Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 33-33)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" جعلنا " فيه سِتَّةُ أوْجُهٍ ، وذلك يَسْتَدْعِي مقدِّمَةً قبله ، وَهُوَ أنّ " كُلّ " لا بدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تُضَافُ إليْهِ . قال القُرْطُبِيُّ : " كُلّ " في كلام العربِ مَعْناهَا : الإحَاطَةُ والعموم ، فإذا جَاءَتْ مُفْرَدَة ، فلا بدَّ وأن يكُونَ في الكَلاَمِ حَذْفٌ عند جميع النحويين " . واختلفوا في تقديرهِ : فقيل تقدِيرُهُ : ولكلِّ إنسان . وقيل : لِكُلِّ مال ، وقيل : لِكُلِّ قوم ، فإنْ كانَ التَّقْديرُ : لكل إنسان ، ففيه ثلاثة أوجه : أحدُهَا : وَلِكُلِّ إنسانٍ موروثٍ جعلنا موالي ، أي : وُرَّاثاً مِمَّا تَرَكَ ، ففي " تَرَكَ " ضميرٌ عائد على " كُلّ " ، وهنا تمّ الكلام . وقيل : تَقْدِيرُهُ : ويتعلق " مِمَّا تَرَك " بـ " مَوَالي " لما فيه من معنى الوراثة ، و " موالي " : مَفْعُولٌ أوَّ لـ " جَعَلَ " ، و " جَعَلَ " بمعنى : " صَيَّر " ، و " لِكُلّ " جار ومجرور هو المفعول الثَّاني ، قُدِّم على عامِلِهِ ، ويرتفع " الوِلْدَان " على خبر مبتدأ محذوف ، أو بفعل مقدّر ، أي : يرثون مما [ ترك ] ، كأنه قيل : ومَنْ الوارثُ ؟ فقيل : هم الوَالِدَان والأقْرَبُون ، والأصل : " وجعلنا لكل ميت وراثاً يرثون مما تركه هم الوالدان والأقربون " . والثَّانِي : أنَّ التَّقديرَ : ولكلِّ إنْسَانٍ موروث ، جعلنا وراثاً مما ترك ذلك الإنسان . ثُمَّ بين الإنْسَان المضاف إليه " كُلّ " بقوله : { ٱلْوَالِدَانِ } ، كأنه قيل : ومن هو هَذَا الإنسان الموروث ؟ فقيل : الوالدان والأقربُونَ ، والإعراب كما تقدَّمَ في الوَجْهِ قَبْلَهُ ، إنَّمَا الفرقُ بينهما أنَّ الوالِدَيْنِ في الأوَّلِ وارثون ، وفي الثانِي مورثون ، وعلى هذيْنِ الوجْهَيْنِ فالكلامُ جُمْلَتَانِ ، ولا ضميرَ ، محذُوف في " جعلنا " ، و " موالي " مفعول أول ، و " لكل " مفعول ثان . الثَّالِثُ : أن يكُونَ التَّقدِيرُ : ولكل إنسان وارِث ممَّن تركُ الولِدَانِ والأقْرَبُون جعلنا موالي ، أي : موروثين ، فَيُراد بالمَولى : الموْرُوثُ ، ويرتفع " الوالدان " بـ : " ترك " ، وتكون " مَا " بمعنى " مَنْ " ، والجارّ ، والمجرورُ صِفَةٌ للمضاف إليه " كُلّ " ، والكلامُ على هذا جُمْلَةٌ واحِدَةٌ ، وفي هذا بُعْدٌ كبير . الرَّابعُ : إذا كان التَّقديرُ وَلِكُلِّ قوْمٍ ، فالمعنى : ولكل قوم جعلنهم مَوَالي نصيبٌ مِمَّا تَرَكَهُ والدُهم وأقربوهم ، فـ " لكل " خبر مقدّم ، و " نَصِيب " مُبْتَدَأٌ مُؤخَّرٌ ، و " جعلناهم " صفة لقوم ، والضَّمِيرُ العَائِدُ عليهم مفعولُ : " جعل " ، و " موالي " : إما ثانٍ وإمّا حالٌ ، على أنَّهَا بمعنى " خلقنا " ، و " مما ترك " صفةٌ للمبتدأ ، ثم حُذف المُبْتَدَأ ، وبقيت صفته ، [ وحُذِفَ المُضَافُ إليه " كُلّ " وبقيت صفته أيضاً ] ، وحُذف العَائِدُ على المَوْصُوفِ . ونظيره : لِكُلِّ خَلَقَهُ اللَّه إنْسَاناً مِنْ رِزْقِ اللَّه ، أي : لِكُلِّ أحدٍ خلقه اللَّه إنْسَاناً نَصِيبٌ من رزقِ اللَّهِ . الخَامِسُ : إنْ كَانَ التَّقدِيرُ : ولكلِّ مالٍ ، فقالوا : يكون المعنى : ولكلِّ مال مِمَّا تركه الوالدانِ والأقربون جعلنا موالي ، أي : وُرَّاثاً يلونه ، ويحوزونه ، وجعلوا " لِكُلّ " متعلقة : بـ " جَعَلَ " ، و " مِمَّا ترك " صفة لـ " كُلّ " ، والوالدان فَاعِلٌ بـ " تَرَكَ " ، فيكونُ الكلامُ على هذا ، وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً ، وهذا وإنْ كَانَ حَسَناً ، إلاّ أنَّ فيه الفَصْلَ بين الصِّفَةِ والموْصُوفِ بجملةٍ عامِلَةٍ في الموْصُوفِ . قاتل أبُو حَيَّان : " وهو نظير قولك : بكُلِّ رَجُلٍ مَرَرْتُ تميميٍّ وفي جواز ذلك نَظَرٌ " . قال شهَابُ الدِّينِ : " ولا يحتَاجُ إلى نَظَرٍ ؛ لأنَّهُ قد وُجِدَ الفصلُ بَيْنَ الموْصُوفِ والصِّفَةِ بالجملةِ العَامِلَةِ في المُضَافِ إلى المَوصُوفِ ، كقوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 14 ] فـ { فَاطِرِ } صفة لـ { ٱللَّه } ، وقد فُصِلَ [ بينهما ] بـ { أَتَّخِذُ } العامل في { أَغَيْرَ } فهذا أولى " . السَّادسُ : أنْ يكُونَ لكلِّ [ مال ] مفعولاً ثانياً لـ " جعَلَ " على أنَّها تصييرية ، و " مَوَالي " مفعول أوَّل ، والإعرابُ على ما تقدَّمَ . فصل " المَولى " لفظ مُشْتَرَكٌ بيْنَ مَعَانٍ : أحدها : المعتِقُ ؛ لأنَّهُ ولي نعمة من أعتقه ، ولذلك سمي مولى النعمة . ثانيها : الْعَبْدُ المُعْتَقُ لاتِّصَالِ ولايَةِ مَوْلاَهُ به في إنْعَامِه عليه ، وهذا كما سُمِّيَ الطَّالِبُ غرِيماً ؛ لأنَّ له اللُّزُوم والمطالبة بحقِّه ، ويسمَّى المطلوب غريماً ، لِكونِ الدِّينِ لازِماً له . وثالثها : الحليفُ ؛ لأنَّ المحالف يلي أمْرَهُ بِعَقْدِ اليَمينِ . ورابعُهَا : ابْنُ العَمِّ ؛ لأنَّهُ يليه بالنُّصْرَةِ . وخامسها : المولى لأنَّ يليه بالنُّصْرَةِ ، قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } [ محمد : 11 ] . سادسُهَا : العَصَبَةُ ، وهو المُرادُ بهذه الآية ؛ لقوله عليه السلامُ : " أنا أوْلَى بالمؤمنينَ ، مَنْ مَات وتَرَكَ مالاً ، فَمَالُهُ لمَوَالِي الْعَصَبَةِ ، ومَنْ ترك ديناً ؛ فأنَا وَلِيُّه " . وقال عليه السلامُ : " ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فللأوْلَى عصبَةٍ ذكر " . قوله { وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ } في محلّهِ أربعة أوجهٍ : أحدُهَا : أنَّهُ مُبْتدأ والخبر قوله : " فآتوهم " [ ودخلت الفاء في الحيز لتضمن الذي معنى الشرط ] . الثَّاني : أنَّهُ منصوبٌ على الاشْتِغالِ بإضمار فعلٍ ، وهذا أرجحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ بَعْدَهُ طلباً . والثَّالِثُ : أنَّهُ مرفوعٌ عطفاً على { ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ } ، فإن أريدَ بالوالدين أنَّهُم موروثون ، عادَ الضَّميرُ من " فآتوهم " على " موالي " وإن أُريد أنَّهُم وَارِثُون جازَ عودُه على " موالي " وعلى الوالدَيْنِ وما عُطِفَ عليهم . الرَّابِعُ : أنَّهُ منصوب عطفاً على " موالي " . قال أبُو البَقَاءِ : [ أي : ] " وجعلنا الذين عاقدتْ وُرّاثاً ؛ وكان ذلك ونسخ " ، وردّ عليه أبُو حَيَّان بِفَسَادِ العطْفِ ، قال : فإن جُعِل من عطْفِ الجُمَل ، وحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أيْ : جعلنا وُرَّاثاً لكلِّ شَيْءٍ من المال ، أو لِكُلِّ إنسان ، وجَعلنَا الذِينَ عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً وفيه بعد ذلِكَ تَكَلُّفٌ . انتهى . وقرأ عاصمٌ وحمْزَةُ والكسَائِيُّ : " عقدت " والباقون : " عاقدت " بألف وروي عن حمزة التَّشديد في " عقدت " ، والمفاعلة هنا ظَاهِرَةٌ ؛ لأنَّ المَرَادَ المخالفة . والمفعولُ محذوفٌ على كُلٍّ من القِرَاءاتِ ، أي : عاقدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم ، ونسبة المُعاقَدَةِ ، أو العَقْدِ إلى الأيمان مجاز ، سوَاءٌ أُريد بالأيْمَانِ الجَارِحَة ، أم القَسمُ . وقيل : ثمَّ مُضافٌ محذوفٌ ، أي : عقدت ذَوُو أيْمَانِكُم . فصل في : " معنى المعاقدة والأيمان " المُعَاقَدَةُ المُحالَفَةُ ، والأيْمَانُ جمع يَمينٍ من اليد والقسَمِ ، وذلك أنَّهُم كانُوا عند المُحالَفَةُ يأخذُ بعضهُمُ يدَ بَعْضٍ ، على الوفَاءِ [ والتمسك ] بالعهد . فصل الخلاف في نسخ الآية قال بعضهم : إنَّ هذه الآية مَنْسُوخَةٌ ، واسْتدلُّوا على ذلك بوجوه : أحدها : أنَّ الرَّجُلَ كان في الجاهلِيَّةِ يُعَاقِدُ غيْرَهُ ، فيقُولُ : " دَميَ دمُكَ وسِلْمِي سِلْمُك ، وَحَرْبِي حَرْبُكَ ، وترثُنِي وَأرِثُك ، وَتَعْقِلُ عَنِّي ، وأعْقِلُ عنك " ، فيَكُونُ لهذا الحليف السّدس [ من ] الميراثِ ، فذلك قوله : " فآتوهم نصيبهم " ، فنُسِخ ذلك بقوله : { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } [ الأنفال : 75 ] ، وبقوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] . وثانيها : أنَّ الرَّجُلَ كانَ يتَّخِذُ أجنبياً فيجعله ابْناً له ، وَهُمُ المُسَمُّوْنَ بالأدْعِيَاء في قوله تعالى : { أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، وكانوا يتوارثون بذلك ، ثم نُسِخَ . وثالِثُهَا : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُثْبِتُ المؤاخاة بيْنَ الرَّجلين مِنْ أصحابِهِ ، وكان ذلك سَبَباً للِتَّوَارُثِ ، ثم نسخ . وقال آخرُونَ : الآيةُ غير مَنْسُوخَةٍ . وقال إبْراهيمُ ومُجاهِدٌ : أرادَ : " فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة ولا ميراث " . وقال الجبَّائِيُّ : تقدير الآية : " ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون " ، { والذين عاقدت أيمانكم } معطوف على قوله : { الوالدان والأقربون } ، وسمى اللَّهُ تعالى الوارث مولى ، والمعنى : لا تَدفعُوا المالَ إلى الحليفِ ، بل للمولى ، والْوَارِثِ . وقال آخرون : المُرادُ بـ { الذين عاقدت أيمانكم } الزَّوْجُ ، والزَّوْجَةُ ، فأراد عقد النِّكاح قال تعالى { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ } [ البقرة : 235 ] وهو قول أبِي مُسْلِم الأصفهانيَّ قال : ونظيره آية المواريث ، لما بَيَّنَ آية ميراث الوالدَيْنِ ، ذكر معهم ميراثَ الزَّوْجِ ، والزَّوْجَةِ . وقيل : أراد بقوله : { الذين عقدت أيمانكم } : الميراث بِسَبَبِ [ الوَلاَء ] وقيل : " نزَلَتِ الآيةُ في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق ، وابنه عبد الرَّحْمن ، أمره اللَّه أن يؤتيه نَصِيبَهُ " . وقال الأصمُّ : المُرادُ بهذا النَّصِيب على سبيل الهِبَةِ ، والهديَّة بالشيءِ القَلِيلِ كأمره تعالى لمن حَضَرَ القِسمَةَ أن يجعل لَهُ نصيباً كما تقدّم . فصل الخلاف في إرث المولى الأسفل من الأعلى قال جمهور الفُقَهَاءِ : " لا يَرثُ المَولى الأسْفَل من الأعلى " . وحكى الطَّحَاوِيُّ عن الحسن بنِ زيادٍ أنَّهُ قال : " يَرِثُ " ، لما روى ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّ رجُلاً أعتق عبداً له ؛ فَمَاتَ المُعْتِق ، ولم يترك إلا المُعتَق ، فجعل رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق ولأنَّهُ داخلٌ في عموم قوله : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } . وأجيب بأنه لَعَلّ ذلك لما صار لبيت المال دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغُلامِ لحاجته ، وفقره ؛ لأنه كانَ مالاً لا وارث لَهُ ، فَسَبيلُهُ أن يُصرف إلى الفُقَرَاءِ . ثم قال تعالى [ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] ثم قال ] { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } ، وهذه كلمة وعد للمطيعين ، ووعيد لِلْعُصَاةِ ، والشَّهِيدُ الشَّاهد ، والمرادُ إمّا علمه تعالى بجميع المَعْلُومَاتِ ، فيكونُ المُرَادُ بالشَّهيدِ العالم ، وإمّا شهادته على الخلق يَوْمَ القِيامَةِ ، فالمُرَادُ بالشَّهيدِ المخبر .