Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 7-12)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ } وجب العذاب { عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذا كقوله : { وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] وفي الآية وجوه : أشهرها : أن المراد من القول هو قوله تعالى : { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } [ السجدة : 13 ] { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ } [ ص : 85 ] . والثاني : أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي وُجِد وثَبَتَ بحيث لا يُبَدَّل بغيره . لا يبدل القول لدي . الثالث : المراد لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبانَ بُرْهَانُهُ ، فإنهم لَمَّا لم يؤمنوا عندما ما حق القول واستمروا ، فإن كانوا يريدون شيئاً أوضح من البرهان فهو العِنَاد وعند العناد لا يُفيد الإيمان . وقوله : " عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ " على هذا الوجه معناه أن من لم تَبْلُغْه الدعوة والبُرْهَانُ قليلُون فحق القَول على أكثرهم وهو من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر ، لأن أكثر الكفار ماتوا على الكفر . قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } نزلت في أبي جهل وصاحِبَيْهِ ، وذلك أن أبا جهل كان ( قد ) حلف لئن رأى محمداً يُصَلِّي ليَرْضَخَنَّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمَغَهُ به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ، ولزق الحجرُ بيده ، فلما رَجَعَ إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر ، فقال رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر ، فأتاه وهو يصلِّي لِيَرْمِيَهُ بالحَجَر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يَرَهُمْ حتى نادوه فقالوا له : ماذا صنعت ؟ فقال : ما رأيته ، ولقد سمعت كلامه ، وحال بيني وبينه كهيئة الفحْل يخطر بِذَنبِهِ لو دنوتُ منه لأَكَلَنِي ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً } . ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال : { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } وتقدم أن المرادَ به البرهان قال بعد ذلك : بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومُنع من إرسال الحَجَر ، وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلاً . وقال الفراء : معناه حبسْنَاهم عن الإنفاق في سبيل الله ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] معناه ولا تُمْسِكْها عن النفقة . الرابع : قال ابن الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبةً لما تقدم : إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُون } يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى : { لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم عند بعض المفسرين ، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يُصَلّون ولا يُزَكون . قوله : { فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ } في هذا الضمير وجهان : أشهرهما : أنه عائد على الأَغْلاَل ، لأنها هي المُحَدَّث عنها ، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغُلَّ لِغِلَظهِ وعَرْضِهِ يصل إلى الذقن ، لأنه يلبس العُنُقَ جَميعَهُ . قال الزمخشري : والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثِقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يَتَمَكَّن المَغلُول معنا من أن يُطَأْطِىءَ رَأْسَهُ . الثاني : أن الضمير يعود على " الأيدي " لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في العنق ، واليدين ، ولذلك سمي جامعة ، ودَلَّ على الأيدي وإن لم تُذْكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغُلّ ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ . إلا أن الزمخشري قال : جعل الإِقماح نتيجة قوله : { فَهِيَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ } ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً ، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر . وفي هذا الكلام قولان : أحدهما : أن جَعْل الأَغْلاَلِ حقيقة . والثاني : أنه استعارة ، وعلى كل من القَوْلين جماعة من الصَّحَابة والتابعين . وقال الزَّمْخَشَرِيُّ : ( مثل ) لتصميمهم على الكفر ، وأنَّه لا سبيل إِلى ارْعِوَائِهِمْ بأن جعلهم كالمَغْلُولِينَ المُقْمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ له ، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن آيات الله . وقال غيره : هذا استعارة لمنع الله إيَّاهم من الإيمان وحولهم بينهم وبينه . ( و ) قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ؛ لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يُؤْمِنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشَّقَاوة ما حالهم معه حال المغلوبين . وتقدم تفسير الأَذْقَان . وقال ابن الخطيب : المانع إما أن يكون في النفس فهو الغُلّ وإما من الخارج فالسد ، فلم يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] وذلك لأن المُقْمَحَ لا يرى ( في ) نفسه ولا يقع بصره على بَدَنِهِ ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق . وعلى هذا فقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ … وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في ( الأنْفُسِ و ) الآفاق . " فَهُمْ مُقْمَحُونَ " هذا الفاء لأحسن ترتيب ، لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رُؤُوسهم إلى فَوْق . أو ولما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفعُ رُؤُوسُهُمْ . والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع ، وهو من قَمَحَ البعيرُ رأسَه إذا رفعها بعد الشُّرْب ، إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قُمُوحاً وقِمَاحاً - بكسر القاف وضمها - وأقمحتُه أَنَا إقْمَاحاً ، والجَمْع قِماحٌ ، وأنشد : @ 4168 - وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ نَغُضُّ الطَّرف كَالإبِلِ القِمَاحِ @@ يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة ، فأصابهم المَيَدُ . قال الزجاج قيل : الكَانُونَيْن شهراً قِماحٍ ، لأن الإِبل إذا وَرَدْنَ الماء رفعت رُؤُوسَها ، لشِدة البرد وأنشد أبو زيد للهذلي : @ 4169 - فَتًى مَا ابْنُ الأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا وَحُبَّ الزَّادِ فِي شَهْرَيْ قمَاحِ @@ كذا رواه بضم القَاف ، وابنُ السِّكِّيت بكسرها . وقال اللَّيْثُ : القُمُوح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكرية ثم يعود . وقال أبو عبيدة إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب . والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما تقدم تحريره . وقال الحسن : القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه . وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى . وزاد بعضهم مع رفع الرأس غَضَّ البصر مستدلاً بالبيت المتقدم : @ 4170 - … نغض الطرف كالإبل القماح @@ وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم . وسأل الناس أمير المؤمنين ( علياً ) - كرم الله وجهه - عن هذه الآية فجلع يده تحت لِحْيَتِهِ ، ورفع رأسه . وهذه الكيفية ترجّح قول الطَّبَريِّ في عود " فَهيَ " على الأيدي . قوله : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } تقدم خلاف القراء في فتح السِّين وضمِّها والفرق بينهما مستوفًى آخرَ الكهف والحمدُ لله . وأما فائدة السد من بين الأيدي فإنهم في الدنيا سالكُون فيبغي أن يَسْلُكُوا الطّريقة المستقيمةَ { مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا } فلا يقدرون على السلوك . وأما فائدة السد من خلفهم فهو أنَّ الإنسان له فِطْريَّة والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول : جَعَلْنَا من بين أيديهم سدًّا فلا يسلكون طريق الاهتداء الذي هو فطرية وجعلنا من خلفهم سداً فلا يرجعون إلى الهداية والجبلية التي هي فطرية ، وأيضاً فإن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمي الكافر لا يبصر ما بين من المصير إلى الله ، وما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله وأيضاً فإنَّ السالك إذا لم يكن له بدّ من سلوك طريق ، فإن اشتدَّ الطريقُ الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع ، وإذا اشتد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة يهلك . فقوله { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } إشارة إلى هَلاَكِهِمْ فصاروا بمنزلة من يبنى عليه الحائط وهو واقفٌ . قوله : " فأغشيناهم " العامة على الغين المعجمة أي غَطَّيْنَا أبْصَارَهُمْ وهو على حذف مضاف . وابن عباس وعمرُ بن عبد العزيز ، والحَسَنُ ، وابنُ يَعْمُرَ ، وأبُو رَجَاءٍ في آخَرِينَ بالعين المهملة . وهو ضعف البصر . يقال : عَشِيَ بَصَرُهُ ، وأَعْشَيْتُهُ أَنَا . وهذا يحتمل الحقيقة والاسْتِعَارَة . فصل قوله : " فَأَغْشَينَاهُمْ " بحرف الفاء يقتضي أن يكون الإِغشاء مرتباً على جعل السد فما وجهه ؟ فيقال من وجهين : أحدهما : أن ذلك بيان لأمور مرتبة ليس بعضها سبباً في البعض فكأنه تعالى قال : إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَلاَ يُبْصِرُون أنفسهم لإِقماحهم ، وجعلنا من بين أيديهم سداً ومِنْ خلفهم سداً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يَروا السماء ما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله : جَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارهم غشاوة فلا يبصرون شيئاً أصلاً . والثاني : أن ذلك بيان لكون السدِّ قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغِشَاوة على أبصارهم ، فإن من جعل من خلف وقدّامِه سدين مُلْتَزِقَيْن به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما يبقى عينه على سطح السد فلا يُبْصِرُ شيئاً ، لأن شرط المرئيِّ أن يكون قريباً من العَيْن جِداً . فَإنْ قيلَ : ذكر السد من بين الأيدي ومن خَلْفٍ ، ولم يذكر من اليَمِينِ والشِّمالِ فما الحكمة فيه ؟ . فالجواب : إن قلنا : إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر . وأما على غير ذلك فيقال : إنه حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة ، لأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا مُتَوَجِّهِينَ إلى شيء ، ومُوَلِّين عن شيء فصار ما إليه توجُّهُهُمْ ما بين أيديهم فجعل الله السد هناك فمنعه من السلوك فكيمفا توجه الكافر يجعل الله بين أيديه سداً وأيضاً ( فإنَّا ) لما بينا أن جعل السد سبباً لاستتار بصره فكان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين ، فلا قدره له على الحركة يَمْنَةً ولا يَسْرَةً ، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشِّمال . وقوله : { فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي لا يبصرون شئياً ، أو لا يبصرون سبيلَ الحق ؛ لأن الكافر مَصْدُورٌ عَنْ سبيل الهدى . قوله : { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } تقدم الكلام عليه أول البقرة ، بين أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغُلِّ والسدِّ والإغشاء والإعماء بقوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } أي الإنذارُ وعَدَمُهُ سيَّان بالنسبة إلى إيمانهم . { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } قال من قبل : { لِتُنذِرَ قَوْماً } [ يس : 6 ] وذلك يقتضي الإنذار العام وقال هنا : " إنَّما تنذر " وهو يقتضي التخصيص ، فكيف الجمع بينهما ؟ ! وطريقة من وجوه : الأول : أن قوله : " لتنذر " أي ( كَيْفَ ) ما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن . وقوله : " إِنَّما تُنْذِرُ " أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة لمن يتبع الذِّكْرَ وَيَخْشَى . الثاني : ( هو ) أنّ الله تعالى لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار وذكر ( أن ) الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلأى أهل العناد قال لنبيه : ليس إنذارك غيرَ مفيد من جميع الوجوه ، فأنِذرْ على سبيل العموم وإنما يُنْذَرُ بذلك الإنذارِ العَام من يتبع الذكر كأنه يقول : يا محمد أنذر بإنذارك وتَتَبَّعْ بذكرك . الثالث : أن يقول : لتنذر أولاً فإذا أنذرت وبالغت ( وبلغت ) ، واستهزأ البعض وتولى واستكبر فبعد ذلك إنما تُنْذِرُ الِّذِينَ اتَّبَعُوك . والمراد بالذكر : القرآن لتعريف الذكر الألف واللام . وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى : { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [ يس : 2 ] . وقيل : ما في القرآن من الآيات لقوله : { وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ ص : 1 ] فما جعل القرآن نفس الذكر . والمعنى إنما تُنْذِرُ العلماءَ الِّذِين يخشون ربهم . وقوله : { وَخشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ } أي عمل صالحاً لقوله : { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } وهذا جزاء العمل كقوله : { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الحج : 50 ] والمراد بالغيب : ما غاب وهو أحوال يوم القيامة . وقيل الوَحْدانية . وقوله : " فَبَشِّرْه " إشارة إلى الرسالة ، فإنَّ النَّبِيِّ بشيرٌ ونذيرٌ . وقوله : " بمغفرة " على التنكير أي بمغفرة واسعةٍ تسيرُ من جميع الجوانب " وَأجْرٍ كرِيمٍ " أي ذي كرم كقوله : " وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " والمراد به الجنة . قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } عند البعث . لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بهم المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر . ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله : " فَبَشِّرهم بمغفرة " ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال : إن لم ير في الدنيا فاللَّه يحيي الموتى وُيجْزَى المنذَرُونَ والمُبشرُونَ ووجه آخر وهو أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحْيَاءُ الموتى . فصل " إنّا نحن " يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون مبتدأ وخبراً كقوله : @ 4171 - أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي @@ ومثل هذا يقال عند الشُّهْرَة العظيمة ، وذلك لأنَّ من لا يُعْرَفُ يُقَال ( لَهُ ) : من أنت ؟ فيقول : أنا ابنُ فُلاَنٍ فيُعْرَفُ ، ومن يكون مشهوراً إذا قيل له : مَنْ أَنْتَ ، يقول : أنا ولا معرفة لي أظهر من نفسي فيقال : إنَّا نَحْنُ معروفون بأوصاف الكمال ، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا ينكر قدرتنا على إحياء الموتى . والثاني : أن الخبر " نُحْيِي " كأنه قال : " إِنَّا نُحِيي المَوْتَى " و " نحن " يكون تأكيداً . وفي قوله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } إشارة إلى الوحيد ؛ لأن الإشراك يوجب التمييز ، فإن " زيداً " إذا شاركه غيره في الاسم ، فلو قال : " أنا زيد " لا يحصل التعريف التام ، ( لأن ) للسامع أن يقول : أيُّمَا زيد ؟ فيقول : ابنُ عمرو ، ( ولو كان هناك زيدٌ آخرُ أبو عمرو ولا يكفي قوله : ابن عمرو ) فلام قال الله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } أي ليس غيرنا أحد يشركنا حتى يقول : أنا كذا فيمتاز ، وحينئذ تصير الأصول الثلاثة مذكورة : الرسالة والتوحيد والحشر . قوله : " وَنَكْتُبُ " العامة على بنائه للفاعل ، فيكون " مَا قَدَّمُوا " مفعولاً به و " آثَارَهُمْ " عطف عليه . وزِرّ ومسروقٌ قَرَآهُ مبنياً للمفعول ، و " آثَارُهُم " بالرفع عطفاً على " مَا قَدَّمُوا " لِقِيَامِهِ مَقَام الفَاعِل . فصل المعنى ماقدموا وأخروا ، فاكتفي بأحدهما ، لدلالته على الآخر كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] أي وَالبَرْدَ . وقيل : المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحةً كانت أو فاسدةً ، كقوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [ البقرة : 95 ] أي بما قدمت في الوجود وأوجدته . وقيل : نكتب نِيَّاتِهِمْ فإِنها قبل الأعمال و " آثَارَهُمْ " أي أعمالهم . وفي " آثارهم " وجوه : أحدها : ما سنوا من سنة حسنة وسيئة . فالحسنة كالكتب المصنّفة والقناظر المبنية ، والسيئة كالظّلامة المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة . قال - عليه ( الصلاة و ) السلام : " مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا ومِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهمْ شَيْئاً ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَه كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْئاً " وقيل : نكتب آثارهم أي خُطَاهم إلى المسجد ؛ لما روي أبو سعيد الخُدْرِي قال : شَكَتْ بنو سلمة بُعْدَ منازِلِهم من المسجد فأنزل الله : { ونكتُبُ ما قدموا وآثارهم } فقال - عليه ( الصلاة و ) السلام - : " إنَّ اللَّه يَكْتُبُ خُطَوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ " وقال - عَلَيْهِ ( الصَّلاَةُ وَ ) السَّلاَمُ - : " أَعْظَمُ النَّاس أَجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أَعْظَمُ أجْراً مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ " فإن قيل : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال : ( " نُحْيي " ) و " نكتُبُ " ولم يقل : نكتب ما قَدَّمُوا وَنُحْيِيهمْ ؟ . فالجواب : أن الكتابة معظمة ، لا من الإحياء ، لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم ، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياءً وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً والإحياء هو المعتبر ، والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء . ( و ) لأنه تعالى قال : { إِنَّا نَحْنُ } وذلك يفيد العظمة والجَبَرُوتَ ، والإحياء العظيم يختص بالله ، والكتابة دونه تقرير العريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم . قوله : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } العامة على نصب " كل " على الاشتغال . وأبو السَّمَّال قرأه مرفوعاً بالابتداء والأرجحُ قراءةُ العامة ، لعطف جملة الاشتغال على جملة فعليةٍ . فصل " أَحْصَيْنَاهُ " حفظناه وثبّتناه " فِي إمَامٍ مُبينٍ " . فقوله " أَحْصَيْنَاهُ " أبلغ من كتبناه ، لأن كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدده ، فقال يحصي فيه . وإمامٌ جاء جمعاً في قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] أي بأئمتهم وحينئذ فـ " إمَام " إذا كان فرداً فهو ككِتَاب وحِجِاب ، وإذا كان جمعاً فهو كجِبَال . والمُبِينُ هو المظهر للأمور لكونه مُظْهراً ( للملائكة ما ) يفعلون وللناس ما يفعل بهم ، وهو الفارق بين أحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير . وسمي الكتاب إماماً ، لأن الملائكة يأتمون به ، ويتبعونه ، وهو اللوح المحفوظ . وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لايُبدَّل ، فإن القَلَم جَفَّ بما هو كائن ، فلما قال { نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } بين أن قبل ذلك كتابةً أخرى ، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه . وقيل : إن ذلك مؤكّد لمعنى قوله : " وَنَكْتُبُ " ؛ لأن من يكتب شيئاً في أرواق ويرميها وقد لا يجدها ، فكأنه لم يكتب فقال : نكتُبُ ونَحفَظُ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] . وقيل : إنَّ ذلكَ تعميمٌ بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم ، وليست الكتابة مقتصرةً عليه بل كل شيء مُحْصًى في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئاً من الأفعال والأقوال لا يَعزُبُ عن ( علم ) الله ، ولا يفوته وهو قوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 52 - 53 ] يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب .