Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 135-135)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في اتِّصال [ هذه ] الآية وُجُوهٌ : أحدها : لما تقدَّمَ ذكر النِّساء والنُّشُوز ، والمُصَالحَةِ بينهُنَّ وبين الأزْوَاج عَقبه بقيام أدَاءِ حقوق اللَّه - تعالى - ، وفي الشَّهَادَةِ إحياء حقوقِ اللَّه ؛ فكأنه قِيل : وإن اشْتغَلْتَ بتحصيلِ شهواتِكَ ، كنت لِنَفْسِكَ ، لا لِلَّه ، [ وإن اشتغَلْتَ بِتحْصِيل مأمُوراتِ اللَّه كنت للَّه ، لا لِنَفْسِكَ ] ، وهذا المقام أعلَى وأشْرَف ، فكانت هَذِه الآية تأكيداً لِمَا تقدَّم من التَّكَالِيفِ . الثاني : أن اللَّه - تعالى - لمَّا منَع النَّاس عن اقْتِصَارِهم على ثَوَابِ الدُّنْيَا ، وأمرهُم أنْ يَطْلُبوا ثواب الآخِرَة ، عَقَّبَه بهذه الآيَةِ ، وبَيَّنَّ أنَّ كمال سَعَادَة الإنْسَان ، في أنْ يكون قولُه وفِعْلُه للَّه ، وحركَتهُ للَّه ، وسُكُونهُ للَّه ؛ حتى يصير من الَّذِين يكُونُون في آخِر مَرَاتِب الإنْسَانِيّة ، وأوَّل مراتب الملائِكَة ، فإذا عَكَس القضيّة ، كان مِثْل البَهِيمَة الَّتِي مُنْتهَى أمْرِها وُجْدَان عَلَفِها والشَّبَع . الثالث : أنه تقدَّم في هذه السُّورَة تَكَالِيفُ كَثِيرةٌ ، فِأمرَ النَّاس بالقِسْط بقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } [ النساء : 3 ] ، وأمرهم بالإشْهَاد عِنْد دَفْع أمْوَال اليَتَامَى إليْهِم ، وأمَرَهُم ببَذْلِ النَّفْسِ والمَالِ في سَبيلِ اللَّه ، وذكر قِصَّة طعمة بن الأبَيْرِقِ ، واجتماع قوْمه على الذَّبِّ عنه [ بالكذب ] والشَّهَادة على اليَهُودي بالبَاطِل ، وأمر بالمُصَالَحَة مع الزَّوْجَة ، وكلُّ ذلك أمْر من اللَّه لعبادِه بالقِيَام بالقِسْط ، والشَّهَادَة [ فيه ] [ للَّه ] على كُلِّ أحَدٍ ، فكانت هذه الآيَة كالمُؤكِّد لما تقدَّم من التَّكَالِيفِ . القَوَّامُ : مُبَالغة من قَائِمٍ ، والقِسْط : العَدْل ، وهذا أمْر مِنه - تعالى - لجميع المكَلَّفِين ، بأن يُبَالغُوا في العَدْل ، والاحْتِرَازِ عن الجَوْر والمَيْل . قوله : " شُهَداءَ لِلَّه " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خَبرٌ ثَانٍ لكان ، وفيه خِلاَف تقدَّم ذِكْرهُ . والثاني : أنه حَالٌ من الضَّمير المُسْتَكِنِّ في : " قوَّامينَ " فالعَامِل فيها : " قوَّامين " . وقد ردَّ أبو حيَّان [ هذا الوجه : بأنَّه يَلْزَم منه تقييدُ كونهم قوَّامين بحال الشَّهادَةِ ، وهم مأمُورُون بذلك مُطْلَقاً ] . وهذا الردُّ ليْس بِشَيْءٍ ؛ فإن هذا المَعْنَى نَحَا إلَيْه ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال : كُونُوا قوَّامِين بالعَدْل في الشَّهَادَة على من كانت ، وهذا هُو مَعْنَى الوَجْه الصَّائِر إلى جَعْل شُهَداء حالاً . الثالث : أن يكون صِفَة لـ " قوَّامين " ، ومَعْنَى قوله : " للَّه " أي : لِذَات اللَّه ، ولوجْهِه ولمرْضَاتِه ، وثَوَابِه . قوله : { وَلَو عَلَى أَنْفُسِكُم } " لو " هذه تَحْتَمل أنْ تَكُونَ على بَابِها من كَوْنِها حرفاً لما كان سَيَقعُ لوقُوعِ غَيْرِه ، وجوابُها مَحْذُوفٌ ، أي : ولو كُنْتُم شُهَدَاءَ على أنْفُسكم ، لوجب عَلَيْكُم أن تَشْهدوا عليها . وأجاز أبو حيَّان أن تَكُونَ بمعنى : " إن " الشَّرطِيّة ، ويتعلَّق قوله : " عَلَى أنْفُسِكُم " بمحذوفٍ ، تقديرُه : وإن كنتم شُهَدَاء على أنْفُسِكم ، فكونوا شُهَدَاءَ لله ، هذا تَقْدِيرُ الكلام ، وحذفُ " كان " بعد " لو " كَثِيرٌ ، تقول : ائتِني بِتَمْر ، ولو حَشَفاً ، أي : وإن كان التَّمْر حشفاً ، فأتني به . انتهى . وهذا لا ضرورةَ تدْعُوا إليه ، ومجيءُ " لو " بِمَعْنى : " إنْ " شَيْء أثبته بعضهم على قِلَّة ، فلا يَنْبَغي أن يُحْمَل القُرآنُ عليه . وقال ابْن عَطِيَّة : " عَلى أنْفُسِكُم " متعلِّقٌ بـ " شهداء " . قال أبو حيان " فإنْ عَنَى بـ " شُهَدَاءَ " المَلْفُوظ به ، فلا يَصِحُّ ، وإن عَنَى به ما قَدَّرْناه نَحْن ، فيصِحُّ " يعني : تقديره : " لو " بمعنى : " إنْ " وحَذْفَ " كان " ، واسمِها ، وخبرها بَعْد " لو " ، وقد تقدَّم أن ذَلِك قَلِيلٌ ، فلم يبق إلا انَّ ابن عَطِيّة يريد " شُهَداءَ " مَحْذُوفةً ؛ كما قَدَّرْتُه لك أولاً ، نحو : " ولو كُنْتُم شُهَدَاء " على أنفسكم ، لوجَبَ عليْكُم أن تَشْهَدُوا . وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : " ولو كَانَتِ الشَّهَادةُ على أنفسكُم " فجَعَل " كَان " مُقَدَّرةً وهي تَحْتمِلُ في تَقْدِيره التَّمَام والنُّقْصَان : فإنْ قدَّرْتَها تَامةً ، كان قوله " على أنْفُسِكم " متعلِّقاً بنفسِ الشَّهَادة ، ويكون المَعْنَى : " ولو وُجِدَتِ الشهادةُ على أنْفُسِكُم " وإن قدَّرْتَها نَاقِصَةً ، فيجوزُ أنْ يكون " على أنْفُسِكُم " متعلِّقاً بمَحْذُوفٍ على أنَّه خَبرُهَا ، ويجُوز أن يكُون متعلِّقاً بنفس الشَّهادة ، وحينئذ يكُون الخَبَر مقدَّراً ، والمَعْنَى : " ولو كَانَتِ الشَّهَادةُ على أنْفُسِكُم موجُودةً " إلا أنَّه يلزمُ مِنْ جَعْلِنا " على أنْفُسِكُم " متعلِّقاً بالشَّهادة ، حذفُ المَصْدرِ وإبقاءُ معْمُولِه ، وهو قليل أو مُمْتَنِع ، وقال أيضاً : " ويجُوز أن يكُون المَعْنَى : وإن كانتِ الشَّهَادة على أنْفُسِكُم " . ورَدَّ عليه [ أبو حيَّان ] هَذَيْن الوجْهَيْنِ فقال : " وتقديرُه : ولو كانت الشَّهادة على أنْفُسِكُم ليس بجيِّد ؛ لأن المحْذُوفَ إنما يكون من جِنْس المَلْفُوظ به ؛ ليدلَّ عليه ، فإذا قُلْت : " كن مُحْسِناً ، ولو لمَنْ أساء إليك " ، فالتقدير : ولو كنت مُحْسِناً لمَنْ أساء ، ولو قَدَّرْتَه : " ولو كان إحْسَانُك " لم يكن جَيِّداً ؛ لأنك تَحْذِف ما لا دلالة عليه بِلَفْظٍ مُطَابِقٍ " . وهذا الردُّ لَيْس بشيء ، فإن الدِّلالة اللَّفظِيّة موجودةٌ ؛ لاشتراكِ المَحْذُوفِ والمَلْفُوظ به في المَادَّة ، ولا يَضُرُّ اختلافُهما في النَّوْع . وقال في الوجه الثاني : " وهذا لا يجُوز ؛ لأن ما تعلَّق به الظَّرْف كونٌ مقيدٌ ، والكونُ المُقَيَّد لا يجُوز حَذْفُه ، بل المُطْلَقُ ، لو قلت : كَان زَيْد فِيك ، تعني : مُحِبّاً فيك ، لَمْ يَجُز " . وهذا الرَدُّ أيضاً لَيْس بِشَيْءٍ ؛ لأنه قصد تَفْسير المَعْنَى ، ومبادئُ النَّحْو لا تَخْفَى على آحادِ الطَّلبة ، فكيف بِشَيْخِ الصِّنَاعَة . فصل شَهَادة الإنْسَان على نَفْسِه لها تَفْسِيران : أحدُهما : أن يُقِرَّ عَلَى نَفْسه ؛ لأن الإقْرَار كالشَّهَادَةِ في كونه مُوجِباً إلْزَام الحَقِّ . الثاني : أن يكون المُرَادُ : ولو كَانَت الشَّهَادة وبالاً على أنْفُسِكُم ، أو على الوالدين والأقْرَبين ، فأقِيمُوها عليْهم ، ولا تُحابُوا غَنِيّاً لِغِنَاهُ ، ولا ترحموا فقيراً لِفَقْرِهِ ، وهو قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } أي : أقِيمُوا على المَشْهُود عليه وإن كان غَنِيّاً وللمَشْهُود له وإن كان فقيراً ، فاللَّه أوْلى بِهِمَا منكم ، أي : كِلُوا أمْرَهُم إلى اللَّه - تعالى - . وقال الحَسَن : اللَّه أعْلَم بهما . قال القُرْطُبِيُّ : " قَوَّامين " بناء مُبَالَغَة ، أي : ليتكَرَّر منكم القِيَام بالقِسْط وهو العَدْل في شَهَادَتِكُم على أنْفُسِكُم ، وشهادة المَرْء على نفْسِه : إقرَارهُ بالحُقُوق عليها ، ثم ذكر الوالِدَيْن ؛ لوجوب بِرِّهِما ، وعظم قَدْرهِمَا ، ثم أتَى بالأقْرَبين ؛ إذْ هُم مَظَنَّة المَودَّة والتَّعَصُّب ، وجاءَ الأجْنَبِيُّ الآخر ؛ لأنه أحْرَى أن يَقُوم [ عليه ] بالقِسْطِ . فصل إنما قدَّم الأمْر بالقِيَام بالقسط على [ الأمْر ] بالشَّهادة لِوُجُوه : أحدُهَا : أن أكْثَر النَّاس عادتهم أنَّهم يَأمُرُون غَيْرَهُم بالمَعْرُوفِ ، فإذا آل الأمْر إلى أنْفُسِهِم ، تركوه حتى إنَّ قُبْحَ القَبِيحِ إذا صَدَر عنهم ، كان في مَحَلِّ المُسَامَحَة وأحْسَنَ الحُسْن ، إذا صَدَرَ عن غَيْرِهم ، كان في مَحَلِّ المُنَازَعة ، فاللَّه - تعالى - نبّه في هذه الآية على سُوءِ الطَّريقَة ، بأنْ أمره بالقِيَام [ بالقِسْطِ ] أوّلاً ، ثم أمَرَهُ بالشَّهَادة على غَيْرِه ثَانِياً ، تنبيهاً عَلَى أن الطَّرِيقَة الحَسَنة هي أن تكُون مُضَايَقَة الإنْسَان مع نَفْسِه [ فَوْق ] مُضايقته مع الغَيْر . وثانيها : أنَّ القِيام بالقِسْط : هو دَفْع ضَرَر العِقَاب عن النَّفْسِ ، وإقَامَة الشَّهَادة ، سعي في دَفْع ضَرَر العِقَاب عن الغَيْر ، وهو الَّذِي عَلَيْه الحَقُّ ، ودفع الضرر عن النَّفْسِ مُقَدَّم على دَفْع الضَّرَر عن الغَيْرِ . وثالثها : أن القِيَام بالقِسْطِ فعل ، والشَّهادة قول [ والفِعْل أقْوى من القَوْل ] . فإن قِيل : فقد قدَّم الشَّهادة على القِيام بالقسْطِ في قوله : { شَهِدَ ٱللَّهُ [ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِماً بِٱلْقِسْطِ } [ آل عمران : 18 ] . فالجواب : أنَّ شهادَةَ الله عبارَةٌ عن كونه مُرَاعِياً للعَدْل ، ومُبَايِناً للجَوْر ، ومعلوم : أنَّه ما لم يكن الإنْسَان كذلك ، لم يُقْبَل شَهَادتُهُ على الغَيْر ؛ فلهذا كان الوَاجِبُ في قوله : " شَهِدَ اللَّه " ] أن يقدِّم تلك الشَّهادة على القِيَامِ بالقِسْطِ ، والواجِبُ هُنَا : أن تكُون الشَّهادة متأخِّرَة عن القِيَامِ بالقِسْطِ . قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } إذا عُطِف بـ " أوْ " كان الحُكْمُ في عَوْدِ الضَّمِير ، والإخْبَارِ ، وغيرهما لأحدِ الشَّيْئَيْن أو الأشياء ، ولا يجُوزُ المُطابَقَةُ ، تقول : " زَيْد أو عَمْرو أكْرمتهُ " ولو قُلْتَ : أكرمتهُمَا ، لم يَجُز ، وعلى هذا يُقال : كيف ثَنَّى الضَّمِير في الآية الكَرِيمَةِ ، والعطف بـ " أو " ؟ لا جَرَم أن النَّحْويِّين اختلَفُوا في الجواب عن ذلك على خَمْسَةِ أوْجُه : أحدُها : أنَّ الضَّمِير في " بهما " ليس عَائِداً على الغَنِيِّ والفقير المَذْكُورين أولاً ، بل على جنْسَي الغني والفَقِير المدلُولِ عليهما بالمَذْكُورَيْن ، تقديرُه : وإنْ يكنِ المشهُودُ عليه غَنِيًّا أو فقيراً ، فليشْهَد عليه ، فاللَّهُ أوْلى بجنْسَي الغنيِّ والفقيرِ ؛ ويَدُلُّ على هذا قِراءة أبَيِّ : " فاللَّه أوْلَى بِهِمْ " أي : بالأغنياء والفقراءِ مراعاةً للجِنْسِ على ما قَرَّرته لَك ، ويكون قوله : { فالله أوْلى بهما } ليس جواباً للشرط ، بل جَوابُه مَحْذُوفٌ كما قَدْ عَرَفْتَه ، وهذا دالٌّ عليه . الثاني : أنَّ " أو " بمعنى : الواو ؛ ويُعْزى هذا للأخْفش ، وكنت قدَّمْتُ أوّلَ البقرة : أنه قولُ الكوفيين ، وأنه ضعيفٌ . الثالث : أن " أو " : للتَّفْصِيل أي : لتفصيلِ ما أبْهِم ، وقد أوضح ذلك أبُو البقاء ، فقال : " وذلك أنَّ كلَّ واحدٍ من المَشْهُود عليه والمشهود له ، قد يكُون غنيًّا ، وقد يكُون فقيراً ، وقد يكونان غَنِيَّيْنِ ، وقد يكونان فَقَيرَيْن ، وقد يكون أحَدُهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً ؛ فلما كَانتِ الأقسام عند التَّفْصِيل على ذلك ، أُتِي بـ " أو " ، لتَدُلَّ على التَّفْصِيل ؛ فعلى هذا يكون الضَّمِير في " بهِما " عائداً على المَشْهُود له والمشهود عليه ، على أيِّ وصفٍ كانا عليه " انتهى ؛ إلا أنَّ قوله : " وقد يكون أحَدهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً " مكرَّرٌ ؛ لأنه يُغْني عنه قوله : " وذَلِك أنَّ كلَّ وَاحِد " إلى آخره . الرابع : أنَّ الضَّمِير يعود على الخَصْمَيْن ، تقديره : إن يكُن الخصمان غنيّاً أو فقيراً ، فالله أوْلى بِذَينك الخصمين . الخامس : أن الضَّمير يعود على الغَني والفَقير المدْلُول عليهما بلَفْظ الغنّي والفقير ، والتقديرُ : فاللَّهُ أولى بغنى الغني وفقر الفقير ، وقد أساء ابن عصْفُور العِبَارة هنا بما يُوقفُ عليه في كلامه ، وعلى أربعة الأوجهِ الأخيرة يكونُ جوابُ الشَّرط ملفوظاً به ، وهو قوله : { فالله أوْلى بِهمَا } بخلاف الأوَّل ؛ فإنه مَحْذُوفٌ . وقرأ عبد الله بن مسعود : " إن يَكُنْ غنيٌّ أو فقيرٌ " برفعهما ، والظَّاهرُ أنَّ " كان " في قراءته تامةٌ ، أي : وإنْ وجِد غِنِيٌّ أو فقير ، نحو : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] . قوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ } أي : اتركُوا متابعة الهَوَى ؛ حتى توصَفُوا بالعَدْل ؛ لأنَّ العدل عِبارة عن تَرْك مُتَابعة الهَوَى ، ومن تَرَك أحَد النَّقِيضَيْن ، فقد حَصَل له الآخَر . قوله : " أنْ تَعْدِلُوا " فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنه مَفْعُولٌ مِنْ أجله على حَذْفِ مضافٍ ، تقديره : فلا تتَّبِعُوا الهوى محبةَ أنْ تَعْدِلوا ، أو إرادةَ أنْ تَعْدِلوا ، أي : تَعْدِلوا عن الحَقِّ وتجُوروا . وقال أبو البقاء في المضافِ المحذوف : " تقديره : مخافة أن تَعْدلوا عن الحَقِّ " . وقال ابن عَطِيَّة : " يُحْتمل أن يكُونَ مَعْناه : مخافة أن تَعْدِلوا ، ويكُون العَدْلُ هنا بِمَعْنى : العُدول عن الحَقِّ ، ويُحْتمل أن يكُونَ معناه : مَحَبة أنْ تَعْدِلوا ، ويكونُ العَدْلُ بمعنى : القِسْطِ ؛ كأنه يقول : انتهوا ؛ خوفَ أن تجُورُوا ، أو مَحَبِّة أنْ تُقْسِطُوا ، فإنْ جعلْتَ العَامِل " تَتَّبِعُوا " فيحتمل أن يكونَ المَعْنَى : محبةَ أنْ تجُوروا " انتهى ؛ فتحصَّل لنا في العَامِل وجهان : الظاهرُ منهما : أنه نَفْسُ " تتبعوا " . والثاني : أنه مُضْمَر ، وهو فعلٌ من مَعْنَى النهي ؛ كما قدَّره ابنُ عطيَّة ، كأنه يزْعمُ أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله : { فلا تتَّبعُوا الهَوَى } ثم أضْمَرَ عَامِلاً ، وهذا ما لا حَاجَة إليه . الثاني : أنه على إسْقَاطِ حرْفِ الجَرِّ ، وحذْفِ " لا " النَّافِية ، والأصْل : فلا تتَّبعوا الهَوَى في ألاَّ تَعْدِلوا ، أي : في تَرْكِ العَدْل ، فحذف " لا " لدلالة المَعْنَى عَلَيْهَا ، ولمَّا حَذَف حَرْفَ الجر من " أنْ " جرى القَوْلان الشَّهِيرَان . الثَّالث : أنه عَلَى حَذْفِ لام العِلَّة ، تقديرُه : فلا تتبعوا الهوى ؛ لأن تَعْدِلوا . قال صَاحِب هذا القول : " والمعنى : لا تتبعُوا الهوى ؛ لتكونوا في اتِّباعِكُمُوه عدُولاً ، تنبيهاً على أن اتباعَ الهوى وتَحَرِّي العدالةِ مُتَنَافيان لا يجتمعان " وهو ضَعِيفٌ في المَعْنَى . قوله : " وَإِن تَلْوُوا " قرأ ابن عامرٍ ، وحمزة : " تَلُوا " بلامٍ مَضْمُومةٍ وواوٍ ساكنة ، والبَاقُون : بلامٍ ساكنةٍ وواوَيْن بعدهَا ، أولاهُمَا مَضْمُومة . فأمَّا قراءةُ الوَاوَيْن ، فظاهرةٌ ؛ لأنه من لَوَى يَلْوي ، والمعْنَى : وإنْ تَلْووا ألسِنَتكُم عن شهادةِ الحَقِّ أو حكومَةِ العَدْل ، والأصْلُ : تَلْوِيُون كتَضْرِبون ، فاستُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ على اليَاءِ فحُذفت ، فالتقى سَاكِنَان : الياء وَوَاو الضَّمِير ، فحُذِف أوّلُهما - وهو الياء - وضُمَّت الواوُ المكْسُورةُ التي هِيَ عَيْن لأجْل واوِ الضميرِ ، فصار : تَلْوُون ، وتصريفُه كتصريف " تَرْمُونَ " . فإن كان عَنِ الشَّهادة ، فالمَعْنَى : يحرِّفُوا الشَّهادة ؛ ليُبْطِلُوا الحقَّ ، من قولهم : لوى الشيء ، إذا فتله ، ومنه يُقَال : التَوَى هذا الأمْر ، إذا تَعَقَّد وتعسَّرَ ، تشبيهاً بالشَّيْءِ المُنْفَتِل ، أو تُعْرِضُوا عنها فَتَكْتُمُوهَا ، أو يُقَال : تَلْوُوا في إقامة الشَّهَادة إذا تَدَافَعُوا ، يقال : لَوَيْتُه حَقَّه ؛ إذا دَفَعْتَه وأبْطلْتَه . وإن كان عَنَى الحُكْم بالعَدْل ، فهو خِطَاب للحُكَّام في لَيِّهم الأشداق ، يقول : " وَإِنْ تَلْوُواْ " أي : تميلُوا إلى أحَدِ الخَصْمَيْن ، أو تُعْرِضُوا عنه . وأما قراءة حمزة وابنِ عامرٍ ، ففيها ثلاثة أقوال : أحدُها : وهو قول الزَّجَّاج ، والفراء ، والفارسي في إحدى الرِّوايَتَيْن عنه - أنه من لَوَى يَلْوي ؛ كقراءة الجماعة ، إلاَّ أنَّ الوَاوَ المَضْمُومةَ قُلِبَتْ هَمْزةً ؛ كقلبها في " أجُوه " و " أُقِّتَتْ " ، ثم نُقِلت حركةُ هذه الهَمْزةِ إلى السَّاكن قَبْلَها وحذفت ، فصار : " تَلُون " كما ترى . الثاني : أنه من لَوَى يَلْوي أيضاً ، إلا أن الضَّمَّة استُثْقِلَتْ على الواو الأولى فنُقِلت إلى اللام السَّاكِنَة تَخْفِيفاً ، فالتقى ساكِنَان وهما الواوان ، فحُذِف الأوَّل مِنْهُما ، ويُعْزى هذا للنَّحَّاسِ ، وفي هَذَيْن التخريجَيْن نظرٌ ؛ وهو أنَّ لامَ الكَلِمَة قد حُذِفَتْ أولاً كما قَرَّرْته ، فصار وَزْنُه : تَفْعُوا ، بحذف اللاَّم ، ثم حُذِفت العَيْنُ ثانياً ، فصار وزنه : تَفُوا ، وذلك إجْحَافٌ بالكلمة . الثالث : ويُعْزى لجَمَاعةِ منهم الفَارسيُّ - أن هذه القِرَاءة مأخُوذة من الولاية ، بمعنى ، وإنْ وُلِّيتم إقَامة الشَّهَادة أو وُلِّيْتُم الأمرَ ، فتَعْدِلُوا عنه ، والأصل : " تَوْلِيُوا " فحذفت الواوُ الأولى لِوُقُوعِها بين حَرْفِ المُضَارَعَةِ وكسرةٍ ، فصار : " تَلِيُوا " كتَعِدُوا وبَابِه ، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياءِ ، ففُعِل بها ما تَقَدَّم في " تَلْوُوا " ، وقد طَعَنَ قومٌ على قِرَاءة حَمْزة وابن عامرٍ - منهم أبو عُبَيْد - قالوا : لأنَّ معنى الوِلاَية غيرُ لائقٍ بهذا المَوْضِع . قال أبو عبيد : " القراءةُ عندنا بوَاوَيْن مأخوذةٌ من : " لَوَيْتُ " وتحقيقه في تفسيرِ ابن عبَّاسٍ : هو القَاضِي ، يكُونُ لَيُّه وإعراضُه عن أحد الخَصْمَيْن للآخر " وهذا الطعنُ ليس بِشَيْء ؛ لأنها قراءةٌ متَواتِرَةٌ ومعناها صَحيحٌ ؛ لأنَّه إن أخَذْناها من الوِلاَية كان المَعْنَى على ما تقدَّم ، وإن أخذناها مِنَ الليِّ ، فالأصلُ : " تَلْوُوا " كالقراءة الأخْرى ، وإنما فُعِل بها ما تَقَدَّم من قَلْبِ الوَاوِ هَمْزةً ونَقْل حركتها ، أو من نَقْلِ حَرَكَتِها من غير قَلْبٍ ، فتتَّفِقُ القراءَتَان في المَعْنَى . ثم قال : { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } وهذا تهديدٌ ووعيدٌ للمذنِبِين ، ووعد بالإحْسَان للمُطِيعينَ .