Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 142-143)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد تقدَّم تفسير الخِدَاع واشتقاقه أوّل البقرة ، ومعنى المُفَاعَلة فيه . قال الزَّجَّاج : مَعْنَاه : يُخَادِعُون الرَّسُول ، أي : يظهرون لَهُ الإيمَان ويبطنون الكُفْرَ ؛ كقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، وسمّي المُنَافِق مُنَافِقاً ؛ أخذاً من : نَافِقَاء اليَرْبُوع ؛ وهي جُحْره ؛ فإنه يَجْعَلُ له بَابَيْن ، يَدْخُلُ من أحدهما ويَخْرُجُ من الآخَر ؛ كذلك المُنَافِق ، يَدْخُل مع المؤمنين بقوله : أنا مُؤمِنٌ ، [ ويدخل مع الكَافِر بقوله : أنا كَافِر ] ، وجُحْرُ اليَرْبُوعِ يُسَمَّى النَّافِقَاء ، والسَّاميَاء والدَّامياء ، [ فالسَّامِيَاء ] : هو الجحر الذي تلد فيه الأنْثَى ، [ والدامياء : هو الذي يَكُون ] فيه . قوله : " وَهُوَ خَادِعُهُمْ " فيه ثلاثة أقْوَالٍ : أحدها : ذكرَه أبُو البقاء : أنه نَصْبٌ على الحَالِ . والثاني : أنَّها في مَحَلِّ رفعٍ عطْفاً على خَبَر " إنَّ " . الثالث : أنَّها استِئْنَاف إخْبَار بِذَلك . قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " وخادعٌ : اسم فاعِل من خَادعْتُه ، فَخَدَعْتهُ إذا غَلَبْتهُ ، وكنت أخْدَع مِنْه " . قوله : " وَهُوَ خَادِعُهُم " أي : مُجَازيهم بالعِقَاب على خِدَاعِهم . قال ابن عبَّاس : إنهمَ يُعْطَوْن نوراً يَوْم القِيَامةِ كالمؤمنين ، فيَمْضِي المُؤمِنُون بنورهم على الصِّراطِ ، ويُطْفَأ نور المُنَافِقِين ، يدلُّ عليه قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [ البقرة : 17 ] . قوله : " وإذا قَامُوا " عطفٌ على خَبَر " إنَّ " أخبر عَنْهم بِهَذِه الصِّفَاتِ الذَّميمة ، و " كُسَالى " : نصبٌ على الحَالِ من ضَمِير " قَامُوا " الواقع جواباً ، والجُمهورُ على ضمِّ الكاف ، وهي لُغة أهل الحِجاز [ جمع كَسْلان : كسَكَارَى ] ، وقرأ الأعرج بفتحها ، وهي لُغَةُ تميم وأسَدٍ ، وقرأ ابن السَّمَيْفع : " كَسْلى " وصَفَهم بِمَا تُوصف به المُؤنَّثَة المفردةُ ، اعْتِبَاراً بمعنى الجماعة ؛ كقوله : " وتَرَى الناسَ سَكْرى " ، والكسلُ : الفُتُورُ والتواني ، وأكْسَل : إذا جَامَعَ وفَتَر ولم يُنْزل . والمعنى : أن المُنَافِقِين إذا قامُوا إلى الصَّلاةِ ، قاموا مُتَثَاقِلِين ، لا يُرِيدُون بها الله - تعالى - ، فإن رَآهم أحَدٌ ، صلَّوا ، وإلا انْصَرَفُوا فَلَمْ يُصَلُّوا . قوله : " يُراؤون [ النَّاسَ ] " في هذه الجُمْلَةِ ثلاثةُ أوجه : أحدُها : أنها حَالٌ من الضَّمير المُسْتَتر في " كُسَالى " . الثاني : أنها بَدَلٌ من " كُسَالَى " ؛ ذكره أبو البقاء ، فيكونُ حالاً من فاعل " قَامُوا " وفيه نظر ، لأنَّ الثَّاني ليس الأوَل ولا بَعْضَه ولا مُشْتَمِلاً عليه . الثالث : أنها مُستأنفةٌ أخْبر عَنْهم بذلك ، وأصلُ يُراؤون : يُرائِيُون ، فأعِلَّ كَنَظائره ، والجمهور على : " يُراؤون " من المُفاعلةِ . قال الزَّمْخْشَرِيُّ : فإنْ قلت : ما مَعْنَى المراءاة ، وهي مُفاعَلَة من الرُّؤيَة ؟ قلت : لها وجهان : أحدهما : أنَّ المُرَائِيَ يُريهم عَمَلَه ، وهم يُرُونه الاسْتحْسَانَ . والثاني : أن تكُونَ من المُفاعلة بمعنى : التَّفْعِيل ، يقال : نعَّمه وناعَمَهُ ، وفَنَّقه وفَانَقَه ، وعيش مُفَانِق ، وروى أبو زَيْد : " رأَّت المَرْأةُ المِرْآة [ الرَّجُل ] " إذا أمْسكَتْها له ليرى وَجهَه ؛ ويدل عليه قراءةُ ابن أبي إسحاق : " يُرَؤّونَهُم " بهمزةٍ مُشَدَّدةٍ مثل : يُدَعُّونهم ، أي : يُبَصِّرونهم ويُرَاؤونهم كذلك ، يعني : أن قراءةَ : " يُرَؤُّنهم " من غير ألفٍ ، بل بهمزةٍ مَضْمُومةٍ مشدَّدَةٍ توضِّح أنَّ المُفاعَلَة هنا بِمَعْنَى التفعيل . قال ابن عَطِيَّة : " وهي - يعني هذه القراءة - أقْوَى من " يُرَاؤُونَ " في المعنى ؛ لأنَّ مَعْنَاها يَحْمِلُون النَّاسَ على أنْ يَرَوْهم ، ويتظاهَرُون لهم بالصَّلاة ويُبْطنُون النِّفَاقَ " وهذا منه ليس بجيِّد ؛ لأنَّ المُفَاعَلة إنْ كَانَت عَلَى بابها ، فهي أبْلَغُ لِما عُرِفَ غيرَ مرَّة ، وإنْ كانت بِمَعْنَى التفعيل ، فهي وَافِيةٌ بالمَعْنَى الذي أرَادَه ، وكأنه لم يَعْرِف أنَّ المفاعلة قد تَجِيءُ بمعنى التَّفْعِيل . ومتعلَّقُ المُرَاءاةِ محذُوفٌ ؛ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءى به ، والأحْسَن أن تُقَدِّر : يُراؤون النَّاسَ بأعْمَالِهم . قوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } " ولا يَذْكُرُون " ، يجوز أن يكون عَطْفاً على " يُرَاؤُون " ، وأن يكون حالاً من فاعِل " يُراؤُون " وهو ضعيفٌ ؛ لأن المُضارع المَنْفِيَّ بـ " لا " كالمُثْبَتِ ، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً ، لا يَقْترِنُ بالوَاوِ ، فإنْ جَعَلها عَاطِفَةً ، جَازَ . وقوله : " قليلاً " : نعتٌ لمصدرٍ محذُوفٍ ، أو لزمان مَحْذوفٍ ، أي : ذكْراً قليلاً أو زمناً قليلاً ، والقلةُ هُنَا على بابها ، وجَوَّز الزَّمَخْشَرِيُّ وابن عطِيَّة : أن تكون بِمَعْنَى العَدَم ، ويأباه كَوْنُه مُسْتَثْنى ، وقد تقدَّم الردُّ عليهمَا في ذَلِكَ . فصل قال ابنْ عبَّاسٍ ، والحسن : إنَّما قال ذَلِك ؛ لأنَّهمُ يَفْعَلُونها رِيَاءً وسُمْعَة ، ولو أرَادُوا بذلك القَلِيل وَجْهَ اللَّه ، لكان كَثِيراً ، وقال قتادة : إنَّما قلَّ ذكرُ المُنَافِقِين ؛ لأنَّ الله لم يَقْبله ، وكلّ ما قَبِلَ اللَّه ، فهو كَثِيرٌ . وقيل : المعنى : لا يصلّون إلا قَليلاً ، [ والمُرادُ بـ " الذكر " الصَّلاة ] ، وقيل : لا يَذْكُرُون اللَّه في جَمِيع الأوقات ، سواءً كان وَقْت الصَّلاة أوْ لَمْ يكُن إلاَّ قَلِيلاً نادراً . قال الزَّمَخْشَرِيُّ : [ وترى ] كثيراً من المُتَظَاهِرِين بالإسْلام ، لو صِحِبْتَهُ الأيَّام واللَّيَالي ، لَمْ تسمع منه تَهْلِيلَةً ، ولكن حَدِيث الدُّنْيَا يَسْتَغْرقُ به أوْقاته ، لا يَفْترُ عَنْه . قوله : " مُذَبْذَبِينَ " : فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أنه [ حالٌ ] من فاعل " يراءون " . الثاني : أنه حالٌ من فاعل " وَلاَ يَذْكُرُون " . الثالث : أنه منصوبٌ على الذَّمِّ ، والجمهور على " مُذَبْذَبينَ " بميمٍ مضمومة وذَالَيْن معجمتَيْن ، ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول ، من ذَبْذَبْتُهُ ، فَهُوَ مُذَبْذَبٌ ، أي : مُتَحَيِّرٌ ، وقرأ ابن عبَّاس وعمرو بنُ فائدٍ بكَسْر الذال الثانيةِ اسمَ فاعلٍ ، وفيه احتمالان : أحدهما : أنه من " ذَبْذَب " متعدِّياً ، فيكونُ مفعولُه محذوفاً ، أي : مُذَبْذَبينَ أنْفُسَهُمْ أو دينهُمْ ، أو نحو ذلك . الثاني : أنه بمعنى تَفَعْلَل ، نحو : " صَلْصَلَ " فيكون قاصراً ؛ ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أبَيٍّ ، وما في مصحف عبد الله " مُتَذَبْذِبِينَ " فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابن عبَّاس بمعنى مُتَذَبْذبين ، وقرأ الحَسَنُ البصريُّ " مَذَبْذَبِين " بفتح الميم . قال ابن عطيَّة : " وهي مردودةٌ " وقال غيره : لا ينبغي أن تَصِحَّ عنه ، واعتذر أبو حيان عنها لأجْلِ فصاحة الحَسَن ، واحتجاجِ الناس بكلامه بأنَّ فتْح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال ؛ قال : " وإذا كانُوا قد أتبعوا في " مِنْتِنٍ " حركة الميم بحركة التاء ، مع الحاجز بينهما ، وفي نحو " مُنْحَدُر " أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حالة الرفع ، مع أنَّ حركة الإعراب غيرُ لازمة ؛ فلأنْ يُتْبِعُوا في نحو " مَذَبْذَبِينَ " أوْلَى " . [ قال شهاب الدين : ] وهذا فاسدٌ ؛ لأن الإتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائِرَها إنما هو إذا كانت الحركةُ قويةً ، وهي الضمةُ والكسرةُ ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ ، فلم يُتْبِعُوا لأجْلها ، وقرأ ابن القعقاع بدَالَيْن مُهْملتَيْنِ من الدُّبَّة ، وهي الطريقة [ الَّتي يُدَبُّ فيها ] يقال : " خَلِّني وَدُبَّتِي " أي : طريقَتِي ؛ قال : [ الطويل ] @ 1894 - طَهَا هُذْرُبَانٌ قَلَّ تَغْمِيضُ عَيْنِهِ عَلَى دُبَّةٍ مِثْلِ الْخَنِيفِ المُرَعْبَلِ @@ وفي حديث ابن عبَّاس : " اتَّبِعُوا دُبَّةَ قُرَيْشٍ " ، أي : طَريقَهَا ، فالمعنى على هذه القراءة : أن يأخُذَ بهم تارةً دُبَّةً ، وتارة دُبَّةً أخرى ، فَيَتْبَعُونَ متحيِّرين غيرَ ماضينَ على طريقٍ واحدٍ . ومُذَبْذَبٌ وشبهُه نحْوُ : مُكَبْكَبٍ ومُكَفْكَفٍ ؛ مِمَّا ضُعِّفَ أولُه وثانيه ، وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثه - فيه مذاهبٌ : أحدها : - وهو قولُ جمهور البصريين - : أنَّ الكلَّ أصولٌ ؛ لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ ، وليس أحدُ المكرَّرين أوْلَى بالزيادةِ من الآخر . الثاني - ويُعْزَى للزجَّاج - : أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدٌ . الثالث - وهو قول الكوفيين - : أن الثالث بدلٌ من تضعيف الثاني ، ويزعُمُون أن أصل كَفْكَفَ : كَفَّفَ بثلاث فاءات ، وذَبْذَبَ : ذَبَّبَ بثلاث ياءات ، فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ أمثالٍ ، فأبْدَلُوا الثالثَ من جنْس الأوَّل ، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث ، نحو : سِمْسِم وَيُؤيُو وَوَعْوَعٍ ؛ فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ ، والذَّبْذَبَةُ في الأصل : الاضطرَابُ والحركة ومنه سُمِّي الذُّباب ؛ لكَثْرة حركَتِه . قال - عليه السلام - : " من وُقي شر قَبْقَبه وذبذبه ولَقْلَقِه وجبت له الجَنَّة " يعني : الذكر يُسَمَّى بذلك لتَذَبْذُبِه ، أي : حركته ، وقيل التَّذَبْذُب : التَّرَدُّد بين حَالَيْن . قال النابغة : [ الطويل ] @ 1895 - ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 1896 - خَيَالٌ لأمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْبَعيرِ المُذَبْذِبِ @@ بكسر الذال الثانية ، قال ابنُ جنِّي : " أي : القَلق الذي لا يستقرُّ " ؛ قال الزمخشريُّ : " وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين ، أي : يُذاد ويُدْفع ، فلا يقرُّ في جانبٍ واحدٍ ، كما يقال : " فُلانٌ يُرْمَى به الرَّحَوانِ " ، إلا أنَّ الذبذبة فيها تكريرٌ ليْسَ في الذَّبِّ ، كأنَّ المعنى : كلَّما مالَ إلى جانبٍ ذَبَّ عنه " . قال ابن الأثير في " النهاية " : وأصْلُه من الذَّبِّ وهو الطَّرْدُ ؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام : " تزوَّجْ وإلاَّ فأنْتَ مِنَ المُذَبْذَبِينَ " أي : المَطْرُودين عن المؤمنين لأنَّكَ لم تَقْتَدِ بهم ، وعن الرُّهْبَانِ ؛ لأنك تَرَكْتَ طَريقَتَهُم ، ويجُوز أن يكُونَ من الأوّل . و " بَيْنَ " معمولٌ لقوله : " مُذَبْذَبِينَ " و " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى الكُفْر والإيمانِ المدلولِ عليهما بذكْرِ الكافرين والمؤمنين ، ونحو : [ الوافر ] @ 1897 - إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه … @@ أي : إلى السَّفَهِ ؛ لدلالة لفظ السفيه عليه ، وقال ابن عطية : " أشير إليه ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ؛ لتضمُّن الكلام له ؛ نحو : { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ ص : 32 ] { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] يعني توارتِ الشمسُ ، وكُلُّ من على الأرْضِ ؛ قال أبو حيان " وليس كذلك ، بل تقدَّم ما يدُلُّ عليه " وذكر ما قدَّمْتُه ، وأشير بـ " ذَلِكَ " وهو مفردٌ لاثنين ؛ لما تقدَّم في قوله { عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ } [ البقرة : 68 ] . قوله : { لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } " إِلَى " في الموضعيْنِ متعلقةٌ بمحْذُوف ، وذلك المحذوف هو حالٌ حُذِفَ ؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : مُذَبْذَبينَ لا مَنْسُوبينَ إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء ، فالعاملُ في الحال نَفْسُ " مُذَبْذَبينَ " ، قال أبو البقاء : " وموضعُ { لا إلى هؤلاءِ } نصبٌ على الحالِ من الضمير في مذبذبين ، أي : يتذبذبون مُتَلَوِّنينَ " وهذا تفسير معنًى ، لا إعراب . فصل قال قتادة : معنى الآيَة : ليْسُوا مُؤمِنين مُخْلصِينَ ، فَيَجِبُ لَهُم مَا يجِبُ للمُؤمنين ، ولا مُشْرِكين مُصَرِّحِين بالشِّرْكِ . وروى نَافعٌ عن ابن عمر ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال : " مثَلُ المُنَافِقِ كمثلِ [ الشَّاةِ ] العَائِرَةِ بين الغَنَمَيْن تَعِيرُ إلى هذه مَرَّةً وإلى هَذِه مَرَّة " . فصل في أن الحيرة في الدين بإيجاد الله تعالى استدلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الحِيرَة في الدِّينِ إنَّما تَحْصُل بإيجَادِ اللَّه - تعالى - ؛ لأن قوله : " مُذَبْذَبِينَ " يقتضي فَاعِلاً قد ذَبْذَبَهُم ، وصَيَّرَهُم مُتَردِّدِين ، وذلك ليس باخْتِيَار العَبْدِ ، فإن الإنْسَان إذا وَقَع في قلبه الدَّوَاعِي المُتعَارِضَة ، المُوجِبَة للتَّحَيُّر والتَّرَدُّد ، فلو أرَادَ أن يَدْفَع ذلك التَّرَدُّد عن نَفْسِه ، لم يَقْدِر عليه أصْلاً ، ومن تأمَّل في أحْوَالِهِ عَلِمَ ذلك ، وإذا ثَبَت أنَّ تِلْكَ الذَّبْذَبَة لا بُدَّ لها من فاعلٍ ، وأن فاعِلَها لَيْس هو العَبْدُ ؛ ثبت أنَّ فَاعِلَهَا هو اللَّه - تعالى - . فإن قيل : قوله - تعالى - : { لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } يقتضي ذَمَّهُم على تَرْكِ طَريقَةِ المُؤمنين ، وطريقَة الكُفَّار ؛ والذَّمُّ على تَرْكِ طريقِ الكُفَّارِ غير جَائِزٍ . فالجواب : أنَّ طريقة الكُفَّار وإن كانت خَبِيثَةً ، إلا أن طريقَةَ النِّفَاقِ أخْبَثُ منها ؛ ولذلك فإن الله - تعالى - ذم الكُفَّار في أوَّل سُورَةِ البَقَرَةِ في آيتين ، وذمَّ المُنافِقِين في تِسْعَ عَشْرَة آية ، وما ذَلِك إلا لأن طَريقَة النِّفَاقِ أخْبَثُ من طَرِيقَةِ الكُفَّارِ ، فهو - تعالى - لم يَذُمَّهم على تَرْكِ الكُفْرِ ، بل لأنَّهُم عَدَلُوا عن الكُفْرِ إلى مَا هُو أخْبَثُ من الكُفْرِ . قوله : { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طَرِيقاً إلى الهُدَى . واسْتَدَلوا بهذه الآيَة على مَسْألتيْنِ : الأولَى : أن تلك الذَّبْذَبَة من اللَّه - تعالى - ، وإلا لَمْ يتَّصِلْ هذا الكلام بما قَبْلَهُ . الثانية : أنه صَريحٌ في أن اللَّه - تعالى - أضَلَّهُم عن الدِّينِ . قالت المعتزلة : فمعنى هذا الإضلالِ : أنه عِبَارةٌ عن حُكْم اللَّه - تعالى - عَلَيْهِ بالضَّلالِ ، أو أنَّه - تعالى - يُضِلُّه يوم القيامة عن طريق الجَنَّة ، وقد تقدَّم مثل ذَلِك .