Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 22-22)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } إلى قوله : [ سَبِيلاً ] . قال الأشعث بن سَوّار توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه امرأة أبيه فقالت إنِّي أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره ، فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية . قال ابن عباس وجمهور المفسرين : كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا بهذه الآية عن [ ذلك . قوله " ما نكح " في " ما " هذه قولان ] : أحدهما : أنها موصولة اسمية واقعة على أنواع من يعقل كما تقدم في قوله { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] هذا عند من لا يجيز وقوعها على آحاد العقلاء فأما من يجيز ذلك فيقول : إنها واقعة موقع من فـ " ما " مفعول به بقوله " ولا تنكحوا " والتقدير : ولا تتزوّجُوا من تزوج آباؤكم . والثاني : أنَّها مصدريّة أي : ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم الّذي كان من الجاهليَّة وهو النكاح الفاسد كنكاح الشغار وغيره ، واختار هذا القول جماعة منهم ابن جرير الطبري وقال : ولو كان معناه : ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع " ما " " من " انتهى . وتبين كونه حراماً ، أو فاسداً من قوله { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً } . قوله : { مِّنَ ٱلنِّسَآء } . تقدم نظيره أول السورة . فصل [ حكم نكاح مزنية الأب ] قال أبو حنيفة وأحمد : يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه وقال الشافعي : لا يحرم ، واحتج الأولون بهذه الآية ، لأنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه ، والنكاح عبارة عن الوطء لوجوه : أحدها : قوله تعالى { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ] فأضاف النّكاح إلى الزّوج ، والنّكاح المضاف إلى الزّوج هو الوطء لا العقد ؛ لأن الإنسان لا يتزوج من [ زوجة ] نفسه ؛ لأن ذلك في تحصيل الحاصل ؛ ولأنَّهُ لو كان المراد به في هذه الآية العقد لحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد ، فتعين أن يكون هو الوطء ؛ لأنه لا قائل بالفرق . وثانيها : قوله { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } [ النساء : 6 ] والمراد به الوطء لا العقد ؛ لأن أهلية العقد كانت حاصلة . وثالثها : قوله : { ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } [ النور : 3 ] ولو كان المراد العقد لزم الكذب . ورابعها : قوله عليه [ الصلاة ] والسلام " ناكح اليد ملعون " وليس المراد العقد فثبت بهذه الوجوه أنَّ النكاح عبارة عن الوطء فلزم أن يكون المراد من قوله " ما نكح آباؤكم " أي : وطئن آباؤكم ، فيدخل فيه المنكوحة والمَزْنِيُّ بها . فإن قيل قد ورد أيضاً لفظ " النكاح " بمعنى العقد ، قال تعالى { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] . إذا نكحتم المؤمنات . وقال عليه [ الصلاة ] والسلام : " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " فلم كان حمل اللفظ على الوطء أوْلَى من حمله على العقد ؟ فالجواب أن لفظ " النكاح " حقيقة في الوطء مجاز في العقد . لأنَّ لفظ النكاح في أصْلِ اللغة عبارة عن الضَّمِّ ، ومعنى حاصل في الوطء لا في العقد ، فكان حقيقة في الوطء وإنَّمَا سُمِّيَ العقد بهذا الاسم ؛ لأنه سبب الوطء ، فيكون من باب إطلاق اسم المسبب على السبب كما أنَّ العقيقة : اسم للشِّعْرِ الذي يكون على رأس الصغير حال ما يولد ثم تُسَمَّى الشاة التي تذبح عند خلق ذلك الشِّعْر عقيقة [ فكذا هاهنا . هذا على قول من يقول : لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ] ومجازه فلا جرم نقول : المستفاد من هذه الآية حكم الوطء أمَّا حكم العقد فَإنَّهُ يستفاد من دليل آخر ، فأمَّا [ مَنْ ] ذهب إلى اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميْه معاً ، فإنه يقول دلت الآية على لفظ النكاح حقيقة الوطء ، وفي العقد معاً ، فكان قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } نهي عن الوطء وعن العقد معاً حملاً للفظ على مفهوميه ولو سلمنا أنَّه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهومَيْه معاًً ، لكن ثبت بالدلائل المذكورة أنَّ لفظ النكاح قد استُعمِلَ في الوطء تارةً ، وفي العقد أخرى ، والقول بالاشتراكِ والمجاز خلاف الأصل ، فلا بدّ من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو معنى الضمّ حتَّى يندفع الاشتراك والمجاز ، فإذا كان كذلك كان قوله : { ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء } نهياً عن القدر المشترك بين هذين القسمين والنهي عند القدر المشترك بين القسمين يكون نهياً عن كل واحد من القسمين لا محالة ، فإنّ النهي عن التزويج يكون نهياً عن العقد ، وعن الوطء معاً ، وأجيبوا عن هذا الاحتجاج بوجوه : الأوَّل : لا نسلم أنَّ النكاح يقع على الوطء ، والوجوه الَّتي احتجوا بها معارضة بوجوه : الأول : قوله عليه الصلاة والسلام " النِّكَاحُ سُنَّتِي " ولا شك أنَّ الْوَطْءَ من حيث كونه وَطْئاً ليس سنة [ له ] وإلا لزم أنْ يكون الوطء بالسفاح سُنَّةًَ فلما ثبت أنَّ النِّكاح سنة ، وثبت أن الوطء ليس بسنة ثبت أنَّ النكاحَ ليس عبارة عن الوطء وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا " ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذناً في مطلق الوطء ، وكذا التمسك بقوله { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] . لا يقال : لما وقع التعارض بين هذه الدّلائل فالترجيح معنا ، وذلك لأنَّا لو قلنا الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دليلنا ، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى . لأنَّا نقول : أنْتُم تساعدونا على أنَّ لَفْظَ النِّكاح مستعمل في العقد ، فلو قلنا : إنَّ النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النِّكَاح فيها بمعنى الوطء ولا يلزمنا التخصيص فقولكم : يوجب المجاز والتخصيص معاً وقولنا : يوجب المجاز فقط ، فكان قولنا أوْلَى . الوجه الثَّاني من الوجوه الدَّالة على أنَّ النِّكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه [ الصلاة ] والسلام " وُلْدتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولد مِنْ سِفَاحٍ " وهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحاً . الوجه الثالث : من حلف في أولاد الزنا أنهم ليسوا أولاد نكاح لَمْ يَحْنَثْ ، ولو كان الوطء نكاحاً لوجب أن يحنث . سلمنا أنَّ الوطء يسمى نكاحاً لكن العقد أيضاً يسمى نكاحاً فلم كان حمل الآية على ما [ ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا ] . وأمَّا قولهم إنَّ الوطء مسبب للعقد ، فكما يحسن إطلاق المسبب مجازاً , فكذا يحتمل أن يُقَالَ النِّكاح اسم للعقد ثم أُطْلِقَ هذا الاسم على الوطء لِكَوْنِ الوطء مسبباً له ، فلم كان أحدهما أوْلَى من الآخر ، بل ما ذكرناه أولى ؛ لأن استلزام السبب للمسبب أولى وأتم من استلزام المسبب للسبب المعين ، فإنَّهُ لا يمنع حصول الحقيقة الواحدة بأسباب كثيرة كالمِلْك ، فَإنَّهُ يحصل بالبيع والهبة والوصية والإرث ، ولا شك أنَّ الملازمة شرط لجواز المجاز ، فَثَبَتَ أنَّ القول بأنَّ اسم النِّكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد أولى من عكسه . والوجه الثاني : أنَّهُ ثبت في أُصول الفِقْهِ أنَّهُ يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معاً فحينئذ يلزم ألا تكون الآية دالة على حكم العقد ، وهذا وإن كانوا قد التزموه لكنه مدفوع بإجماع المفسرين على سبب نُزُولِ هذه الآية هو أنَّهُم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم ، وأجمع المسلمون على أنَّ سبب نزول تلك الآية لا بد وَأنْ يكون داخلاً [ تحت الآية ، بل اختلفوا في أنَّ غيره هل يدخل تحت الآية أم لا ؟ فَأمَّا أنَّ سبب النُّزول يكون ] داخلاً فيها فذلك مجمع عليه ، وإذَا ثبت أنَّ سبب النزول لا بدّ وأن يكون مراداً ثبت بالإجماع أنَّ النهي عن العقد مراد من هذه الآية فيكون قولهم مضاد للدليل القاطع ، فيكون مردوداً . وَأمَّا استدلالهم بالضم فضعيف ؛ لأنَّ الضم الحاصل في الوطء عبارة عن اتحاد الأجسام وتلاصقها ، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك ؛ لأنَّ الإيجاب والقبول أصوات غير باقية ، فمعنى الضمّ والتّلاقي والتّجاور فيها محال ، وَإذَا كان كذلك فليس بين الوطء والعقد مفهوم مشترك حتى [ يقال إنَّ لفظ النكاح حقيقة فيه ، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أنْ يُقَالَ لفظ النكاح مشترك بين الوطء والعقد ] ويقال : إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، ويرجع الكلام إلى الوجهين الأوَّلين . الوجهُ الثالث : سلمنا أنَّ النِّكاح بمعنى الوطءِ ولكن لم قلتم إن قوله { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } المراد منه المنكوحة بل المراد منه المصدر لإجماعهم على أنَّ لفظ " ما " حقيقة في غير العقلاء ، فلو كان المراد منه المنكوحة لزم هذا المجاز ، وهو خلاف الأصل ، بل أهل العربية اتفقوا على أن ما " ما " مع ما بعدها في تقدير المصدر فتقدير الآية : { ولا تنكحوا نكاح آبائكم } ، ويكونُ المرادُ منه النَّهي على أن ينكحوا نكاحاً مثل نكاح آبائهم فإن أنكحتم كانت بغير وَلي ولا شهود ، وكانت مُؤقتة ، وكان على سبيل القهر والإلجاء ، فنهاهم اللَّهُ تعالى عن مثل هذه الأنكحة بهذه الآيةِ ؛ وهذا الوجه مَنْقُولٌ عن ابن جَرِيرٍ وغيره كما تقدَّمَ . الوجه الرابع : سَلَّمْنَا أنَّ المراد المنكوحة ، والتقدير : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ، ولكن قوله { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } ليس صريحاً في العموم بدليل أنَّهُ يصحُّ إدخال لفظ الكلِّ في البعض عليه ، فيقالُ : ولا تنكحُوا بعض ما نكح آباؤكم ، [ ولو كان هذا صريحاً في العموم لكان إدْخَالُ لفظ الكلِّ عليه تكراراً ، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً ، ومعلوم أنَّهُ ليس كذلك ، وإذَا ثبت أنه لا يفيد العموم لم يتناول محل النزاع ، لا يقال : لو لم يفد يصير مجملاً غير مفيد والأصل ألا يكون كذلك ؛ لأنا نقول : لا نُسَلِّمُ أن التقدير لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره ، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أنَّ سبب نزوله إنما هو التزوّج بزوجات الآباء ، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى ، وبهذا التقدير يزول الإجمال ] . الوجهُ الخامس : سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النِّزاع لكن لم قُلْتُمْ : إنَّهُ يفيد التحريم ، أليس أن كثيراً من أقسام النَّهي لا يُفِيدُ التَّحْريم ، بل يفيدُ التنزيه ، أقصى ما في البَاب أن يقال : هذا على خلاف الأصل ، ولكن يجب المصير إذا دلّ الدّليل على صحّة [ هذا ] النكاح [ وسنذكره . الوجه السادس : هب أن ما ذكرتم يدل على فساد هذا النكاح ] إلا أن ههنا ما يدلُّ على صحَّة هذا النكاح وهو من وجوه : الأوَّلُ : هذا النِّكاح منعقد ؛ فوجب أن يكون صحيحاً ، بيان أنَّهُ منعقد لأنَّهُ منهي عنه بهذه الآية ، ومذهب أبي حَنِيفَةَ أنَّ النَّهْيَ عن الشَّيء يَدُلُّ على كونه في نفسه منعقداً ، وهذا أصْلُ مذهبه في مَسْأَلَةِ البيع الفَاسِدِ وصوم يوم النَّحْرِ ، فيلزمُ من مجموع هاتين المُقَدِّمَتَيْنِ ، أن يكون هذا النِّكاح منعقداً على أصل أبي حنيفة ، وإذا كان منعقداً في هذه الصُّورة ؛ وَجَبَ القولُ بالصِّحَّة ؛ لأنَّهُ لا قائل بالفَرْقِ . وثانيها : [ أنَّ ] قوله { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] وهذا نهي إلى غاية إيمانِهنَّ والحكمُ المدود إلى غاية ينتهي عند حُصُولِ تلك الغاية ، وإذا انتهى [ المنع ] حصل الجواز ، فهذا يقتضي جواز إنكاحهن على الإطلاق ، ويدخل في هذا العموم مزنيّة الأب وغيرها ، أقصى ما في هذا الباب أنَّ هذا العموم خُصَّ في مواضع ، فَيَبْقَى حجة في غير محل التخصيص ، ولذلك يستدل بجميع المعلومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] وقوله { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] وكذلك قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] وليس لأحد أن يقول إن قوله { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] ضمير عائد إلى المذكور السابق ، ومن جملة المذكور السابق قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } ، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات إليه هو قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [ النساء : 23 ] وكان قوله { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] عائداً إليه ، ولا يدخل فيه قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } وكذلك عموم الأحاديث كقوله عليه السلام " إذَا جَاءَكُم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ " وقوله " زوجوا بناتكم [ الأكفاء ] " وهذه العمومات تتناول محل النزاع ، والترجيح يكون بكثرة الأدلة ، وبتقدير أنْ يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد ، فيكون حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلاَّ مجاز واحد ، وبتقدير أن تحمل تلك الآية على حرمة الوطء تلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة ، فكان الترجيح من جانبنا لكثرة الدلائل . وثالثها : الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام " الحرام لا يحرم الحلال " أقصى ما في هذا الباب أن يقال : إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز ماء ، فههنا الحرام حرّم الحلال ، [ وإذا اختلطت المنكوحة بالأجنبيات واشتبهت بهن فههنا الحرام حرم الحلال ] إلا أنَّا نقول : دخول التخصيص فيه في بعض الصور ، ولا يمنع من الاستدلال به . ورابعها : أن يقول : المقتضي لجواز النِّكاح قائم ، والفَارِقُ بَيْن مَحَلِّ الإجماع وبين مَحَلِّ النَّزاع ظاهر ؛ فَوَجَبَ القولُ بالجوازِ أمَّا المقتضي فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النّسوان عند حُصُولِ الشَّرائط المتفق عليها ؛ بجامع ما في النِّكاح مِنَ المصالح ، وأمَّا الفارق : فهو أنَّ هذه الحرمة إنَّمَا حكم الشَّارع بثبوتها سعياً في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ، ومعلوم أنَّ هذا لا يليق بالزِّنَا . بيان المقام الأول : من تزوج بامرأة فلم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه ، ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها ، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت ، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ، ولو أذنَّا في هذا الدخول ، ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد على البعض إلى البعض ، وحصل الميل والرغبة ، وعند حصول التزوج بأمها وابنتها تحصل النفرةَ الشديدة بينهن ؛ لأنَّ صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعاً ، وأشد إيلاماً وتأثيراً ، وعند حصول النفرة الشَّديدة يحصل التَّطْلِيقُ والفراق ، أمَّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهوة ، فلا يحصل ذلك الضرر فيبقى النكاح بين الزّوجين سليماً عن هذه المفسدة ، فثبت أن المقصود من حكم الشّرع بهذه المحرمية السعي في تقريرِ الاتصال الحاصل بين الزّوجين ، وإذَا كان المقصود من المحرميّة إبقاء ذلك الاتِّصال ، فمعلوم أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء ، فناسب حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية [ وأما الاتصال الحاصل بالزنا فهو غير مطلوب البقاء ، فلم يتناسب ] حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية ، وهذا وجه مقبول . قوله { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } في هذا الاستثناء قولان : أحدهما : أنه منقطع ؛ إذ الماضي لا يجامع الاستقبال ، والمعنى أنَّهُ لما حَرَّم عليهم نكاح ما نكح آباؤهم [ من النّساء ] تطرق الوهم إلى ما مضى في الجاهِلِيَّةِ ما حكمه ؟ فقيل : إلاَّ ما قد سَلَفَ ، فلا إثْمَ عَلَيْهِ . وقال ابْنُ زَيْدٍ في معنى ذلك أيضاً : إنَّ المُرَادَ بالنِّكَاحِ العقدُ بالنِّكَاحِ العقدُ الصَّحِيحُ ، وحَمَلَ { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } على ما كان يتعاطَاهُ بعضهم من الزِّنَا [ فقال : إلا ما سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا ] بالنِّسَاءِ ، فَذَلِكَ جائز لكم زواجكم في الإسْلام ، وكأنَّهُ قيل : ولا تَعْقِدُوا عَلَى مَنْ عقد آباؤكم عليه إلاَّ ما قد سَلَفَ من زَنَاهُم ، فَإنَّهُ يجوز لكم أن تَتَزَوَّجُوهُمْ ، فهو استثناءٌ منقطعٌ أيضاً . والثاني : أنَّهُ استثناءٌ مُتَّصِلٌ وفيه معنيان : أحدهما : أن يحمل النِّكَاح على الوَطْءِ ، والمعنى : أنَّهُ نهى أنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأةً وَطَئَهَا أبُوه ، إلا ما قد سَلَفَ من الأبِ في الجاهليَّةِ من الزِّنَا بالمرأةِ ، فإنَّهُ يجوز للابن تزويجها نُقِلَ هذا المَعْنَى عن ابن زَيْدٍ أيضاً إلاّ أنَّهُ لا بدّ من التّخصيص [ أيضاً ] في شيئين : أحدهُمَا : قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } أي : ولا تَطَئُوا وطئاً مباحاً بالتَّزويج . والثَّاني : التَّخْصيصُ في قوله : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } بوطء الزِّنَا وإلا فَالوَطْءُ فيما قَدْ سَلَفَ قد يكون [ وَطْئاً ] غير زنا ، وقد يكون زنا فيصير التقدير : ولا تطئوا ما وطئ آباؤكم وَطْئاً مباحاً بالتزويج إلاَّ من كان وطؤها فيما مضى وطء زنا في الجاهليَّةِ . والمعنى الثَّاني : ولا تَنْكِحُوا مِثْلَ نكاح آبائكم في الجاهلَّيةِ إلاَّ ما تَقَدَّمَ منكم من تلك العُقُودِ الفَاسِدَةِ فَيُبَاحُ لكم الإقامة عليها في الإسْلاَمِ ، إذا كان ممّا يقرر الإسلام عليه ، وهذا على رَأي من يَجْعَل " ما " مصدريّة ، وقد تَقَدَّمَ مثلَ ذلك . وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قلت : كيف استثنى { مَا قَدْ سَلَفَ } مما نكح آباؤكم ؟ قلت : كما استثنى " غير أن سيوفهم " من قوله " ولا عيب فيهم " يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه ، فلا يحل لكم غيره ، وذلك غير ممكن ، والغرضُ المبالغة في تحريمه ، وسدّ الطريق إلى إباحته كما تَعَلَّقَ بالمحال في التأبيد في نحو قولهم : " حتى يبيضّ القار " و { حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ } [ الأعراف : 40 ] انتهى . أشار رحمهُ اللَّهُ إلى بيت النَّابِغَةِ في قوله : [ الطويل ] @ 1772 - وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ @@ يعني إن وجد فيهم عيباً فهو هذا ، وهذا لا يعدّه أحد عيباً فانتفى العَيْبُ عَنْهُمْ بدليل ، ولكن هذا الاستثناء على هذا المعنى الَّذي أباه الزَّمَخْشَرِيُّ ، من قبيل المنقطع ، أو المتصل ؟ والحقُّ أنَّهُ متصل لأن المعنى : ولا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [ إلا ] اللاتي مضين وفنين ، وهذا محالٌ ، وكونه محالاً لا يخرجه عن الاتِّصال ، وأمَّا البيتُ ففيه نَظَرٌ ؛ والظَّاهِرُ أنَّ الاستثناء فيه متصل أيضاً لأنه جعل العيب شاملاً لقوله : " غير أن سيوفهم [ بهن فلول من قراع ] " بالمعنى الَّذي أراده وللبحث فيه مجال ، فتلخَّص مِمَّا تَقَدَّمَ أنَّ المراد بالنِّكَاحِ في هذه الآيةِ العقدُ الصَّحِيحُ ، أو الفاسد أو الوطء ، أو يرادُ بالأوَّلِ العقد ، وبالثَّانِي الوَطْءُ وقد تَقَدَّمَ الكَلاَمُ على ذلك في البَقَرَةِ . وزعمَ بعضهم أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراً ، والأصل : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف " ، وهذا فاسدٌ من حيث الإعراب ومن حيث المعنى ، أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ ما في حيز " إن " لا يتقدَّمُ عليها ، وأيضاً فالمستثنى يتقدَّمُ على الجملة الَّتي هو من متعلِّقاتها سواءً كان متصلاً أو منقطعاً وإن كان في هذا خلاف ضعيف . وأمَّا الثَّاني فلأنَّهُ أخْبَرَ أنه فاحشة ومقت في الزَّمان الماضي [ بقوله " كان " ، فلا يصحُّ أن يستثنى منه الماضي ؛ إذ يصيرُ المعنى هو فاحشة في الزّمان الماضي ] إلا ما وقع منه في الزَّمَان الماضي فليس بفاحشة . وقيل : إن " إلا " هاهنا بمعنى " بَعْدَ " كقوله تعالى { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ } [ الدخان : 56 ] أيْ بعد المَوْتَةِ الأوَلى وقيل { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } قيل نزول آية التحرير وقيل { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } فإنكم مقرون عليه ، قالوا : لأنَّهُ عليه السَّلاَمُ أقَرَّ بما عليهنَّ مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنَّمَا فعل ذلك ليكون إخراجهم عن العادة الرَّديئة على سبيل التَّدرُّجِ . وقيل : إنَّ هذا خطأ ؛ لأنَّهُ عليه السَّلامُ ما أقَرَّ أحداً على نكاح امرأة أبيه ، وَإنْ كان في الجاهليَّةِ ، لما روى البراء بنُ عَازِبٍ قال : مَرَّ بِي خَالِي أبُو بُرْدَة [ ابن نيار ] ومعه لواء قلت أيْنَ تَذْهَبُ ؟ قال : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوَّجَ امرأة أبيه مِنْ بعده آتيه برأسه وآخذ ماله . فصل قال القُرْطُبِيُّ ، وقد كان في العَرَبِ قبائل [ قد اعتادت ] أنْ يخلف [ ابن ] الرَّجُل على امرأةِ أبيه ، وكانت هذه السِّيرة في الأنصار لازمة ، وكانت في قريش مباحة مع التَّراضي ، ألا ترى أنَّ عمرو بْنَ أميَّة خلف على امرأة أبيهِ بعد موته فولدت له مسافراً وأبا معيط ، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ؛ فكان بنو أمية إخوة [ مُسَافِر وأبي مُعيْط ] وأعمامها ، وأيضاً صفوان بن أميَّةَ تزوَّج بعد أبيه امرأته ، فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسَد ، وكان أميّة قتل عنها ومن ذلك منظور بن زبَّان خلف على مُلَيْكة بِنْتِ خَارِجَةَ ، وكان تحت أبيه زبَّان بن سيار ومن ذلك حِصْن بن أبِي قَيْسٍ تزوَّجَ امرأة أبيه [ كُبَيْشَة ] بنت مَعْن ، والأسود بن خلف تزوَّج امرأة أبيه . قوله : { إِنَّهُ } إن هذا الضمير يعود على النِّكَاح المفهوم من قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ } ويجوز أن يعود على الزِّنَا إذا أُرِيدَ بقوله { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } من الزِّنَا و " كان " هنا تدلُّ على الماضي فقط ؛ لأنَّ معناها هنا : لم يزل ، أي في حكم اللَّهِ وعلمه موصوفاً بهذا الوصف ، وهذا المعنى هو الذي حَمَلَ المبرد على قوله : " إنها زائدة " ، وردَّ عليه [ أبُو حَيَّان ] بوجود الخبر والزَّائدة لا خبر لها ، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرناه من قوله لا تَدُلُّ على الماضي فَقَطْ ، فَعَبَّر عن ذلك بالزِّيَادَةِ . فصل وصف تعالى هذا النِّكَاحَ بأمُورٍ ثَلاَثَةٍ : الأوَّلُ : أنَّهُ فاحشةٌ ، والفَاحِشَةُ أقبحُ المعاصي ، وذلك أنَّ زوجة [ الأب ] تشبه الأمّ ، فكان مباشرتها من أفْحَشِ الفواحش لأنَّ نكاح الأمّهات من أقبح الأشْيَاءِ عند العَرَب قال أبُو العبَّاس سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرَّجل امرأة أبيه إذا طلَّقها أو مات عنها ويقال لهذا الرَّجُل : الضَّيْزَن وقال ابْنُ عَرَفَة : كانت العرب إذا تزوَّجَ الرَّجُلُ امرأة أبيه فأولدها ، قيل للولد : المقتِيّ . والثَّاني : المَقْتُ هو بغضٌ مقرون باستحقار ، فهو أخصُّ منه ، وهو من اللَّه تعالى في حقِّ العبد يدلُّ على غاية الخزْي والخَسَارِ ، وكان لذلك أخص قبل النَّهْي منكراً في قلوبهم ، ممقوتاً عندهم ، وكانت العَرَبُ تقولُ لولد الرَّجُلِ من امرأة أبيه : " مقيتٌ " وكان منهم الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ ، أبو معيط بن أبي عمرو بن أميةَ . والثَّالِثُ : قوله : { وَسَآءَ سَبِيلاً } وأعلم أنَّ مراتب القبح ثَلاثَة : الْقُبْحُ العَقْلِيُّ ، والقبح الشَّرْعِيُّ ، والقبح العَادِيُّ ، فقوله : " فاحشة " إشارة إلى القُبْحِ العقلي ، وقوله { وَمَقْتاً } إشارةً إلى القبح الشَّرْعي ، وقوله { وَسَآءَ سَبِيلاً } إشارةً إلى القبح في العرف والعادةِ ، ومن اجتمع فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح . قوله { وَسَآءَ سَبِيلاً } في " ساء " قولان : أحدهما : أنها جارية مجرى بئس في الذَّمِّ والعمل ، ففيها ضمير مبهم يفسِّره ما بعده وهو { سَبِيلاً } والمخصوص بالذَّمِّ محذوف تقديره " وساء سبيل هذا النكاح " كقوله : " بئس الشراب " أي : ذلك الماء . قال الَّليْثُ : " ساء " فعل لازم وفاعله [ مضمر ، و ] " سبيلاً " منصوب تفسيراً لذلك الفاعل المحذوف كما قال { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] . الثاني : أنَّهَا لا تجري مجرى بِئْسَ في العمل ، بل هي كسائر الأفعال ، فيكونُ فيها ضمير يعودُ على ما عاد الضَّمِيرُ في { إِنَّهُ } ؛ و { سَبِيلاً } على كلا التَّقْدِيرَيْنِ تمييز وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها لا محل لها من الإعراب بل هي مُسْتَأنَفَةٌ ويكون الوقف على قوله : ومقتاً ، ثم يستأنف { وَسَآءَ سَبِيلاً } أي : وساء هذا السَّبِيلُ من نكاح مَنْ نكحهن من الآباء . والثاني : أن يكون معطوفاً على خبر كان ، على أنَّه يجعل محكياً بقول مضمر ، ذلك القول هو المعطوف على الخبر ، والتقدير : ومقولاً فيه { وَسَآءَ سَبِيلاً } فهكذا قدَّرَهُ أبُو البَقَاءِ . ولقائل أن يقول يجوز أنْ يكون عطفاً على خبر كان من غير إضمار قول ؛ لأنَّ هذه الجملةَ في قوة المفردِ ، ألا ترى أنه يقع خبراً بنفسه ، بِقَوْلِ : زيد سَاءَ رَجُلاً ، فغاية ما في البَابِ أنَّكَ أتيتَ بِأخبَارٍ كان أحدُهَا مفرد والآخر جملة ، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقالَ : إنَّ هذه الجملة إنشائِيَّة ، والإنشائيَّة لا تقع خبراً لـ " كان " فاحتاج إلى إضمار القول ، وفيه بحث .