Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 96-97)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه : الأول : أن المرادَ منه : الجواب عن شبهةٍ أخْرَى من شُبَهِ اليهود في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لمَّا حُوِّل إلى الكعبةِ ، طَعَنَ اليهودُ في نبوَّتِهِ ، وقالوا : إنَّ بيتَ المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ؛ لأنه وُضِع قبل الكعبة ، وهو أرضُ المحشَر ، وقبلةُ جُملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك فتحويل القبلةِ منه إلى الكعبة باطل ، وأجابهم الله بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } هو الكعبة ، فكان جَعْلُه قِبْلَةً أوْلَى . الثاني : أن المقصود من الآيةِ المتقدمةِ بيان النسخ ، هل يجوز أم لا ؟ واستدلَّ - عليه السلام - على جوازه ، بأن الأطعمة كانت مُباحةً لبني إسرائيلَ ، ثم إن الله تعالى حرَّم بعضَها ، والقوم نازعوه فيه ، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخه هو القبلة ، فذكر الله - في هذه الآيات - بيان ما لأجله حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة ، وهو كَوْنُ الكعبة أفضلَ من غيرها . الثالث : أنه - تعالى - لما قال في الآية المتقدمةِ : { فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 95 ] ، وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيمَ الحَجُّ - ذكر في هذه الآية فضل البيت ؛ ليُفَرِّعَ عليه إيجابَ الحَجِّ . الرابع : أنه لما تقدَّم مناظرة اليهود والنصارى ، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم ، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حَجَّ الكعبةِ كان ملةَ إبراهيمَ ، وهم لا يَحُجُّون ، فدل ذلك على كذِبهم . قوله : { وُضِعَ لِلنَّاسِ } هذه الجملة في موضع خفض ؛ صفة لـ " بَيْتٍ " . وقرأ العامة " وُضِعَ " مبنيًّا للمفعول . وعكرمة وابن السميفع " وضَعَ " مبنيًّا للفاعل . وفي فاعله قولان : أحدهما : - وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم ؛ لتقدُّم ذِكْرِه ؛ ولأنه مشهور بعمارته . والثاني : أنه ضمير الباري تعالى ، و " لِلنَّاسٍ " متعلق بالفعل قبله ، واللام فيه للعلة . و " للذي " بِبَكَّة " خبر " إنَّ " وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة - وهو " أول بَيْتٍ " - لتخصيص النكرة بشيئين : الإضافة ، والوصف بالجملة بعده ، وهو جائز في باب " إن " ، ومن عبارة سيبويه : إن قريباً منك زيدٌ ، لما تخصص " قريباً " بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه ، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً لـ " إنَّ " ، وقد جاءت النكرة اسماً لـ " إنَّ " - وإن لم يكن تخصيص - كقوله : [ الطويل ] @ 1538 - وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ @@ وببكة صلة ، و الباء فيه ظرفية ، أي : في مكة . وبكة فيها أربعة أوجه : أحدها : أنها مرادفة لـ " مكة " فأبدلت ميمها باءً ، قالوا : والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع ، قالوا : هذا على ضربة لازم ، ولازب ، وهذا أمر راتب ، وراتم ، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها ، وأغبطت الحمى ، وأغمطت . وقيل : إنها اسم لبطن مكة ، ومكة اسم لكل البلد . وقيل : إنها اسم لمكان البيت . وقيل : إنها اسم للمسجد نفسه ، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو : الازدحام إنما يحصل عند الطواف ، يقال : تباكَّ الناسُ - أي : ازْدَحموا ، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفاً لنفسه ، كذا قال بعضهم ، وهو فاسد ، لأن البيت في المسجد حقيقةً . وقال الأكثرون : بكة : اسم للمسجد والمطاف ، ومكة : اسم البلد ، لقوله تعالى : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فدل على أن البيت مظروف في بكة ، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكةَ ظرفاً له . وسميت بكة ؛ لازدحام الناس ، قاله مجاهد وقتادة ، وهو قول محمد بن علي الباقر . وقال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي ، فمرت امرأة بين يديه ، فذهبت أدْفَعها ، فقال : دعها ، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ، ولا بأس بذلك هنا . وقيل : لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة - أي : تدقها . قال قطرب : تقول العرب : بَكَكْتهُ ، أبُكُّهُ ، بَكًّا ، إذا وضعت منه . وسميت مكة - من قولهم : مَكَكْتُ المخ من العظم ، إذا استقصيته ولم تترك فيه شيئاً . ومنه : مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه - إذا لم يترك فيه لبناً ، ورُويَ أنه قال : " لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ " . وقيل : لأنها تَمُكُّ الذنوبَ ، أي : تُزيلها كلَّها . قال ابن الأنباري : وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها ، وقلة خِصْبها ، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم ، إذا لم تترك فيه شيئاً . وقيل : لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ ، أي : استقصاه بالهلاك . وقيل : سُمِّيت بذلك ؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض ، كما يقال : امتكّ الفصيلُ - إذا استقصى ما في الضَّرْع . وقال الخليل : لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم . وقيل : لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة ، فالأرض كلها تمك من ماء مكة ، والمكوك : كأس يشرب به ، ويُكال به - كـ " الصُّوَاع " . قال القفال : لها أسماء كثيرة ، مكة ، وبكة ، وأمّ رُحْم ، - بضم الراء وإسكان الحاء - قال مجاهد : لأن الناس يتراحمون فيها ، ويتوادَعُون - والباسَّة ؛ قال الماوَرْدِي : لأنها تبس من ألْحَد فيها ، أي : تُحَطِّمه وتُهْلكه ، قال تعالى : { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] . ويروى : الناسَّة - بالنون - قال صاحبُ المطالع : ويقال : الناسَّة - بالنون - . قال الماوَرْدِيُّ : لأنها تنس من ألحد فيها - أي : تطرده وتَنْفِيه . ونقل الجوهري - عن الأصمعي - : النَّسّ : اليبس ، يُقال : جاءنا بخُبْزَة ناسَّة ، ومنه قيل لمكةَ : الناسَّة ؛ لقلة مائها . والرأس ، والعرش ، والقادس ، و المقدَّسة - من التقديس - وصَلاَحِ - بفتح الصاد وكسر الحاء - مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ ، والبلد ، والحاطمة ؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها ، وأم القرى ؛ لأنها أصل كل بلدة ، ومنها دحيت الأرض ، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض . فصل الأوَّلُ : هو الفرد السابق ، فإذا قال : أوَّلُ عبد أشتريه فهو حُرّ ، فلو اشترى عبدَيْن في المرة الأولى لم يُعْتَقْ واحدٌ منهما ؛ لأن الأول هو الفرد ، ثم لو اشترى بعد ذلك ما شاء لم يعتق ؛ لأن شرط الأوَّليَّة قد عُدِمَ . إذا عُرِفَ هذا ، فقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } لا يدل على أنه أوَّلُ بَيْتٍ خلقه الله تعالى ، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض ، بل يدل على أنه أول بيت وُضِعَ للناس ، فكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس ، وكونه مشتركاً فيه بين كل الناس ، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعاً للطاعات ، وقِبْلَةً للخلق ، فدلَّت الآية على أن هذا البيت وَضَعه الله - تعالى - للطاعات والعبادات ، فيدخل فيه كونه قِبْلَةً للصلوات ، وموضِعاً للحجِّ . فإن قيل : كونه أولاً في هذا الوَصْف يقتضي أن يكون له ثانٍ ، فهذا يقتضي أن يكون بيتُ المقدس يشاركه في هذا الصفات ، التي منها وجوبُ حَجِّه ، ومعلوم أنه ليس كذلك . فالجواب من وجهين : الأول : أن لفظ " الأوًّل " - في اللغة - اسم للشيء الذي يُوجَد ابتداءً ، سواء حصل بعده شيء آخرُ ، أو لم يحصل ، يقال : هذا أول قدومي مكة ، وهذا أول مال أصَبْتُه ، ولو قال : أول عبدٍ أملكه فهو حُرٌّ ، فملك عبداً عُتِق - وإن لم يملك بعده آخر - فكذا هنا . الثاني : أن المراد منه : أول بيت وُضِع لطاعات الناس وعباداتهم ، وبيت المقدس يُشاركه في كونه موضوعاً للطاعاتِ والعباداتِ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : المَسْجِد الْحَرَامِ ، والمسْجِدِ الأقْصَى ، ومَسْجِدِي هَذَا " ، وهذا القدر يكفي في صدق كَوْنِ الكعبةِ أول بيتٍ وضع للناس ، فأما أن يكون بيتُ المقدسِ مشاركاً له في جميع الأمور ، حتى في وجوبِ الحَجِّ ، فهذا غير لازم . فصل قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ } يحتمل أن يكون المراد : أنه أول في الموضع والبناء ، وأن يكون أولاً في كونه مباركاً وهُدًى ، وفيه قولان للمفسرين . فعلى الأول فيه أقوال : أحدها : روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال : خلق الله البيت قبل أن يخلقَ شيئاً من الأرضين . وفي رواية : " خَلَقَ اللهُ مَوْضِعَ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ أنْ يَخْلُق شَيْئاً مِنَ الأرضِينَ بِألْفي سَنَةٍ ، وَإنَّ قَوَاعِدَه لَفِي الأرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى " . وروى النووي - في مناسكه - عن الأزْرَقِي - في كتاب مكة - عن مجاهد قال : إن هذا البيتَ أحد أربعة عشر بيتاً ، في كل سماء بيتٌ ، وفي كل أرض بيت ، بعضهن مقابل بعض . وروى أيضاً عن علي بن الحُسَيْن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - عن النبي صلى الله عليه وسلم - عن الله - تعالى - قال : " إنَّ اللهَ بَعَثَ مَلاَئكةً ، فَقَالَ : ابْنُوا لِي فِي الأرْضِ بَيْتاً عَلَى مِثَالِ البَيْتِ المَعْمُورِ ، فبنوا له بيتاً على مثالِه ، واسْمُه الضُّرَاح ، وَأمَرَ اللهُ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ - الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الأرْضِ - أنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ المَعْمُورِ وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِألفَيْ عَامٍ وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ ، فَلَمَّا حَجَّه آدَمُ ، قَالَتِ المَلاَئِكَةُ : بَرَّ حَجُّك ، حَجَجْنَا هَذَا البَيْتَ قَبْلَكَ بِألْفَي عَامٍ " ورُوِي عن عبد الله بن عمر ومجاهد و السُّدِّيّ : أنه أول بيت وُضِعَ على وجه الماء ، عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله قبل خلق الأرض بألفي عام ، وكان زَبَدَةً بيضاء على الماء ، ثم دُحِيَت الأرض من تحته . قال القفال في تفسيره : روى حَبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس ، قال ، وُجِدَ في كتاب - في المقام ، أو تحت المقام - أنا الله ، ذو بكَّةَ ، وضعتُها يومَ وضعتُ الشمسَ والقمرَ ، وحرَّمْتُها يوم وَضَعْتُ هذين الحجرَيْن وحفَفْتُها بسبعة أملاك حُنَفَاء . روي : أن آدم لما أهْبِط إلى الأرض شكا الوحشةَ ، فأمره الله - تعالى - ببناء الكعبةِ ، وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أرسلَ اللهُ الطوفانَ ، رفع البيت إلى السماء السابعة - حيال الكعبة - تتعبد عنده الملائكة ، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف مَلَك ، سوى مَنْ دخل قبلُ فيه ، ثم بعد الطوفان اندرس موضعُ الكعبةِ ، وبقي مُخْتَفِياً إلى أن بعث الله جبريلَ إلى إبراهيم ، ودلَّه على مكان البيت ، وأمره بعمارته . قال القاضي : القول بأنه رُفِع - زمانَ الطوفان - إلى السماء بعيد ؛ لأن موضِعَ التشريف هو تلك الجهة المعينة ، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ، ألا ترى أن الكعبة لو انهدمت - والعياذ بالله - ونُقِلت الحجارة بعد الانهدام ، ويجب على كل مسلم أن يُصَلِّيَ إلى تلك الجهةِ بعينها ، وإذا كان كذلك ، فلا فائدة في رفع تلك الجدرانِ إلى السماء . انتهى . فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة ، كانت موجودةً في زمان آدم - عليه السلام - ويؤيده أن الصلوات كانت لازمةً في جميع أديان الأنبياء ، لقوله : { أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] . ولما كانوا يسجدون لله ، فالسجود لا بد له من قِبْلَةٍ ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } ، فدلَّ ذلك على أن قبلةَ أولئك الأنبياء هي الكعبةُ . القول الثاني : أنَّ المرادَ بالأوليَّةِ : كونه مباركاً وهدًى ، قالوا : لأنه " رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن أول مسجد وُضِعَ للنَّاس ، فقال : المَسْجِدُ الحَرَامُ ، ثُمَّ بَيْتُ المَقْدسِ ، فَقِيلَ : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قال : أرْبَعُونَ سَنَةً ، وأينما أدْرَكَتْك الصلاةُ فَصَلِّ فهو مسجدٌ " . وعن علي : أن رجلاً قال له : هو أول بيتٍ ؟ قال : لا ، كان قبلَه بيوتٌ ، أول بيت وُضِعَ للناس ، مباركاً ، فيه الهُدَى والرحمةُ والبركةُ ، أول مَنْ بناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جُرْهُم ، ثم هُدِم ، فبنته العمالقةُ ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش . ودلالة الآية على الأولية في الشرف أمر لا بد منه ؛ لأن المقصود الأصلي من هذه الأولية ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأوليةِ في الفضيلةِ والشرفِ ، ولا تأثيرَ للأوليَّة في البناء في هذا المقصودِ ، إلا أن ثبوتَ الأوليةِ بسبب الفضيلةِ لا ينافي ثبوتَ الأولية في البناء . فصل في بيان فضيلته اتفقتِ الأمَمُ على أن باني هذا البيت هو الخليل - عليه السلام - وباني بيت المقدس سليمان - عليه السلام - فمن هذا الوجه ، تكون الكعبة أشرف ، فكان الآمر بالعمارة هو الله ، والمبلغُ والمهندسُ جبريل ، والبانِي هو الخليلَ ، والتلميذُ المُعِينُ هو إسماعيل ؛ فلهذا قيل : ليس في العالم بِنَاءٌ أشرف من الكعبة . وأيضاً مقام إبراهيم ، وهو الحَجَر الذي وَضَع إبراهيمُ قدمه عليه ، فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم من ذلك الحجر - دون سائر أجزائه - كالطين ، حتى غاصَ فيه قدمُ إبراهيم من ذلك الحَجَر ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ، ولا يُظْهِره إلا على الأنبياء ، ثم لمَّا رفع إبراهيمُ قدمه عنه ، خلق اللهُ فيه الصلابة الحجريَّةَ مرةً أخرى ، ثم إنه أبْقَى ذلك الحجرَ على سبيل الاستمرار والدوام ، فهذه أنواع من الآيات العجيبة ، والمعجزات الباهرةِ . وأيضاً قلّة ما يجتمع من حَصَى الجمار فيه ، فإنه منذ آلاف السنين ، وقد يبلغ من يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاةً ، ثم لا يُرَى هناك إلا ما لو اجتمع في سنةٍ واحدةٍ لكان غير كثير ، وليس الموضع الذي تُرْمَى إليه الجمرات مَسِيل ماء ، ولا مَهَبَّ رِياحٍ شديدةٍ ، وقد جاء في الأثر : أن مَنْ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ رُفِعَتْ جَمَرَاتُهُ إلى السَّمَاءِ . وأيضاً فإن الطيور لا تمر فوقَ الكعبةِ عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنه إذا وصلت إلى ما فوقه . وأيضاً فالوحوش إذا اجتمعت عنده لا يُؤذي بعضُهم بعضاً - كالكلاب والظباء - ولا يصطاد فيه الظباءَ الكلاب والوحوشُ ، وتلك خاصِّيَّةٌ عظيمةٌ ، ومن سكن مكة أمِن من النهب والغارة ، بدعاء إبراهيمَ وقوله : { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وقال : { رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 - 4 ] . وأيضاً فالأشرم - صاحب الفيل - لما قاد الجيوش والفيل إلى الكعبة ، وعجز قريش عن مقاومته ، وفارقوا مكةَ وتركوا له الكعبة ، فأرسلَ الله - تعالى - عليهم طيراً أبابيلَ ، ترميهم بحجارةٍ ، والأبابيل : هم الجماعة من الطير بعد الجماعة ، وكانت صِغَاراً ، تحمل أحجاراً ترميهم بها ، فهلك الملك والعسكر بتلك الأحجار - مع أنها كانت في غاية الصغَر - وهذه آيةٌ باهرةٌ دالةٌ على شرف الكعبة . فإن قيل : ما الحكمة في أن الله - تعالى - وَضَعَها بوادٍ غيرِ ذِي زرع ؟ فالجواب من وجوه : أحدها : أنه - تعالى - قطع بذلك رجاءَ أهل حَرَمه وسَدَنَةِ بيته عَمَّنْ سواه ، حتى لا يتكلوا إلا على الله تعالى . وثانيها : أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة ، فإنهم يُحبُّونَ طيبات الدنيا ، فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضِعَ ، والمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا . وثالثها : أنه فعل ذلك ؛ لئلا يقصدها أحدٌ للتجارة ، بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة . ورابعها : أن الله - تعالى - أظهر بذلك شَرَف الفَقْر ، حيث وَضَعَ أشرف البيوت ، في أقل المواضع نصيباً من الدنيا ، فكأنه قال : جعلت أهل الفقر في الدنيا أهل البلد الأمينَ ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين ، لهم في الدنيا بيتُ الأمْن ، وفي الآخرة دارُ الأمْن . فصل وللكعبة أسماء كثيرة : أحدها : الكعبة ، قال تعالى : { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] ، وهذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً ؛ لإشرافه على الرسغ ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثدييها ، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض ، وأقدمها زماناً ، سُمي بهذا الاسم . وثانيها : البيت العتيق ، قال تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] وسُمي العتيقَ ؛ لأنه أقدم بيوت الأرض . وقيل : لأنه خُلِق قبل الأرض والسماء ؛ وقيل : لأن الله - تعالى - أعْتَقَه من الغَرَق . وقيل : لأن كُلَّ من قَصَد تخريبه أهلكه الله - مأخوذ من قولهم : عتق الطائر - إذا قَوِي في وَكْرِه . وقيل : لأن كل من زَارَه أعتقه اللهُ من النار . وثالثها : المسجد الحرام ، قال تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا } [ الإسراء : 1 ] وسُمِّيَ بذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته - يوم فتح مكة - : " ألاَ إنَّ اللهَ حرَّم مكّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ، لا يُعْضَد شَجَرُها ولا يختلى خلاؤها ، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلا لمُنْشِدها " . فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، وقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 96 ] فهناك أضافه إلى نفسه ، وهنا أسندَه إلى الناس ؟ فالجواب : كأنه قال : البيت لي ، ولكن وضعته ليكون قبلة للناس . قوله : { مُبَارَكاً وَهُدًى } حالان ، إما من الضمير في " وُضِعَ " كذا أعربه أبو البقاء وغيره ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه يلزم الفصل بين الحال بأجنبيّ - وهو خبر " إنَّ " - وذلك غير جائز ؛ لأن الخبر معمول لـ " إنَّ " فإن أضمرت عاملاً بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : أول بيت وُضِعَ للناس للذي ببكة وُضِعَ مباركاً ، والذي حمل على ذلك ما يُعْطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضِعَ أولاً بقيد هذه الحال . وإما أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في " بِبَكَّةَ " أي استقر ببكة في حال بركته ، وهو وجه ظاهر الجواز . والظاهر أن قوله : " وَهُدًى " معطوف على " مُبَارَكاً " والمعطوف على الحال حال . وجوز بعضهم أن يكونَ مرفوعاً ، على أنه خبر مبتدأ محذوف - أي : وهو هدى - ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار . والبركة : الزيادة ، يقال : بارك الله لك ، أي : زادك خيراً ، وهو مُتَعَدٍّ ، ويدل عليه قوله تعالى : { أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] و " تبارك " لا يتَصَرف ، ولا يُستعمل إلا مُسْنداً لله تعالى ، ومعناه - في حقه تعالى - : تزايد خيرُه وإحسانه . وقيل : البركة ثبوت الخير ، مأخوذ من مَبْرَك البعير . وإما من الضمير المستكن في الجار وهو " ببكة " لوقوعه صلة ، والعامل فيها الجار بما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص ، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك . و " للعالمين " كقوله : " للمتقين " أول البقرة . فصل البركة لها معنيان . أحدهما : النمو والتزايُد . والثاني : البقاء والدوام ، يقال : تبارك الله ؛ لثبوته ولم يزل ولا يزال . والبركة : شبه الحوض ؛ لثبوت الماء فيها ، وبَرَكَ البعير إذا وضع صَدْرَه على الأرض وثَبت واستقرَّ ، فإن فسرنا البركة بالنمو والتزايد ، فهذا البيت مبارَك فيه من وجوه : أحدها : أن الطاعات يزداد ثوابُها فيه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " فَضْلُ المَسْجِدِ الحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِي فَضْلُ مَسْجِدِي عَلَى سَائِرِ المَسَاجِدِ " ثُمَّ قال : " صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ " هذا في الصلاة ، وأمَّا في الحج فقد قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ ، ولَمْ يَرْفُثْ ، ولم يَفْسُق ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِِهِ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أمُّهُ " وفي حديث آخر : " الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةَ " ومعلوم أنه لا أكثر بركةً مما يجلب المغفرة والرحمة . ثانيها : قال القَفَّالُ : ويجوز أن يكون بركته ، ما ذكر في قوله تعالى : { يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً } [ القصص : 57 ] فيكون كقوله : { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] . وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضرَ في ذهنه أنَّ الكعبةَ كالنقطة ، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شكَّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم عُلْويَّة ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة ، وأجسادهم توجَّهت إلى هذه الكعبة الحسية ، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه ، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويَعْظُم لمعان الأضواء الروحانية في سِرِّه ، وهذا بَحْرٌ عظيم ، ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً . وإن فسرنا البركةَ بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين . وأيضاً فالأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل زمان يُفْرَض فهو صُبْح لقوم ، وظهر لآخرين ، وعَصر لثالث ، ومغرب لرابع ، وعشاء لخامس ، وإذا كان الأمر كذلك ، لم تنفك الكعبةُ عن توجُّه قوم إليها من طرَفٍ من أطراف العالم ؛ لأداء فرض الصلاة ، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة ، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألُوفاً من السنين دوام - أيضاً - . وأما كونه هدًى للعالمين ، فقيل : لأنه قبلة يهتدون به إلى جهة صلاتهم . وقيل : هُدًى ، أي : دلالة على وجود الصانع المختار ، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، بما فيه من الآيات والعجائب التي ذكرناها . وقيل : هُدًى للعالمين إلى الجنة ؛ لأن من أقام الصلاة إليه استوجب الجنة . قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ } يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال ، إما من ضمير " وُضِعَ " وفيه ما تقدم من الإشكال . وأمَّا من الضمير في " بِبَكَّةَ " وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال لذي حالٍ واحدٍ . وإما من الضمير في " للعالمِينَ " ، وإما من " هُدًى " ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " مُبَارَكاً " . ويجود أن تكون الجملة في محل نصب ؛ نعتاً لِـ " هُدًى " بعد نعته بالجار قبله . ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه ، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط ، و " آياتٌ " مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل ، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر ؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها : أن تكون مفردة ، فما قَرُب منها كان أولى ، والجار قريب من المفرد ، ولذلك تقدَّم المفردُ ، ثم الظرفُ ، ثم الجملة فيما ذكرنا ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [ غافر : 28 ] ، فقدم الوصف بالمفرد " مُؤمِنٌ " ، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] ، وثلَّث بالجملة وهي { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } وقد جاء في الظاهر عكس هذا ، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله : { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ } [ المائدة : 45 ] . قوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فيه أوْجُه : أحدها : أن " مَقَام " : بدل من " آيَاتٌ " وعلى هذا يقال : إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع ، فتقول : مررت برجال زيد وعمرو وبكر ؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة ، فإن لم يُوَفِّ ، قالوا : وجب القطع عن البدلية ، إما إلى النصب بإضمار فِعْل ، وإما إلى الرفع ، على مبتدأ محذوف الخبر ، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً ، أي : أعني زيداً وعمراً ، أو زيد وعمرو ، أي : منهم زيد وعمرو . ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني : [ الطويل ] @ 1539 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ @@ على القطع المتقدم ، أي : فمنها رمادٌ ونؤي ، وكذا قوله تعالى : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } [ البروج : 17 - 18 ] أي : أعني فرعون وثمود ، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ ، على أنه قد يُقال : إن المراد بفرعون وثمودَ ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما ، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ . وفي الآية الكريمة - هنا - لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان : المقام ، وأمن داخله ، فكيف يكون بَدَلاً ؟ وهذا الإشكال - أيضاً - وارد على قول مَنْ جعلَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هي مقام إبراهيم ، فكيف يُخْبِر عن الجمع باثنين ؟ وفيه أجوبة : أحدها : أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم . قال الزمخشري : ويجوز أن يُراد : فيه آيات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع ، كالثلاثة والأربعة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ " . قال الزجَّاج : ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين ، قال تعالى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] . وقال بعضهم : تمام الثلاة قوله : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } وتقدير الكلام : مقام إبراهيم ، وأن من دخله كان آمناً ، وأن لله على الناس حَجَّ البيت ، ثم حذف " أن " اختصاراً ، كما في قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ } [ الأعراف : 29 ] أي : أمر ربي أن اقسطوا . الثاني : أن { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ ، بمعنيين : أحدهما : أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية ، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى ؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ ، وإبقاؤه على مر الزمان ، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية ، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية ، قال معناه الزمخشري . وثانيهما : أن { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } بمنزلة آيات كثيرة ؛ لأن كل ما كان معجزةً لنبيٍ فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته ، وكونه غنيًّا مُنَزَّهاً ، مقدَّساً عن مشابهة المحدثات ، فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الآيات ، كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } [ النحل : 120 ] ، قاله ابنُ الخطيب . الثالث : أن يكون هذا من باب الطَّيّ ، وهو أن يُذْكَرَ جَمْعٌ ، ثم يُؤتَى ببعضه ، ويُسْكَت عن ذِكْر باقيه لغرض للمتكلم ، ويُسَمَّى طَيًّا . وأنشد الزمخشري عليه قول جرير : [ البسيط ] @ 1540 - كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمُ مِنَ الْعَبِيدِ ، وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا @@ وأورد منه قوله صلى الله عليه وسلم : " حُبِّبَ إليّ مِنْ دُنْيَاكُم ثَلاثٌ : الطيبُ والنِّسَاءُ ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي فِي الصلاة " ذكر اثنين - وهما الطيب والنساء - وطَوَى ذِكْر الثالثة . لا يقال إن الثالثة قوله صلى الله عليه وسلم : " جعلت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ " لأنها ليست من دنياهم ، إنما هي من الأمور الأخروية . وفائدة الطَّيّ - عندهم - تكثير ذلك الشيء ، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما . وقال ابنُ عطية : " والأرجح - عندي - أن الماقم ، وأمن الداخل ، جُعِلاَ مثالاً مما في حرم الله - تعالى - من الآيات ، وخُصَّا بالذِّكْر ؛ لِعِظَمِهِمَا ، وأنهما تقوم بهما الحُجَّةُ على الكفَّار ؛ إذْ هم مدركون لهاتين الآيتين بِحَوَاسِّهم " . الوجه الثاني : أن يكون { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } عطف بيان ، قاله الزمخشري . ورَدَّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفاً وتنكيراً ، فقال : وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين ، فلا يلتفت إليه ، وحُكْم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فيُتْبعون النكرة نكرة ، و المعرفة معرفة ، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي . وأما البصريون ، فلا يجوز - عندهم - إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوز أن يكونا نكرتين ، وكل شيء أورده الكوفيون مما يُوهِم جوازَ كونه عطفَ بيان جعله البصريون بَدَلاً ، ولم يَقُمْ دليل للكوفيين ؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله - عند قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] وقوله : { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [ النور : 35 ] ، ولما أوّل الزمخشريُّ مقام إبراهيم وأمن داخله - بالتأويل المذكور - اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع - وأجاب بما تقدم ، واعترض - أيضاً - على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان للأسماء المفردةِ ؟ فقال : " فإن قلتَ : كيف أجَزْت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات . وقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } جملة مستأنفة ، إما ابتدائية وإما شرطية ؟ قلت : أجَزْت ذلك من حيث المعنى ؛ لأن قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } دل على أمْن مَنْ دخله ، وكأنه قيل : فيه آيات بيِّنات مقام إبراهيم وأمن من دخله ، ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة ، مَنْ دخله كان آمناً صَحَّ ؛ لأن المعنى : فيه آية بينة أمن مَنْ دخله " . قال أبو حيان : " وليس بواضح ؛ لأن تقديره - وأمنَ الداخل - هو مرفوع ، عطفاً على " مَقَام إبراهيم " وفسر بهما الآيات ، والجملة من قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا ، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف ، يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه ، فلا يجعل قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى ، لا تفسير الإعراب " . قال شهاب الدين : " وهي مُشَاحَّةٌ لا طائلَ تحتَها ، ولا تدافع فيما ذكر ؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفُها عليه " . الوجه الثالث : قال المبرد : " مَقَامُ " مصدر ، فلم يُجْمَع ، كما قال : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] والمراد : مقامات إبراهيم ، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج ، وأعمال المناسك ، ولا شك أنها كثيرة ، وعلى هذا ، فالمراد بالآيات : شعائر الحج ، كما قال تعالى : { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } [ الحج : 32 ] . الوجه الرابع : أن قوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : أحدها ، أي : أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : منها ، أي : من الآيات البيِّنات " مقام إبراهيم " . وقال بعضهم : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } لا تعلُّقَ له بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ } ، فكأنه - تعالى - قال : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ } ومع ذلك فهو { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } ومَقَرُّه ، والموضع الذي اختاره ، وعَبَدَ الله فيه ؛ لأن كل ذلك من الخِلال التي بها تَشَرَّف وتَعَظَّم . وقرأ أبَيّ وعُمَر وابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وأبو جعفر المديني - في رواية قتيبة - آية بيِّنة - بالتوحيد ، وتخريج " مَقَامُ " - على الأوجه المتقدِّمة - سَهْل ، من كونه بدلاً ، أو بياناً - عند الزمخشري - أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه ؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرة مطلقاً ، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وَصْفها ، وقد وُصِفَتْ . فصل قال المفسرون : الآيات منها مقام إبراهيم ، وهو الحَجَر الذي وضعه إبراهيم تحت قدميه ، لمَّا ارتفع بنيان الكعبة ، وضَعُفَ إبراهيم عن رَفْع الحجارة ، قام على هذا الحجر ، فغاصت فيه قدماه . وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قَدْ حلف لامرأته أن لا ينزلَ بمكة حتى يرجع ، فَلَمَّا رجع إلى مكة قالت له أم إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر ، فوضعته على الجانب الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ، ثم حولته إلى الجانب الأيسر ، حتى غسلت الجانبَ الآخرَ ، فبقي أثرُ قدميه عليه ، فاندرس من كَثْرَةِ المَسْحِ بالأيدي . وقيل : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - عند الأذان بالحج . قال القفّال : " ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلِّها " . وقيل : مقام إبراهيم ؛ هو جميع الحرم ، كما تقدم عن المبرد . ومن الآيات - أيضاً - الحجر الأسود ، وزمزم ، والحطيم ، والمشاعر كلها . ومن الآيات ما تقدم ذكره من أمر الطير والصيد ، وأنه بلد صدر إليها الأنبياء والمرسلون ، والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيه ، يُضاعف ثوابُها بمائة ألف . والمقام هو في المسجد الحرام ، قُبالَة باب البيت . وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا : الحجر الأسود ، والمقام من الجنة . قال الأزرقي : ذرع المقام ذراع ، وسعة أعلاه أربعة عشر إصْبَعاً في أربعة عشر إصبعاً ، ومن أسفله مثل ذلك ، وفي طرفيه - من أعلاه وأسفله - طوقان من ذهب ، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز ، لا ذهب عليه ، طوله من نواحيه كلها تِسعة أصابع ، وعرضه عشر أصابع في عشر أصابع طولاً ، وعرض حجر المقام من نواحيه ، إحدى وعشرون إصبعاً ، ووسطه مربع ، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ، ودخولهما منحرفتان ، وبين القدمين من الحجر أصبعان ، ووسطه قد استدق من التمسُّح به ، والمقام في حوض من ساج مربع ، حوله رصاص ، وعلى الحوض صفائح رصاص ليس بها ، وعلى المقام صندوق ساج مسقف ، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض ، في ظهره سلسلتان يدخلان في أسفل الصندوق ، فيقفل عليهما قفلان ، وهذا الموضع فيه المقام اليوم ، وهو الموضع الذي كان فيه في زمن الجاهلية ، ثم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده ، ولم يُغَيَّر موضعه ، إلا أنه جاء سَيْل في زمن عمر بن الخطاب - يقال له : سيل أم نهشل ؛ لأنه ذهب بأمِّ نَهْشَلٍ بِنْتِ عُبَيْدَةَ بْنِ أبِي رُجَيْحَة ، فماتت ، فاحتمل ذلك السيل المقام من موضعه هذا ، فذهب به إلى أسفل مكة فأتي به ، فربطوه في أستار الكعبة - في وجهها - وكتبوا بذلك إلى عمر ، فأقبل عمر من المدينة فزعاً ، فدخل بعمرة في شهر رمضان ، وقد غُبِّيَ موضعُه ، وعفاه السيل ، فجمع عمر الناس ، وسألهم عن موضعه ، وتشاوروا عليه حتى اتفقوا على موضعه الذي كان فيه ، فجعله فيه ، وعمل عمر الردم ، لمنع السيل ، فلم يعله سيل بعد ذلك إلى الآن . ثم بعث أمير المؤمنين المهدي ألف دينار ليضبّبوا بها المقام - وكان قد انثلم - ثم أمَرَ المتوكل أن يجعل عليه ذهب فوق ذلك الذهب - أحْسِنْ بذلك العمل - فعمل في مصدر الحاج سنة ست وثلاثين ومائتين ، فهو الذهب الذي عليه اليوم ، وهو فوق الذي عمله المهدي . فصل قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } . قال الحسن وقتادة : كانت العرب - في الجاهلية - يقتل بعضهم بعضاً ، ويُغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمِنَ مِن القتل والغارة ، وهذا قول أكثر المفسرين ، لقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] . وقيل : أراد به أن مَنْ دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمِناً ، كما قال تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] . وقال الضَّحَّاكُ : من حَجَّه كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك . وقيل : معناه من دَخَلَه مُعَظِّماً له ، متقرِّباً إلى الله - عز وجل - كان آمناً يوم القيامة من العذاب . وقيل : هو خبر بمعنى الأمر ، تقديره : ومن دخله فأمِّنوه ، كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [ البقرة : 197 ] ، أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا . فصل قال أبو بكر الرازي : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } موجودة في جميع الحرم ، ثم قال : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ، وجب أن يكون مراده جميع الحرم ، وأجمعوا على أنه لو قَتَل في الحرم ، فإنه يُسْتَوْفَى القصاص منه في الحرم ، وأجمعوا على أن الحرَم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس ، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم ، فالتجأ إلى الحرم ، فهل يُستوفى منه القصاص في الحرم ؟ فقال الشافعي : يستوفى . وقال أبو حنيفة : لا يستوفى ، بل يمنع منه الطعام ، والشراب ، والبيع والشراء ، والكلام حتى يخرج ، ثم يستوفى منه القصاصُ ، واحتج بهذه الآية فقال : ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمِناً ، ولا يُمكن حمله على الخبر ؛ إذْ قد لا يصير آمِناً في حق مَنْ أتى بالجناية في الحَرَم ، وفي القصاص فيما دون النفس ، فوجب حمله على الأمر ، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس ؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل ، وفي القصاص بالجناية في الحرم ؛ لأنه هو الذي هتك حُرْمة الحَرَم ، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية . وأجيب بأنَّ قوله : { كَانَ آمِناً } إثبات لمُسَمَّى الآية ، ويكفي في العمل به ، في إثبات الأمن من بعض الوجوه ، ونحن نقول به ، وبيانه من وجوه : الأول : أن من دخله للنُّسُكِ ، تقرُّباً إلى الله تعالى ، كان آمِناً من النار يوم القيامة ، قال صلى الله عليه وسلم " مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مكةَ سَاعةً من نَهَارِ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ " وقال صلى الله عليه وسلم " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يفْسقْ خَرَجَ من ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّه " . الثاني : يحتمل أن يكونَ المراد : ما أودعه الله في قلوب الخَلْق من الشفقة على كل من التجأ إليه ، ودفع المكروه عنه ، ولما كان الأمر واقعاً على هذا الوجه - في الأكثر - أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً ، وهذا أولى مما قالوه ، لوجهين : الأول : أنا - على هذا التقدير - لا نجعل الخبر قائماً مقامَ الأمر ، وهم جعلوه قائماً مقامَ الأمر . الثاني : أنه - تعالى - إنما ذكر هذا ، لبيان فضيلةِ البيتِ ، وذلك إنما يحصل بشيءٍ كان معلوماً للقوم حتى يصيرَ ذلك حجةً على فضيلة البيت ، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يصير ذلك حجةً على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة . الوجه الثالث : قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء . الرابع : ما تقدم - ايضاً - عن الضَّحَّاكِ أنه يكون آمِناً من الذنوب التي اكتسبها . وملخّص الجواب : أنه حكم بثبوت الأمن ، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وَجْهٍ وَاحدٍ ، وفي صورة واحدة ، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النَّصّ ، فلا يبقى في النص دلالة على قولهم ، ويتأكد هذا بأن حمل النَّصِّ على هذا الوجه ، لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص ، وحمله على ما قالوه يُفْضِي إلى ذلك ، فكان قولُنا أوْلَى . قوله : " ولله على الناس حج البيت " لمَّا ذكر فضائلَ البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج إليه . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : " حِجّ البيت " - بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة ، وتقدم في البقرة في الشاذ بكسر الحاء - وتقدم هنا اشتقاق المادة - والباقون بفتحها - وهي لغة أهل الحجاز والعالية والكسر لغة نجد ؛ وهما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رَطل ورِطل ، وبَذْر وبِذْر ، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحدٍ . وقيل : المكسور اسم للعمل ، والمفتوح المصدر . وقال سيبويه : يجوز أن تكون المكسورة - أيضاً - مصدراً كالذِّكر والعِلْم . فصل الحج أحد أركان الإسلام ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَة أنْ لاَ إله إلاَّ اللهُ ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ، وإقَامِ الصَّلاةِ ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رمضانَ ، وحَجَّ البيتِ لمن اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً " . ويشترط لوجوبه خمسة شروط : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحُرِّيَّة ، والاستطاعة . فصل احتجوا بهذه الآية على أن الكُفَّارَ مخاطبون بفروع الإسلام ؛ لأن ظاهر قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } يعم المؤمنَ والكافرَ ، وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ، ومخصِّصاً ، لهذا العموم ؛ لأن الدهريّ مكلَّف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط لصحة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، غير حاصل ، والمُحْدِث مكلَّف بالصلاة ، مع أن الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة ، غير حصل ، لم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلَّفاً بالمشروط . فكذا هاهنا . فصل قال القرطُبي : دلَّ الكتاب والسنة على أن الحَجَّ على التراخي ، وهو أحد قولي مالك ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وأبي يوسف في رواية عنه ، وذهب بعض المتأخرين من المالكية إلى أنه على الفَوْر ، وهو قول داود ، والصحيح الأول ؛ لأنَّ الله تعالى قال في سورة الحج - : { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } [ الحج : 27 ] ، وسورة الحج مكيّة ، وقال هاهنا : { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة ، سنة ثلاثٍ من الهجرة ، ولم يحجّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر ، وأجمع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج ، إذا أخَّرَهُ عامداً . فصل روي أنه لما نزلت هذه الآيةُ قيل : " يا رسولَ اللهِ ، أكتبَ علينا الحَجُّ في كل عام ؟ ذكروا ذلك ثلاثاً ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال في الرابعة : " لَوْ قُلتُ : نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمتمُ بها ، وَلَو لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ ، ألا فَوَادِعونِي ما وَادَعْتُكم وَإذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ ، وَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أمْرٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ ، وَاخْتِلاَفِهِمْ على أنْبِيَائِهِمْ " " . فصل احتج العلماء بهذا الخبر ، على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين : الأول : أن الأمر ورد بالحج ، ولم يُفِد التكرار . والثاني : أن الصحابة استفهموا ، هل يوجب التكرار أم لا ؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما استفهموا مع علمهم باللغة . قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فيه ستة أوجُه : أحدها : أن " مَنْ " بدل من " النَّاس " بدل بعض من كل ، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضميرٍ يعود على المُبْدَل منه ، نحو : أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَه ، وسُلِب زيدٌ ثوبُه ، وهنا ليس من ضمير . فقيل : هو محذوف تقديره من استطاع منهم . الثاني : أنه بدلُ كُلٍّ من كُلٍّ ، إذ المراد بالناس المذكورين : خاصٌّ ، والفرق بين هذا الوجه ، والذي قبله ، أن الذي قبله يقال فيه : عام مخصوص ، وهذا يقال فيه : عامٌّ أريد به الخاص ، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي . الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هم من استطاع . الرابع : أنها منصوبة بإضمار فعل ، أي : أعني من استطاع . وهذان الوجهان - في الحقيقة - مأخوذان من وجه البدل ؛ فإنَّ كل ما جاز إبداله مما قبله ، جاز قطعه إلى الرفع ، أو إلى النصب المذكورين آنفاً . الخامس : أن " مَنْ " فاعل بالمصدر وهو " حَجُّ " ، والمصدر مضاف لمفعوله ، والتقدير : ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلاً البيت . وهذا الوجه قد رَدَّه جماعةٌ من حيث الصناعة ، ومن حيث المعنى ؛ أما من حيث الصناعة ؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما ، فإنما يُضَاف المصدر لمرفوعه - دون منصوبة - فيقال : يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً ، ولو قلتَ : ضَرْبُ عمرٍو زيدٌ ، لم يجزْ إلا في ضرورة ، كقوله : [ البسيط ] @ 1541 - أفْنَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيقِ @@ يروى بنصب " أفواه " على إضافة المصدر - وهو " قَرْع " - إلى فاعله ، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله . وقد جوَّزَ ، بعضُهم في الكلام على ضَعْفٍ ، والقرآن لا يُحْمَل على ما في الضرورة ، ولا على ما فيه ضعف ، أمَّا من حيث المعنى ؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم - مستطيعهم وغير مستطيعهم - بأن يحج مستطيعهم ، فيلزم من ذلك تكليف غير المُسْتَطِيعِ بأن يَحُجَّ ، وهو غير جائز - وقد التزم بعضُهم هذا ، وقال : نعم ، نقول بموجبه ، وأن الله - تعالى - كلَّف الناسَ ذلك ، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان ؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرضٌ واجب . و " مَنْ " - على هذه الأوجه الخمسة - موصولة بمعنى : الذي . السادس : أنها شرطية ، والجزاء محذوف ، يدل عليه ما تقدم ، أو هو نفس المتقدم - على رأي - ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على " النَّاسِ " ، تقديره : من استطاع منهم إليه سبيلاً فللّه عليه . ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده ، وهو قوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } . وقوله : { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } جملة من مبتدأ - وهو { حِجُّ ٱلْبَيْتِ } - وخبر - وهو قوله : " لله " - و " عَلَى النَّاسِ " متعلق بما تعلق به الخبر ، أو متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه - أيضاً - ذلك الاستقرار المحذوف ، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر ، و " لِلَّهِ " متعلق بما تعلق به الخبر ، ويمتنع فيه أن يكون حالاً من الضمير في " عَلَى النَّاسِ " وَإنْ كان العكس جائزاً - كما تقدم - . والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي ، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي - بخلاف الظرف وحرف الجر ، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي ؛ للاتساع فيهما ، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك ، يجوز تقديمها على العامل المعنوي - إذا كانت هي ظرفاً ، أو حرف جر ، والعامل كذلك ، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل . وقد جيء في هذه الآيات بمبالغاتٍ كثيرة . منها قوله : { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } يعني : أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم ، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عُهدته . ومنها : أنه ذكر " النَّاسَ " ، ثم أبدل منهم { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، وفيه ضربان من التأكيد . أحدهما : أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له . والثاني : أن التفصيل بعد الإجمال ، والإيضاح بعد الإبهام ، إيراد له في صورتين مختلفتين ، قاله الزمخشري ، على عادة فصاحته ، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ ، والألف واللام في " البَيْتِ " للعهد ؛ لتقدم ذكره ، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد . فإذا قيل : زار البيتَ ، لم يَتَبَادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله . وقال الشاعر : [ الطويل ] @ 1542 - لَعَمْرِي لأنْتَ الْبَيْتُ أكْرِمُ أهْلَهُ وَأقْعُدُ فِي أفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ @@ أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض . قال شهابُ الدين : " وفيه نظر ، إذْ ليس في الظاهر الكعبة " . الضمير في : " إلَيْهِ " الظاهر عوده على الحَجِّ ؛ لأنه محدَّث عنه . قال الفراء : إن نويت الاستئناف بـ " مَنْ " كانت شرطاً ، وأسقط الْجَزاء لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : من استطاع إلى الحج سبيلاً ، فللَّه عليه حجُّ البيت . وقيل : يعود على " الْبَيْتِ " ، و " إلَيْهِ " متعلق بـ " اسْتَطَاعَ " ، و " سَبِيلاً " مفعول به ؛ لأن استطاع متعدٍّ ، ومنه قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } [ الأعراف : 197 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . فصل قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن : الأول : سَعَة المال ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] أي : سعة في المال ومنه قوله تعالى : { لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] أي : لو وجدنا سعة في المال . الثاني : بمعنى الإطاقة ، قال تعالى : { وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 129 ] ، وقال : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] . فصل استطاعة السبيل إلى الشيء : عبارة عن إمكان الوصول إليه ، قال تعالى : { فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ غافر : 11 ] ، وقال : { هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 44 ] . قال عبد الله بن عمر : " سأل رجلٌ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما يُوجب الحَجَّ ؟ فقال : الزاد والراحلة ، قال : يا رسول الله ، فما الحاجّ ؟ قال : الشعث ، التَّفِل . فقام آخر فقال : يا رسول الله ، أيُّ الحج أفضل ؟ فقال : الحج والثج ، فقام آخر فقال : يا رسول ما السبيلُ ؟ فقال : " زادٌ ورَاحِلةٌ " " . ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن ، وزوال خَوف التلف من سبع ، أو عدو ، أو فُقْدان الطعام والشراب ، والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد ، والراحلة ، ويقضي جميع الديون التي عليه ، ويَرُدّ ما عنده من الودائع ، ويضع عند مَنْ تجب عليه نفقته من المال ، ما يكفيه لذهابه ومجيئه ، هذا قول الأكثرين . وروى القفال : عن جُوَيْبِر عن الضحاك أنه قال : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال ، فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ، فقال له قائل : أكلَّف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حجّ البيت . وعن عكرمة - أيضاً - أنه قال : الاستطاعة هي : صحة البدن ، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه ؛ لأن الصحيح البدن ، القادر على المشي إذا لم يجد ما يركبه يصدق عليه أنه مستطيع لذلك الفعل ، فتخصيص الاستطاعة بالزاد والراحلة تَرْك لظاهر الآية ، فلا بد من دليل منفصل ، والأخبار المروية أخبار آحاد ، فلا يُتْرَك لها ظاهرُ الكتاب ، ولا سيما وقد طُعِنَ فيها من وجوه : الأول : من جهة السند . الثاني : أن حصول الزاد والراحلة قد لا يكفي ، فلا بد من اعتبار صحة البدن ، وعدم الخوف ، وهذا ليس في الأخبار ، فظاهرها يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك مُعْتبراً . الوجه الثالث : اعتبار وفاء الدين ، ونفقة عياله ، ورد الودائع . وأجيبوا بأنه يُفْضِي إلى معارضة قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقوله : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] . فصل احتج جمهورُ المعتزلةِ بهذه الآيةِ على أن الاستطاعة قبلَ الفعل ، فقالوا : لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية ، فيلزم منه أن كل من لم يحج لا يصير مأموراً بالحَجِّ بهذه الآية ، وذلك باطل . وأجيبوا بأن هذا - أيضاً - يلزمهم ؛ لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل ، أو بعد حصولِه ، أما قبل حصول الداعي ، فمحال ؛ لأن قبلَ حصولِ الداعي يمتنع حصول الفعل ، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يُطاقُ ، وأما بعد حصولِ الداعي ، فالفعل يصيرُ واجب الحصول ، فلا يكون في التكليف به فائدةٌ ، وإذا كانت الاستطاعةُ منفيةً في الحالتين ، وجب ألا يتوجه التكليفُ المذكورُ في هذه الآيةِ على أحدٍ . فصل إذا كان عاجزاً بنفسه ؛ لكونه زَمِناً ، أو مريضاً لا يُرْجَى بُرْؤه - وله مال يُمْكِن أن يستأجر مَنْ يَحُجُّ عنه - وجب عليه أن يستأجر ، لما روى عبد الله بن عباس ، قال : " كان الفضل بن عباس ردف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم ، تستفتيه ، فجعل الفضلُ ينظر إليها ، وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وَجْهَ الفضل إلى الشق الآخرِ ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركَتْ أبي شيخاً كبيراً ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحجُّ عنه ؟ قال : نَعَم " . وقال مالك : لا يجب عليه ، وهذا هو المعضوب ، والعَضْب : القطع ، وبه سُمِّيَ السيف عَضْباً ، فكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ، ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه ، أو لا يقدر على شيء . وإن لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه ، أو أجنبي ، الطاعةَ في أن يحج عنه ، فهل يلزمه [ أن يأمره ] إذا كان يعتمد صدقه ؟ وفي المسألة خلاف ، فالقائل بالوجوب قال : لأن وجوب الحج معلق بالاستطاعة ، وهذا مستطيع ، لأنه يقال - في العُرْف - : فلان مستطيع لبناء دارٍ ، وإن كان لا يفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله ، وبأعوانه - . وقال أبو حنيفة : لا يجب ببذل الطاعة ، قال : وحديث الخثعميَّة يدل على أنه من باب التطوّعات ؛ وإيصال البر للأموات ، ألا ترى أنه شَبَّه فعل الحج بالدَّيْن ؟ وبالإجماع لو مات ميِّت وعليه دين لم يجب على وليِّه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدَّى عنه الدين ، ويدل على أن الحج في حديث الخثعمية ما كان واجباً قولُها : إن أبي لا يستطيع - ومن لا يستطيع لا يجب عليه ، وهذا تصريح بنفي الوجوب . وقوله : { وَمَن كَفَرَ } يجوز أن تكون الشرطية - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون الموصولة ، ودخلت الفاء ؛ شبهاً للموصول باسم الشرط كما تقدم ، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين ، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه ، أو المبتدأ وخبره ، ومن جوَّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله : { غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } كأنه قال : غني عنهم . فصل في هذا الوعيد قولان : الأول : قال مجاهد : هلا كلام مستقلٌّ بنفسه ، ووعيد عام في حَقِّ مَنْ كَفَر بالله ولا تعلُّق له بما قبلَه . الثاني : قال ابْنُ عباس والحَسَنُ وعَطَاء : مَنْ جَحَد فرض الحَج . وقال آخرون : من ترك الحج ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ فَلْيَمُتْ إنْ شاء يَهُودِيًّا وإنْ شاء نَصْرَانِيًّا " وقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ - وَلَمْ تَمْنَعْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أوْ مَرَضٌ حَابِسٌ ، أو سُلْطَانٌ جائر - فَلْيَمُتْ على أي حالةٍ شاء - يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا " . وقال سعيد بن جبير : إن مات جارٌ لي لم يحج - وله ميسرة - لم أصَلِّ عليه . فإن قيل : كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب تَرْك الحج ؟ فالجواب قال القفال المراد منه التغليظ ، أي : قد قارب الكُفْر ، وعمل ما يعمله مَنْ كفر بالحج كقوله : { وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } [ الأحزاب : 10 ] أي : كادت تبلغ . وكقوله عليه السلام - : " مَنْ تَرَك الصلاة متعمِّداً فقد كَفَر " وقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أتَى حَائِضاً أو امرأة في دبرها فقد كَفَر " . وأما الأكثرون فهم الذين حَمَلُوا هذا الوعيدَ على تارك اعتقاد الحج . قال الضحاك : لما نزلت آية " الحج " ، جمع الرسولُ صلى الله عليه وسلم أهلَ الأديان الستة : المسلمين ، والنصارى ، واليهود ، والصابئين ، والمجوس ، والمشركين ، فخاطبهم ، وقال : " إن الله كتب عليكم الحج فحجوا " فآمن به المسلمون ، وكفرت به الملل الخمس ، وقالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نحجه ، فأنزل الله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } .