Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 40-40)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمّا بيَّن أنه عَلِيم ببَواطِنِهم وظَواهِرِهم ، بيَّن أنَّه كما علمها ، لا يَظْلِم مثقال ذرَّة منها . قوله : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } فيها وَجْهَان : أحدهما : أنه مَنْصُوب على أنه نَعْت لمصْدر مَحْذُوف ، أي : لا يَظْلِم أحَداً ظُلْمَاً وَزْن ذَرَّة ، فحذف المفْعُول والمَصْدر ، وأقام نَعْتَه مَقَامه ، ولمّا ذكر أبو البقاء هذا الوَجْه ، قَدَّر قبله مُضَافاً مَحْذُوفَاً ، قال تقْدِيره : ظلماً قَدْر مِثْقال ذرَّة ، فحذفَ المَصْدر وصِفَتَه ، وأقَام المُضَاف إلَيْه مَقَامَه ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن المثْقال نفسه هو قَدَرٌ من الأقْدَار ، جُعِل مِعْيَاراً لهذا القَدَر المَخْصُوص . والثاني : أنه مَنْصُوب على أنه مفعول ثانٍ لـ " يظلم " ، والأوّل ، مَحْذُوف ؛ كأنهم ضَمَّنُوا " يظلم " معنى " يغصب " أو " ينقص " فعَدَّوهُ لاثنين ، والأصْل أن الله لا يَظْلِمُ أحَداً مِثْقَالَ ذَرَّة . والمِثْقَال مِفْعَال من الثِّقَل ، يُقال : هذا على مثال هَذَا ، أي : وَزْنه ، ومعنى الآيَةِ : أنه - تعالى - لا يَظْلَمِ أحداً لا قَلِيلاً ولا كَثِيراً ، وإنما أخْرَجَهُ على أصْغَر ما يتعارَفَه النَّاس ، ويُؤيِّده قوله - تعالى - : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً } [ يونس : 44 ] والذَّرَّة ، قال أهل اللُّغَة : هي النَّمْلَة الحمراء ، وقيل : رَأْسُها ، وقيل : الذَّرَّة جُزْء من أجْزَاء الهَبَاء في الكوة ، ولا يَكُون لها وَزْن . وروي أن ابْن عبَّاس أدْخَل يَدَه في التُّرَاب ، ثم رَفَعَها ، ثم نَفَخَ فيها ، ثم قال : كل وَاحِدٍ من هَذِه الأشْيَاء . والأول هو المَشْهُور : لأن النَّمْلَةَ يُضْرب بها المثل في القِلَّة ، وأصغر ما يَكُون إذا مرّ عليها حَوْل ، وقالوا : لأنَّها حينئذٍ تَصْغُرُ جِدَّاً . قال حَسّان : [ الخفيف ] @ 1797 - لَوْ يَدِبُّ الحَوْليُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ رِ عَلَيْهَا لأنْدَبَتْها الكُلُومُ @@ وقال امْرُؤُ القَيْس : [ الطويل ] @ 1798 - مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرَا @@ فصل روي مُسْلِم عن أنس ؛ قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَظْلِمُ اللَّهُ مُؤْمِناً حَسَنَة ، يُعْطَى بها [ في الدُّنْيَا ] ويُجْزَى بها في الآخِرَة ، وأما الكَافِر فَيُعْطى حسناتٍ ما عامل اللَّه بِهَا في الدُّنْيَا ، حتى إذا مَضَى إلى الآخِرَةِ ، لم يَكُن له حَسَنَة يُجْزَى عَلَيْهَا " . فصل : دليل أهل السنة على خروج المؤمنين من النار واحتج أهْل السُّنَّة بهذه الآية ، على أنَّ المُؤمنين يَخْرجُون من النَّار إلى الجَنَّة ؛ قالوا : لأن ثَوَاب الإيمان والمُداوَمَة على التَّوْحيد ، والإقْرَار بالعُبُودِيَّة مائة سَنَة ، أعْظَم ثواباً من عِقَابِ شُرْب جَرْعَة من الخَمْر ، فإذا حضر هذا الشَّارِبُ القيامَة وأسْقِط [ عنه ] قدر عِقَاب هذه المَعْصِية من ذلك الثَّواب العَظيم ، فَضُل له من الثَّواب قَدْر عَظيم ، فإذا دخل النار بسبب القَدْر من العِقَابِ ، فلو بَقي هُنَاك ، لكان ذَلِكَ ظُلْمَاً ، فوجب القَطْع بأنه يَخْرُج إلى الجَنَّة . وقوله : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } حذفت النَّون تَخْفِيفاً ، لكثرة الاستعمَال ، وهذه قَاعِدَةٌ كُلِّية ، وهو أنه يجوز حذْف نُون " تكُون " مجْزُومة ، بشرط ألاَّ يلِيهَا ضميرٌ متَّصِل ؛ نحو لم يَكُنْه ، وألاَّ تُحرَّك النٌّون لالتقاء الساكنِين ، نحو : { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ البينة : 1 ] خلافاً ليُونُس ؛ فإنه أجَازَ ذلك مستدلاً بقوله : [ الطويل ] @ 1799 - فَإنْ لَمْ تَكُ المِرْآةِ أبْدَتْ وَسَامَةً فَقَدْ أبْدَتْ [ المِرْآةُ ] جَبْهَةَ ضَيْغَمِ @@ وهذا عند سيبويه ضرُورةٌ ، وإنما حُذِفَت النَّون لغُنّتها وسُكُونِها ، فأشْبهت الواو ، وهذا بِخلاف سَائِرِ الأفْعال ، نحو : لم يَضِنَّ ، ولم يَهُنْ ؛ لكثرة اسْتِعْمال " كَانَ " ، وكان ينبغي أن تَعُود الواو عند حذف هذه النُّون ؛ لأنها إنَّما حُذِفَت لالتقاء الساكنين ، وقد زالَ ثانيهما وهو النُّونُ ؛ إلا أنَّها كالملفوظ بِهَا . واعلم أن النُّون السَّاكِنَة ، إذا وقعت طرفاً تشبه حُرُوف اللِّين ، وحُرُوف اللِّين إذا وقعت طرفاً سَقَطت للجزم ، وقد جاء القُرْآن بالحَذْف والاثبات : أما الحَذْف : فهذه الآية . [ وأما الإثبات ] فكقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً } [ النساء : 135 ] . وقرأ الجمهور { حَسَنَةً } نصباً على خَبَر كان النَّاقِصة ، واسْمُهَا مستَتِرٌ فيها يَعُود على مِثْقَال ، وإنَّما أنِّث ضميره حَمْلاً على المَعْنَى ؛ لأنه بمعْنَى : وإن تَكُن زِنة ذَرَّة حَسَنة ، أو لإضافته إلى مُؤنَّثِ ، فاكتَسبَ منه التَّأنِيث . وقرأ ابن كثير ونافع : " حَسَنَةٌ " رفعاً على أنَّها التَّامَّة ، أي : وإن تقع أو تُوجد حَسَنةٌ وقرأ ابن كثير وابن عامرٍ " يضعفها " بالتضعيف ، والباقون : " يضاعفها " قال أبو عبيدة ضاعَفَهُ يقتضي مِرَاراً كثيرة ، وضَعَّفَ يقتضي مَرَّتَيْن ، وهذا عكس كَلاَم العَرب ، لأن المُضَاعَفَة تقتَضِي زيادة المِثْل ، فإذا شُدِّدت ، دَلَّت البنية على التكثير ، فيقْتَضي ذلك تَكْرِيرُ المُضاعفة ، بحسبِ ما يكون من العَدَدِ . وقال الفَارِسِيّ : فيها لغتان بمعنى يدُلُّ عليه قوله : { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ ابن هُرْمُز : " نضاعفها " [ بالنون ، وقُرئ " يضعفها " ] بالتَّخْفيف من أضْعَفَه مثل أكْرَمَ . فصل قال أبو عُثْمَان النَّهْدي : بلغني عن أبي هُرَيْرة ؛ أنه قال : إن اللَّه يعطِي عبده المُؤمِن بالحَسَنَةِ الواحِدَةِ ألْف ألف حَسَنَةٍ ، فقدّره الله أنْ ذهبْت إلى مكَّة حَاجّاً أو معتمِراً فلقيته فقلت : بَلَغَني أنك تقول إن اللَّه يُعْطِي عبده المُؤمِن بالحسنة ألف ألف حسنَة ، قال أبو هريرة : لم أقُلْ ذلك ، ولَكِن قُلْتُ : إن الحَسَنَة تُضاعف بألْفي ألْفَي ضِعْف ، ثم تلا هذه الآية ؛ وقال : قال الله - تعالى : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } لمن يَقْدر قَدْرَه . قوله : { مِن لَّدُنْهُ } فيه وجهان : أحدهما : أنه مُتَعَلِّق بـ " يؤت " و " من " للابْتِدَاءِ مَجَازاً . والثاني : متعلِّقٌ بمحْذُوف على أنه حَالٌ من " أجراً " ، فإنه صِفَة نكرة في الأصْلِ ، قُدِّم عليها فانْتَصَب حالاً . و " لدن " بمعنى عِنْد ، إلا أن " لدن " أكثر تمكيناً ، يقول الرَّجُل : عندي مَالٌ ، إذا كان [ مَالهِ ] ببلَدٍ آخر ، ولا يُقَال : لَدَيّ مالٌ في حالٍ ، ولا لَدَيّ إلاَّ لما كان حَاضِراً .