكون فيه ضمير يكون الاستثناء منه ؛ لأن حِلاًّ وحلالاً في موضع اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح . وفي هذا الاستثناء قولان : أحدهما : أنه متَّصل ، والتقدير : إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه ، فحرم عليهم في التوراة ، فليس فيها ما زادوه من محرمات ، وادَّعَوْا صحةَ ذلك . والثاني : أنه مُنْقَطِع ، والتقدير : لكن حرم إسرائيلُ على نفسه خاصَّةً ، ولم يحرمه عليهم ، والأول هو الصحيح . قوله : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ } فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلق بـ " حَرَّم " أي : إلا ما حرَّم من قبل ، قاله أبو البقاء . قال أبو حيان : " ويبعد ذلك ؛ إذ هو من الإخبار بالواضح ؛ لأنه معلوم أن الذي حَرَّم إسرائيل على نفسه ، هو من قبل إنزال التوراة ضرورةً ؛ لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة " . والثاني : أنه يتعلق بقوله : { كَانَ حِـلاًّ } . قال أبو حيان : " ويظهر أنه متعلّق بقوله : { كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } ، أي : من قبل أن تُنَزًّل التوراة ، وفصل بالاستثناء ؛ إذْ هو فَصْل جائز ، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن ، في جواز أن يعمل ما قبل " إلا " فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً - نحو ما جلس إلا زيد عندك ، ما أوَى إلا عمرو إليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكاً . وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقاً ، نحو ما ضرب إلا زيدٌ عمراً ؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع ، نحو ما ضرب إلا زيداً عمرو ، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن ، فَيُقدَّر له عامل من جنس ما قبله ، تقديره - هنا - حِل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة " . وقرئ : { تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ } بتخفيف الزاي وتشديدها ، وكلاهما بمعنى واحد ، وهذا يرد قولَ من قال بأن " تنَزَّل " - بالتشديد - يدل على أنه نزل مُنَجَّماً ؛ لأن التوراة إنَّما نزلت دُفْعَةً واحدة بإجماع المفسرين . فصل لما تقدمت الآيات الدالة ُعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والإلزامات الواردة على أهل الكتاب ، بين في هذه الآية الجوابَ عن شُبُهاتهم ، وهي تحتمل وجوهاً : روي أن اليهود كانوا يُعَوِّلُونَ في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ ، فأبطل الله - تعالى - عليهم ذلك بأن كل الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً ، ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده ، فحصل النسخُ ، وبطل قولكم : النسخ غير جائز ، فلما توجَّه على اليهود هذا السؤالُ أنكروا أن تكون حرمةُ ذلك الطعام الذي حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه ، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من زمان آدم إلى زمانهم ، فعند هذا طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم أن يُحْضِروا التوراةَ ؛ فإن التوراةَ ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه ، فخافوا من الفضيحة ، وامتنعوا من إحضار التوراة ، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تُقَوِّي القولَ بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم . منها : أن النسخ قد ثبت لا محيصَ عنه ، وهم يُنْكِرُونه . ومنها : ظهور كذبهم للناس ، فيما نسبوه إلى التوراة . ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم كان أمِّيًّا ، لا يقرأ ولا يكتب ، فدل على أنه لم يعرفُ هذه المسألةَ الغامضةَ إلا بوحي من الله تعالى . الوجه الثاني : أن اليهود قالوا له : إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانَها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم ، فلست أنت على ملة إبراهيم ، فجعلوا ذلك شبهةً طاعِنةً في صحة دعواه ، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشبهة , وقال : إن ذلك كان حلالاً لإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاق ويعقوبَ ، إلا أن يعقوبَ حرَّمه على نفسه ، لسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحُرْمَةُ في أولاده ، فأنكر اليهودُ ذلك ، وقالوا : ما نحرمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيمَ حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراةِ ، وطالَبَهُمْ بأن يستخرجوا منها آيةً تدل على أن لحومَ الإبل وألبانَها كانت محرمةً على إبراهيم ، فعجزوا عن ذلك ، وافتضحوا ، فظهر كذبُهم . الوجه الثالث : أنه - تعالى - لما أنزل قوله : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] ، قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] فدل ذلك على أنه إنما حرم على اليهود هذه الأشياء - جزاءً لهم على بَغيهم - وأنه لم يكن شيء من الطعام حراماً ، غير الذي حرم إسرائيل على نفسه ، فشقَّ ذلك على اليهود من وجهين : أحدهما : أن ذلك يدل على تحريم هذه الأشياءِ بعد الإباحة ، وذلك يقتضي النسخ ، وهم ينكرونه . والثاني : أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال ، فلما شَقَّ ذلك عليهم من هذين الوجهين ، أنكروا كَوْنَ حُرْمَةِ هذه الأشياء متجدِّدَةً ، وزعموا أنها كانت مُحَرَّمَةً أبداً ، فطالبهم النبيُّ بآية من التوراة تدل على صِحَّةِ قولِهم فعجزوا وافتضحوا فهذا وجه النظم وسبب النزول . فصل قال الزمخشري : " كُلُّ الطَّعَامِ " كل المطعومات ، أو كل أنواع الطعام . واختلف الناس في اللفظ المفرد المحلَّى بالألف واللام ، هل يفيد العموم أم لا ؟ فذهب قوم إلى أنه يفيده لوجوه : الأول : أنه - تعالى - أدْخل لفظ " كُلّ " على لفظ " الطَّعَامِ " فلولا أن لفظ " الطَّعَامِ " قائم مقام المطعومات ، وإلا لما جاز ذلك . والثاني : أنه استثنى ما حرم إسرائيلُ على نفسه ، والاستثناء يُخْرِج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ : " الطَّعَام " ، وإلا لم يَصِحْ الاستثناء ويؤيده قوله تعالى : { وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ العصر : 1 - 3 ] . الثالث : أنه - تعالى - وصف هذا اللفظ المفرد بما يُوصف به لفظ الجمع ، فقال { وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] ، فعلى هذا لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشريُّ . ومن قال : إنه لا يفيد العمومَ ، يحتاج إلى الإضمار . فصل الطعام : اسم لكل ما يُؤكَل ويُطْعَم . وزعم بعض الحنفيَّة : أنه اسم للبُرِّ خاصَّةً ، وهذه الآية حُجَّة عليهم ؛ لأنه استثنى من لفظ " الطَّعَامِ " : ما حرم إسرائيل على نفسه ، وأجمع المفسرون على أن ذلك الذي حرَّمه على نفسه كان غير الحنطة وما يُتَّخَذ منها ، ويؤكد ذلك قوله - في صفة الماء - : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ } [ البقرة : 249 ] ، وقوله : { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } [ المائدة : 5 ] ، وأراد الذبائح ، وقالت عائشة : " مَا لَنَا طَعَامٌ إلاَّ الأسودان " والمراد : التمر والماء . فصل في المراد بالذي حرم إسرائيل على نفسه اختلفوا في الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه وفي سببه : قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبيُّ : روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ يعقوبَ مَرِضَ مَرَضاً شديداً ، فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ ليُحَرِّمَنَّ أحَبَّ الطعامِ والشَّرَابِ إلَيْهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لُحْمَانَ الإبلِ وألبانها " . قال ابن عباس ومجاهد وقتادةُ والسُّدِّيُّ والضَّحَّاكُ : هي العروق ، وكان السبب فيه ، أنه اشتكى عرق النسا ، وكان أصل وجعه - فيما روى جويبر ومقاتلٌ عن الضحاك - أن يعقوب كان قد نذر إن وهبه الله اثْنَي عشر وَلداً ، وأتَى بيتَ المقدس صحيحاً ، أن يذبح آخرَهم ، فتلقاه ملَكٌ من الملائكة ، فقال : يا يعقوبُ ، إنك رجل قويٌّ ، فهل لك في الصِّراع ؟ فصارعه فلم يصرع واحدٌ منهما صاحبه ، فغمزه الملك غمزةً ، فعرض له عرق النسا من ذلك ، ثم قال له الملك : أما إني لو شئتُ أن أصرعك لفعلت ، ولكن غمزتك هذه الغمزة ؛ [ لأنك كنتَ نذرتَ إن أتيتَ بيتَ المقدس صحيحاً أن تذبح آخر ولدِك ، فجعل الله له بهذه الغمزة ] مخرجاً ، فلما قدم يعقوب بيت المقدسِ أراد ذَبْحَ ولده ، ونَسِي قولَ المَلَك ، فأتاه الملك ، وقال : إنما غمزتم للمخرج ، وقد وفى نذرك ، فلا سبيل لك إلى ولدِك . وقال عباسٍ ومُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ والسُّدِّيُّ : أقبل يعقوب من : " حَرَّان " يريد بيت المقدس ، حين هرب من أخيه عيصو ، وكان رجلاً بطيشاً ، قويًّا ، فلقيه ملك ، فظنَّ يعقوب أنه لِصّ ، فعالجه ليصرعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه ، فغمز الملك فَخْذَ يعقوب ، ثم صعد إلى السماء ، ويعقوب ينظر إليه ، فهاج به عرق النسا ، ولقي من ذلك بلاءً وشِدَّةً ، وكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء : أي صياح ، فحلف لئن شفاه الله أن لا يأكل عِرْقاً ولا طعاماً فيه عِرْق ، فحرَّمه على نفسه ، فكان بنوه - بعد ذلك - يَتَّبعون العروق ، ويخرجونها من اللحم . وروى جبير عن الضحاك عن ابن عباس : لما أصاب يعقوبَ عرقُ النسا ، وصف له الأطباء أن يجتنب لُحْمانَ الإبل ، فحرَّمها يعقوب على نفسه . وقال الحسن : حرَّم يعقوب على نفسه لحم الجزور ، تعبُّداً لله تعالى ، فسأل ربه أن يُجِيز له ذلك ، ومنعها الله على وَلَدِهِ . فإن قيل : التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله - تعالى - وظاهر الآية يدل على أن إسرائيلَ حرم ذلك على نفسه ، فكيف صار ذلك سَبَباً لحصول الحُرْمَة ؟ فالجواب من وجوه : الأول : أنه لا يبعد أن الإنسانَ إذا حرَّم شيئاً على نفسه ، فإن الله يُحَرِّمُه عليه كما أن الإنسانَ يحرم امرأته بالطلاق ، ويحرم جاريته بالعِتْق ، فكذلك يجوز أن يقول الله تعالى : إن حرَّمْتَ شيئاً على نفسك فأنا - أيضاً - أحَرِّمُه عليك . الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم ربما اجتهد ، فأدَّى اجتهاده إلى التحريم ، فقال بتحريمه ، والاجتهاد جائز من الأنبياء ؛ لعموم قوله : { فَٱعْتَبِرُواْ يَٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] ، ولقوله : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } [ النساء : 83 ] ، ولقوله - لمحمد صلى الله عليه وسلم - : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، فدل على أنه كان بالاجتهاد . وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } يدل على أنه إنما حرَّمه على نفسه بالاجتهاد ؛ إذْ لو كان بالنصِّ لقال : إلاَّ ما حرَّمه الله على إسرائيل . الثالث : يُحْتَمَل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا ، فكما يجب علينا الوفاءُ بالنذر - وهو بإيجاب العبد على نفسه - كان يجب في شرعه الوفاءُ بالتحريم . الرابع : قال الأصم : لعل نفسه كانت مائلةً إلى تلك الانواع كُلِّها ، فامتنع من أكلها ؛ قَهْراً للنَّفْس ، وطَلَباً لمرضاة الله ، كما يفعله كثير من الزُّهَّادِ . فصل ترجم ابنُ ماجه في سننه " دواء عرقِ النساء " وروى بسنده عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " شِفاءُ عِرْقِ النِّسَا ألْيَةُ شَاةٍ ، [ أعرابية ] تُذابُ ، ثُمَّ تُجَزَّأ ثَلاثَةَ أجْزَاءٍ ، ثُمَّ تُشْرَبُ عَلَى الرِّيق في كُلِّ يَوْمٍ جُزْءًا " . وفي رواية عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في عرق النسا - : " تُؤخَذُ ألْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ - لا صَغِيرٍ وَلاَ كَبِيرٍ - فَتُقَطَّع صِغَاراً ، فتُخْرَجُ إهَالتُه ، فتقسَّم ثلاثة أقسام ، قِسْمٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ " قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة ، فبرئوا - بإذن الله عز وجل - ، وروى شعبة قال : حدثني شيخ - في زمن الحجَّاج بن يوسف - في عرق النسا ، يمسح على ذلك الموضع ، ويقول أقسم لك بالله الأعلى ، لئن لم تَنْتَهِ لأكوَينَّك بنارٍ ، أو لأحْلِقَنَّكَ بمُوسى . قال شعبة : قد جرَّبته ، لقوله : وتمسح على ذلك الموضع . فصل دلّت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء ؛ ولأنه إذا شُرع الاجتهاد لغيرهم ، فهم أولى ؛ لأنهم أكمل من غيرهم ، ومنع بعضُهم ذلك ؛ لأنهم متمكنون من الوحي ، وقال تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [ التحريم : 1 ] . فصل ظاهر الآية يدل على أنَّ الذي حرمه إسرائيل على نفسه ، قد حرَّمه الله على بني إسرائيلَ ؛ لقوله تعالى : { كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } ، فحكم بحلِّ كل أنواع المطعومات لبني إسرائيلَ ، ثم استثنى منها ما حرمه إسرائيلُ على نفسه ، فوجب - بحكم الاستثناء - أن يكون ذلك حراماً عليهم . فصل ومعنى قوله : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ } أي : قبل نزول التوراة كان حلاًّ لبني إسرائيل كلُّ المطعومات سوى ما حرمه إسرائيلُ على نفسه ، أما بعد نزول التوراة ، فلم يَبْقَ كذلك بل حرم الله - تعالى - عليهم أنواعاً كثيرة . وقال السدي : حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يُحَرِّمونه قبل نزولها . قال ابن عطية : إنما كان مُحَرَّماً عليهم بتحريم إسرائيل ؛ فإنه كان قد قال : إن عافاني الله لا يأكله لي ولد ، ولم يكن محرَّماً عليهم في التوراة . وقال الكلبي : لم يُحَرِّمه الله عليهم في التوراة ، وإنما حُرِّم عليهم بعد التوراة بظُلْمهم ، كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، وقال : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم ، حرَّم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام ، أو سلط عليهم سبباً لهلاك أو مَضَرَّةٍ . وقال الضحاكُ : لم يكن شيئاً من ذلك مُحَرَّماً عليهم ، ولا حَرَّمه الله في التوراة ، وإنما حرموه على أنفسهم ؛ اتباعاً لأبيهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله - عز وجل - فكذبهم الله ، فقال : " قُلْ " : يا محمد { فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا } حتى يتبين أنه كما قلتم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، فلم يأتوا بها ، فقال - الله عز وجل - : { فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } ، " مَنْ " يجوز أن تكون شرطيَّةً ، أو موصولة ، وحمل على لفظها في قوله : " افْتَرَى " فوحَّد الضمير ، وعلى معناها فجمع في قوله : { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } ، والافتراء مأخوذ من الفَرْي ، وهو القطع ، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه . وقوله : { مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد ظهور الحجة ، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } المستحقون لعذاب الله . قوله : { مِنْ بَعْدِ } فيه وجهان : أحدهما : - وهو الظاهر - : أن يتعلق بـ " افْتَرَى " . الثاني : قال أبو البقاء : يجوز أن يتعلق بالكذب ، يعني : الكذب الواقع من بعد ذلك . وفي المشار إليه ثلاثة أوجه : أحدها : استقرار التحريم المذكور في التوراةِ عليهم ؛ إذ المعنى : إلا ما حرم إسرائيلُ على نفسه ، ثم حرم في التوراة ؛ عقوبةً لهم . الثاني : التلاوة ، وجاز تذكير اسم الإشارة ؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم . الثالث : الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه ، وهذه الجملة - أعني : قوله : { فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } - يجوز أن تكون استئنافيةً ، فلا محل لها من الإعراب ، ويجوز أن تكون منصوبة المحل ؛ نسقاً على قوله : { فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ } ، فتندرج في المقول .