Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 131-132)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في تعلُّق هذه الآيَة بما قَبْلَها وجهان : الأوَّل [ أنه - تعالى - لمّا ] قال : { يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] أشار إلى ما هُو كالتَّفْسير لكونه وَاسِعاً ؛ فقال : { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } يعني : من كَانَ كَذَلِكَ ، [ فإنه ] يكون وَاسِع العِلْم ، والقُدْرَة ، والجُود ، والفَضْل ، والرَّحمة . الثاني : أنه - تعالى - لمَّا أمر بالعَدْل ، والإحْسَان إلى اليَتَامي والنِّسَاء ، بَيَّنَ أنه مَا أمر بِهَذِه الأشْيَاء لاحتياجه لأعْمَال العِبَادِ ، لأن من كَانَ لَهُ ما في السَّموات ومَا فِي الأرْض ، كيف يَكُون مُحْتَاجاً إلى عَمَل الإنْسَان مع ضَعْفِهِ وقُصُوره ، وإنما أمَر بِها رِعَاية لما هو الأحْسَن لَهُم في دُنْيَاهُم وأخْرَاهُم . ثم قال { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } يعني : أهْل التَّوْرَاةِ ، والإنْجِيلِ ، وسائر الأمم المُتَقَدِّمَة في كُتُبِهِم ، والكِتَاب : اسم جِنْس يتناول الكُتُب السَّمَاوِيَّة ، " وإيَّاكم " : يا أهل القُرْآن في كتابكم ، { أن اتَّقُوا اللَّه } أي : وَحِّدُوه وأطِيعُوه ، وتَقْوى اللَّه مَطْلُوبَة من جَمِيع الأمَمِ ، في سائر الشَّرَائِعِ لم تُنْسَخ ، وَهِي وَصِيَّة اللَّه في الأوَّلِين والآخِرين . قوله : " مِنْ قَبْلِكُم " فيه وجهان : الأول : أنه مُتَعَلِّق بـ " وصَّيْنَا " يعني : ولقد وصَّيْنَا من قَبْلكُم [ الَّذِين أوتُوا الكِتَاب . والثاني : أنه متعلِّق بـ " أوتُوا " يَعْني : الَّذين أوتُوا الكِتَاب من قَبْلِكُمْ ] ، وصيناهم بذلك ، والأوَّل أظْهَر . قوله : " وإيَّاكم " : عَطْف على { الذين أوتُوا الكتاب } وهو واجبُ الفَصْل هُنَا ؛ لتعذُّرِ الاتِّصَال ، واستدلَّ بَعْضُهم على أنَّه إذا قُدِر عَلى الضمير المُتَّصِل يجُوز أَن يُعْدَلَ إلى المُنْفَصِل بهذه الآية ؛ لأنه كان يُمْكِنُ أن يُقَال : " ولقد وَصِّيْنَاكُم والَّذِين أوتُوا الكِتاب " ، وكذلك استُدِلَّ بقوله - تعالى - : { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، إذ يمكن أن يُقَالَ : يخرجُونَكُم والرَّسُولَ ، وهذا ليس يدلّ له : أمَّا الآيةُ الأولى : فلأنَّ الكَلامَ فيها جَاءَ على التَّرتِيب الوُجُودِي ، فإنَّ وَصِيَّة مَنْ قبلَنا قبلَ وَصيَّتنا ، فلمَّا قَصَدَ هذا المَعْنَى ، استحال - والحالةُ هذه - أن يقُدْرَ عليه مُتَّصِلاً . وأما الآية الثَّانية : فلأنَّه قصد فيها تَقَدُّمَ ذِكْرِ الرَّسُول ؛ تشريفاً له ، وتشنيعاً على مَنْ تَجاسَر على مِثْلِ ذلك الفِعْل الفَظِيع ، فاسْتَحَال - والحالة هذه - أن يُجَاء به مُتَّصِلاً ، و " مِنْ قبلكم " : يَجُوزُ أنْ يتعلَّق بـ " أوتُوا " ، ويجُوز أنْ يتعلَّق بـ " وَصَّيْنَا " ؛ والأولُ أظهرُ . قوله : " أن اتَّقُوا " يجوزُ في " أن " وَجْهَان : أحدُهُمَا : أن تكون مصدرِيّة على حَذْفِ حَرْفِ الخَفْضِ ، تقديرُه : بأن اتَّقوا ، فلما حُذِف الحَرْفُ جَرَى فيها الخِلافُ المَشْهُور . والثاني : أن تكُون المُفَسِّرة ؛ لأنها بَعْد ما هُو بِمَعْنَى القَوْل ، لا حروفه وهو الوصيّة ، والظاهر أن قوله : " وإن تَكْفُرُوا " جملة مُسْتأنفة ؛ للإخبار بأن هذه الحَالِ ليست داخلة في مَعْمُول الوصِيّة . وقال الزَّمَخْشَرِي : { وإن تَكْفُرُواْ فإنَّ لِلَّهِ } عطفٌ على " اتَّقُوا " لأنَّ المَعْنَى : أمرناهم ، وأمَرْنَاكم بالتَّقْوَى ، وقُلْنا لهم ولكم : " إِن تَكْفُرُوا " وفي كلامه نظرٌ ، لأنَّ تقديره القَوْلَ ، ينفي كون الجُمْلة الشرطية مُنْدرجةً في حَيِّزِ الوصيَّة بالنِّسْبَة إلى الصِّناعة النَّحْوية ، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط ، بل قصده هو وتفسير الإعراب ؛ بدليل قوله : عطف على " اتَّقُوا " ، و " اتَّقُوا " داخلٌ في حيِّز الوصيَّةِ ، سواءً أجعلت " أن " مصدريَّةً أم مُفسِّرة . فصل ومعنى [ قوله : ] { أن اتَّقُوا اللَّه } ؛ كقولك : أمَرْتُكَ الخَيْرَ ، قال الكسَائِيُّ : يقال : أوصَيْتُك أن افْعل كذا ، وأن تَفْعَل كذا ، ويُقال : ألْم آمُرَك أن ائت زيداً ، وأن تأتِي زَيْداً ؛ كقوله - تعالى - : [ و ] { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] ، وقوله : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ } [ النمل : 91 ] وتقدَّم الكلام على " وَإِن تَكْفُروا " . قوله : { فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } في تعلُّقِه وجهان : الأول : أنه - تعالى - خالقُهُم ومالِكُهُم ، والمُنْعِم عليهم بأصْناف النِّعَم كلِّها ، فَحَقٌّ على كل عَاقلٍ أن يَنْقَاد لأوَامِرِهِ ونَوَاهِيهِ ، ويَرْجُو ثوابه ، ويَخَاف عِقَابَهُ . والثاني : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } من أصناف المَخْلُوقات من الملائِكَة وغيرها أطوع مِنْكُم يَعْبُدوه ويتَّقُوه ، وهو مع ذَلِكَ غَنِيٌّ عن عِبَادَتِهم ، و " حَمِيداً " مُسْتَحِقٌّ للحَمْد ؛ لكثرة نِعمِه ، وإن لم يحمده أحَدٌ منهم ؛ لأنه في ذَاتِه مَحْمُود ، سواء حَمَدُوه أوْ لَمْ يَحْمَدُوه . قوله : { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } ، قال عكرمة ، عن ابن عبَّاسٍ : يعني : شهيداً أنَّ فيها عَبِيداً . وقيل : دَافِعاً ومُجِيراً . فإن قيل : ما فَائِدة التَّكْرَار في قوله : { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } . فالجواب : أنَّ لكل منها وجه : أما الأول : معناه : للَّه مَا فِي السماوات وما فِي الأرض ، وهو يُوصِيكم بالتَّقْوَى ، فاقْبَلُوا وصِيَّتَه . والثاني : [ يقول : ] لله ما في السماوات وما في الأرض ، وكان الله غَنِيّاً ، أي : هو الغَنِيُّ ، وله المُلْكُ ، فاطْلُبَوا منه ما تَطْلُبُون . والثالث : يقول { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } ، أي : له المُلْك ؛ فاتَّخِذُوه وَكِيلاً ، ولا تتوكَّلُوا على غَيْرِه . [ و ] قال القُرْطُبِي : وفائدة التَّكْرَار من وجهين : الأول : أنه كَرَّر تأكيداً ؛ لتنبيه العِبَاد ، ولينظروا في مُلْكه ومَلكُوته ، أنه غَنِيٌّ عن خَلقهِ . والثاني : أنه كرَّر لفوائد : فأخبر في الأوَّل ، أنَّ الله يُغْنِي كُلاًّ من سَعَتهِ ؛ لأن لَهُ مَا في السماوات وما في الأرض ، [ فلا تَنْفدُ خَزَائِنُه ، ثم قال : أوْصيْناكُم وأهْلَ الكِتَاب بالتَّقْوى ، وإن تَكْفُروا ، فإنَّه غَنِيٌّ عنكم ؛ لأنَّ له ما في السماوات وما في الأرض ] ثم أعْلم في الثَّالث : بحفظ خَلْقِه ، وتدبيره إيَّاهُم بقوله : { وكفى باللَّهِ وكِيلاً } ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض ، ولم يَقُل : مَنْ في السَّموات ؛ لأن في السَّموات والأرض من يَعْقِل ، ومَن لا يَعْقِل .