Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 1-1)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال بعض المفسرين : " ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف على النساء والأيتام ، ذكر فيها أحكاماً كثيرة ، وبذلك ختمها ، ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس والطِّبَاع ، افتتحها بالأمر بالتقوى المشتملة على كل خير " . فصل روى الواحدي عن ابن عباس في قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } أن هذا الخطاب لأهل مكة . وأما الأصوليون من المفسرين فاتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلّفين ، وهذا هو الأصحُّ ؛ لأن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق ، ولأنه علّل الأمر بالاتِّقَاءِ لكونه تعالى خالق لهم من نفس واحدة ، وهذه العلة موجودة في جميع المكلفين . وأيضاً فالتكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة ، بل هو عام ، وَإذَا كان لفظ الناس عاماً ، والأمر بالتقوى عاماً ، وعلة هذا التكليف عامةً ، فلا وجه للتخصيص ، وحجة ابن عباس أن قوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] مختص بالعرب ؛ لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم ، فيقولون : " أسألك بالله وبالرحم ، أنشدك الله والرحم " ، وإذا كان كذلك ، كان قوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] مختصاً بالعرب ، فيكون قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } مختصاً بهم ، لأن الخطابين متوجهان إلى مخاطب واحد . ويمكن الجواب عنه بأن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم الآية . فصل اعلم أنه تعالى جعل الافتتاح لسورتين في القرآن : أحدهما : هذه وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن ، وعلل الأمر بالتقوى فيهما بما يدل على معرفة المبدأ بأنه خلق الخلق من نفس واحدة ، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وحكمته . والثانية : سورة الحج وهي الرابعة أيضاً من النصف الثاني من القرآن وعلَّلَ الأمر بالتقوى فيها بما يدل على معرفة المعاد . فَجَعَلَ صدر هاتين السورتين دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد ، وقدّم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد ، وهذا سر عظيم . { مِّن نَّفْسٍ } متعلق بـ " خلقكم " فهو في محل نصب ، و " من " لابتداء الغاية ، وكذلك " منها زوجها وبتَّ منهما " والجمهور على واحدة بتاء التأنيث ، وأجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنفس الواحدة [ هاهنا ] آدم عليه السلام ، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } [ الكهف : 74 ] . وابن أبي عبلة واحدٍ من غير [ تاء ] تأنيث وله وجهان : أحدهما : مراعاة المعنى ؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه السلام . والثاني : أن النفس تذكر وتؤنث . وعليه قوله : [ الوافر ] @ 1726 - ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي @@ قوله : { وَخَلَقَ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه عطفٌ على معنى " واحدة " لما فيه من معنى الفعل ، كأنه قيل : " من نفس وحدت " أي : انفردت ، يُقال : " رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة " انفرد . الثاني : أنه عَطْفٌ على محذوف . قال الزَّمَخْشرِيُّ : " كأنه قيل : من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها " بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها ، وَإنَّما حمل الزمخشري رحمه الله تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي ؛ لأن خلق حواء - وهي المعبر عنها بالزوج - قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك ، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح . الثالث : أنه عطف على " خَلْقَكُمْ " ، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها ، إذ لا تقتضي ترتيباً ؛ إلا أن الزَّمَخشريَّ رحمه الله تعالى خَصَّ هذا الوجه بكون الخطاب [ للمؤمنين ] في { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال : والثاني أنه يُعْطَفُ على " خلقكم " ويكون الخطاب للذين بُعِثَ إليهم الرسول ، والمعنى : خلقكم من نفس آدم ؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [ منه ] وخلق منها أُمَّكم حواء . فظاهر هذا خصوصيَّةُ الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين ، وفيه نظر ، وَقَدَّرَ بعضهم مضافاً في " منها " أي : " مِنْ جِنْسِها زوجَها " ، وهو قول أبي مسلم ، قال : وهو كقوله : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ النحل : 72 ] وقال { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 164 ] وقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ } [ التوبة : 128 ] . قال : وحواء لم تخلق من آدم ، وإنما خلقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم . قال الْقَاضِي : والأول أقوى لقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } . قال ابن الخَطِيبُ : " يمكن أن يجاب بأن كلمة " مِن " لابتداء الغاية ، فَلمَّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم صحّ أن يُقَالَ : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } وأيضاً فالقادر على خلق آدم من التراب ، [ كان قادراً أيضاً على خلق حواء من التراب ] ، وَإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه " . وقرئ " وخالِقُ وباثٌّ " بلفظ اسم الفاعل ، وخَرَّجَهُ الزمخشريُّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : وهو خالِقٌ وباثٌّ . وَيُقَالُ : بَثَّ وأبَثَّ ومعناه " فَرَّقَ " ثلاثياً ورباعياً . قال ابن المظفر : " البثُّ تَفْرِيقَكَ الأشياء " . يقال : بَثَّ الخيلَ في الغارة ، وبَثَّ الصيَّادُ كِلاَبَهُ ، وخلق الله الخلق : بَثَّهُمْ في الأرض ، وبثثت البسطة إذا نشرتها . قال تعالى : { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ الغاشية : 16 ] . فإن قيل : ما المناسبةُ بين الأمر بالتقوى وما ذكر معه من الوصف ؟ فالجواب : لما ذكر أنَّهُ خَلَقَنَا من نفس واحدة ، وذلك علة لوجوب الانقياد علينا لتكاليفه ؛ لأنا عبيده وهو مولانا ، ويجب على العبد الانقياد لمولاه ؛ ولأنه أنعم ومَنَّ بوجوه الإنعام والامتنان ، فأوجد وَأَحْيَا وعَلَّمَ وهَدَى ، فعلى العبد أن يُقَابِلَ تلك النِّعم بأنواع الخضوع والانقياد ؛ ولأنه بكونه موجداً وخالقاً وَرَبًّا يجبُ علينا عبادته ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثواباً ؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب ، وثواب هذا إن سَلَّمْنَا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ، فكيف وهذا محال ؛ لأن الطاعات لا تحصل إلاَّ بخلق الله - تعالى - القدرة عليها ، والداعية إليها [ ومتى حصلت القدرة والداعي كان ] مجموعهما موجباً لصدور الطاعة ، فتكون تلك الطاعة إنعاماً آخر . وأيضاً أنَّهُ خلقنا مِنْ نفسٍ واحدةٍ ، ذلك أيضاً يوجبُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على كمال القدرة ؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلاَّ إنسان يشاكله ويشابهه في الْخِلْقَةِ والطبيعةِ ، ولَمَّا اختلف الناس في الصفات والألوان ، دَلَّ على أن الخالق قَادِرٌ مختارٌ عَالِمٌ ، يجب الانقياد لتكاليفه ؛ ولأن اللَّه تَعالى عَقَّبَ الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسانِ إلى الْيَتَامَى والنساءِ والضُّعَفَاء وكونهم من نفْس واحدة باعث على ذلك بكونه [ وذلك لأن الأقارب لا بد أن ] يكون بينهم مواصلة وقرابة ، وذلك يزيد في المحبة ، ولذلك يفرح الإنسان بمدح أقاربه ويحزن بذمهم فقدَّمَ ذكرهم ، فقال : { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ليؤكد شفقة بعضنا على بعض . فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : وبَثَّ منها الرِّجال والنِّسَاءَ . فالجواب : لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما ، وذلك محال ، فلهذا عدل إلى قوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } . وقوله : " كثيراً " فيه وجهان : أظهرهما : أنه نَعْتٌ لـ " رِجَالاً " . قال أبو البقاء : ولم يؤنثه حَمْلاً على المعنى ؛ لأن " رجالاً " بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذَكَّر الفعل المسند إلى جماعةِ المؤنثِ لقوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ } [ يوسف : 30 ] . والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهم بثاً كثيراً ؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على الحالِ . فإن قيل : لم خَصَّ الرِّجَالَ بوصفِ الكثرةِ دون النساء ؟ ففيه جوابان : أحدهما : أنه حَذَفَ صِفَتَهُنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره : ونساءً كثيرة . والثاني : أنَّ الرِّجال لشهرتهم [ وبروزهم ] يُنَاسِبُهم ذلك بخلافِ النِّسَاء ، فإنَّ الأليقَ بِهِنَّ الخمولُ والإخفاء . قوله : { تَسَآءَلُونَ } قرأ الكوفيون " تَسَاءَلُونَ " بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً ، والأصل : " تتساءلون " به ، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ : هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين ؛ لأن مقاربتها في الهمس ، ولهذا تُبْدَلُ من السين ، قالوا : " ست " والأصل " سِدْسٌ " وقرأ عبد الله : " تَسْألون " من سأل الثلاثي ، وقُرِئَ " تَسَلون " بنقل حركة الهمزة على السين ، و " تَسَاءلون " على التفاعل فيه وجهان : أحدهما : المشاركة في السؤال . والثاني : أنه بمعنى فَعَلَ ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله . قال أبُو البَقَاءِ : " وَدَخَلَ حَرْفُ الجرِّ في المفعول ؛ لأن المعنى : " تتخالفون " يعني أن الأصل تعدية " تسألون " إلى الضمير بنفسه ، فلما ضُمِّن " تتحالفون " عُدِّي تَعْدِيَتَه " . قوله : { وَٱلأَرْحَامَ } الجمهور نصبوا الميم ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على لفظ الجلالة ، أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها ، وقَدَّرَ بعضهم مضافاً أي : قَطْعَ الأرحام . ويقال : إنَّ هذا في الحقيقةِ من عطف الخاصِّ علا العام ، وذلك أن معنى اتقوا الله ؛ اتقوا مخالَفَتَه ، وقَطْعُ لأرحام مندرج فيها ، وهذا قول مجاهد وقتادة والسَّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج . قال الواحدي : ويجوز أن يكون منصوباً بالإغراء ، أي : والأرحام احفظوها وصلوها كقولك : الأسدَ الأسدَ ، وهذا يَدُلُّ على تحريم قطيعةِ الرحم ووجوب صلتها . والثاني : أنه معطوف على محل المجرور في " به " ، نحو : مررت بزيد وعمراً ، ولمَّا لم يَشْرَكه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع ، وهذا يؤيده قراءة عبد الله " وبالأرحام " . وقال أبو البقاء : تُعَظِّمُونه والأرحام ، لأنَّ الحَلْفَ به تَعْظِيم له . وقرأ حمزة " والأرحامِ " بالجر ، قال القفال : وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره ، وفيها قولان . أحدهما : أنه عَطَفَ على الضمير المجرور في " به " من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تَقَدَّم تحقيقُ ذلك ، وأن فيها ثلاثةَ مذاهب ، واحتجاج كل فريق في قوله تعالى : { وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 217 ] وقد طَعَنَ جَمَاعَةٌ في هذه القراءة ، كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال : حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم ، قال : { وَٱلأَرْحَامَ } بخفض [ الأرحام ] هو كقولهم : " أسألك باللَّهِ والرحمِ " قال : وهذا قبيح ؛ لأنَّ العرب لا ترُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قَدْ كُنِي به ، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهمُ بأنه عطف للمظهر على المضمر ، وهو لا يجوز . قال ابن عيس : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع ، فلا يجوز أن يقال : " اذهب وزيد " و " ذهبت وزيد " ، بل يقولون : اذهبْ أنت وزيد وذهبت أنا وزيد ، قال تعالى : { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } [ المائدة : 24 ] مع أن المضمر المرفوع قد ينفصل ، فإذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المرفوع مع أنه أقوى من المضمر المجرور ، بسبب أنه قد ينفصل ؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور ، مع أنه [ لا ] ينفصل أَلْبَتَّةَ أولى . والثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور ، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به ، وجوابُ القسمِ { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } ، وضُعِّفَ هذا بوجهين : أحدهما : أن قراءتي النصبِ وإظهار حرفِ الجر في بـ " الأرحام " يمنعان من ذلكَ ، والأصلُ توافق القراءات . والثاني : أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى ، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك . وَقَدَّرَ بَعْضهم مضافاً فراراً من ذلك فقال : تقديره : " ورَبِّ الأرحام " . قال أبو البقاء : " وهذا قد أغنى عنه ما قبله " يعني : الحلف بالله تعالى . ويمكن الجواب عن هذا بأن للَّهَ تعالى أن يُقسمَ بما يشاء من مخلوقاته [ كما أقسم ] بالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نَحْنُ منهيين عن ذلك ، إلا أنَّ المقصود من حيث المعنى ، ليس على القسم ، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير ، ولا التفات إلى طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فيها . وأجاب آخرون بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية ؛ لأنهم كانوا يقولون : أسألك بالله وبالرحم ، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل ؛ وأيضاً فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط ، وهاهنا ليس كذلك ، بل هو حلف باللَّهِ أولاً ، ثُمَّ قرن بِهِ بَعْدُ ذكر لرحم ، وهذا لا ينافي مدلول الحديث . أيضاً فحمزة أحد القراء السبعة ، الظاهر أنه لم يَأتِ بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة ، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع ، وأيضاً فلهذه القراءة وجهان : أحدهما : ما تقدم من تقدير تكرير الجار ، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم . والثاني : فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه : [ البسيط ] @ 1727 - فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب @@ وقال الآخر [ الطويل ] @ 1728 - تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَاري سُيُوفُنَا وَمَا بَيْنَهَا والْكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ @@ وقال آخر [ الوافر ] @ 1729 - أكُرُّ على الكِتيبَةِ لا أُبالِي أفِيهَا كَانَ حَتْفِي أمْ سِوَاهَا @@ وحمزة بالرتبة السَّنيَّة المانعةِ له من نقل قراءة ضعيفة . قال بن الخطيبِ : " والعَجَبُ من هَؤلاء [ النحاة ] أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن " . وقرأ عبد الله أيضاً " والأرحامُ " رفعاً على الابتداء ، والخبرُ محذوف فقدَّرَهُ ابن عطية : أهلٌ أنْ توصل ، وقَدَّرَه الزمخشري : " والأرحامُ مِمَّا يتقي " أو " مما يتساءل به " . وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية ، والمعنوية ، بخلاف الأول فإنَّه للدلالة المعنوية فقط ، وقَدَّرَهُ أبو البقاء : والأرحام محترمة ، أي : واجبٌ حرمتها . فإن قيل : ما فائدةُ هذا التكرير في قوله أولاً : { اتقوا ربكم الذي خلقكم } . ثم قال بعده : " واتقوا الله " . فالجواب فائدته من وجوه : الأول : فائدته تأكيد الأمر والحث عليه . والثاني : أن الأمر الأول عامّ في التقوى بناء على الترتيب . والأمر الثاني خاص فيما يلتمس البعض من البعض ، ويقع التساؤل به . الثالث : قوله أولاً : { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } ولفظ " الرَّبِّ " يَدَلُّ على التربية والإحسان ، وقوله ثانياً { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } ولفظ " الإله " يدل على الغلبة والقهر ، فالأمر الأول بالتقوى بناء على الترغيب ، والأمر الثاني يدل على الترهيب ، فكأنَّهُ قيل : اتقِ الله إنه ربّاك ، وأحسن إليك ، واتق مخالفته ؛ لأنه شديدُ العقاب عظيم السطوة . وقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } . جارٍ مجرى التعليل والرقيب : فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْباً ، ورُقوباً ، ورِقْباناً إذا أحدَّ النَّظَرَ [ لأمر يريد تحقيقه ] ، والرقيب هو المراقب الذي يحفظ جميع أفعالك ، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ قال : [ مجزوء الكامل ] @ 1730 - كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ للضـْ ـضُرَبَاءِ أيْدِيهمْ نَوَاهِدْ @@ وقال : [ الكامل ] @ 1731 - وَمَعَ الحَبيبِ بِهَا لَقَدْ نِلْتَ المُنَى لِي عَقْلَهُ الْحُسَّادُ وَالرُّقَباءُ @@ والْمَرْقَبُ : المكان العالي المشرف يقف عليه الرقيب ، والرقيب أيضاً [ ضرب ] من الحيات ، والرقيب السهم الثالث من سهام الميسر ، وقد تقدمت في البقرة ، والارتقاب : الانتظار . فصل دَلَّتْ الآيةُ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعه . قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] . وقال تعالى : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 10 ] قيل : إنَّ الإلّ القرابة ، قال : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقال عليه السلام : قال الله تعالى : " أنا الرحمن وهي الرحم اشتققتُ لها اسماً من اسمي ، من وَصَلَها وَصَلْتُه ، ومن قطعها قطعته " . فصل قال القرطبيُّ : الرحم : اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره . وأبو حنيفةَ يعتبر الرَّحم المحرم في منع الرجوعِ في الهِبَةِ ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام ، مع أنَّ القطيعة موجودة ، والقرابة حاصلة ولذلك تعلّق بها الإرث ، والولاية ، وغيرهما من الأحكام ، فاعتبار المحرم زيادة على نصِّ القرآن من غير دليل ، وهم يرون ذلك [ نسخاً ] ، سيما وفيه إشارة بالتعليل إلى القطيعة قد جوَّزها في حق بني الأعمام ، وبني الأخوال والخالات . فصل أجمعت الأمةُ على أنَّ صلة الرَّحم واجبة ، وأن قطيعتها محرَّمة ، " وقد صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسْمَاءَ وقد سألته : أأصِلُ أمِّي ؟ " صِلِي أمَّكِ " فأمرها بصلتها وهي كافرة فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافرة حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى توارث ذوي الأرحام ، إذا لم يكن عصبة ، ولا ذو فرض ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرّحم ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " مَنْ مَلَكَ ذَا رحمٍ محرمٍ فَهُوَ حُرٌّ " وهذا قول أكثر أهل العلم ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف . فصل واختلفوا في ذَوِي المَحَارمِ من الرِّضَاعةِ ، فقال أكْثَرُ أهلِ العلمِ : لا يدخلون في مقتضى الحديث . وقال شريك القاضي : يُعْتَقُونَ . وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب [ لا ] يعتق على الابن إذا ملكه .