Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 46-46)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : [ { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } ] الآية . لما حَكى عنهم أنَّهم يَشْترون الضلالة ، بيَّن تلك الضَّلالَةَ ما هي . قوله : { من الذين هادوا } فيه سَبْعَةُ أوْجُه : أحدها : أن يكُون " من الذين " خبر مُقدم ، و " يحرفون " جُمْلَة في محلِّ رفع صِفَة لموصُوف مَحْذُوف هو مُبْتَدأ ، تقديره : مِنَ الذين هَادُوا قومٌ يُحَرِّفُون ، وحَذْف الموْصُوف بَعْد " مِنَ " التَّبِعِيضيَّة جَائِزٌ ، وإنْ كانت الصِّفَة فِعْلاً ؛ كقولهم " مِنَّا ظَعَنَ ، ومِنَّا أقَامَ " ، أي : فريقٌ أقام ، وهذا مَذْهَب سيبويه والفارسِي ؛ ومثله : [ الطويل ] @ 1805 - وَمَا الدَّهْرُ إلا تارتانِ فَمِنْهُمَا أمُوتُ وأخرى أبْتَغِي العَيْشَ أكدحُ @@ أي : فمنهما تَارةٌ أمُوت فِيها . الثاني : قول الفرَّاء ، وهو أن الجَارَّ والمجرور خَبَر مقدَّم أيضاً ، ولكن المُبْتدأ المحذُوف يقدره مَوصولاً ، تقدِيره : " من الذين هادوا من يحرفون " ، ويكون قد حمل على المَعنى في " يحرفون " قال الفرَّاء : ومِثْله [ قول ذي الرِّمَّة ] [ الطويل ] @ 1806 - فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ وآخَرُ يَثْنِي دَمْعه العَيْنِ بِالْيَدِ @@ قال : تقديره ، ومنهم [ مَنْ ] دَمْعه سَابِقٌ لَهُ ، والبَصْرِيُّون لا يُجَوِّزُونَ حذف الموصُولِ ؛ لأنه جُزْءُ كلمة ، وهذا عِنْدَهم مؤولٌ على حَذْفِ موصوفٍ كما تَقَدَّمَ ، وتأويلُهُم أولى لعطفِ النكرة عليه ، وهو : آخر وأخْرَى في البَيْت قَبْلَه ، فيكون في ذلك دلالةٌ على المَحْذُوفِ ، والتقدير : فمنهم عَاشِقٌ سَابِقٌ دَمْعه لَهُ وآخَر . الثالث : أن " من الذين " خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : " هم الذين هادوا " ، و " يحرفون " على هذا حَالٌ من ضمير " هادوا " وعلى هذه الأوْجُه الثَّلاثة يكون الكلام قم تَمَّ عند قوله : " نصيراً " . الرابع : أن يكون " من الذين " حَالاً [ من فاعل " يريدون " قاله أبو البقاء ، ومنع أن يكُون حالاً ] من الضَّمير في " أوتوا " ومن " الذين " أعْنِي : في قوله - تعالى - : { ألم تر إلى الذين أوتوا } قال : لأنَّ الحال لا تكُون لِشَيْءٍ واحِدٍ ، إلا بعطف بَعْضِها على بَعْضٍ . قال شهاب الدين : في هذه المسْألة خلافٌ بين النحويين : منهم من مَنَعَ ، وَمِنْهم من جَوَّزَ ، وهو الصَّحيح . الخامس : أن { مِّنَ ٱلَّذِينَ } بيان للموصول في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ } [ آل عمران : 23 ] لأنهم يهُود ونَصَارَى ، فَبَيَّنَهُم باليهُودِ ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر من حَيْث إنَّه قد فُصِلَ بينهما بثلاثة جمل هي : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ } ، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ } ، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ } . وإذا كان الفَارِسيّ قد منع الاعتراض بجُمْلَتيْن ، فما بالك بِثلاثٍ ، قاله أبو حيان ، وفيه نَظَرٌ ؛ فإن الجُمَل هنا مُتَعَاطِفَة ، والعَطْفُ يصير الشَّيئيْن شيئاً واحِداً . السادس : أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم ، وما بَيْنَهما اعْتراض أيضاً ، وقد عُرِف ما فيه . السابع : أنه متعلِّق بـ { نَصِيراً } وهذه المادَّة تتعَدَّى بـ " مِن " ؛ قال - تعالى - : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ } [ الأنبياء : 77 ] { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ } [ غافر : 29 ] على أحد تأويلَيْن : إمَّا على تَضْمِين النَّصْر معنى المَنْع ، أي : مَنَعْنَاهُ من القَوْم ، وكذلك : كَفَى بالله مَانِعاً بِنصْره من الذين هَادُوا . وإمَّا : على جعل " مِنْ " بمعنى " عَلَى " ، والأوَّل مَذْهَب البَصْريين ، فإذا جَعَلْنَا { مِّنَ ٱلَّذِينَ } بياناً لما قَبْلَهُ ، فبِمَ يتعلَّق والظاهر [ أنَّه يتعلَّقُ بمحذُوفٍ ؛ ويدل على ذَلِك أنَّهُم قالوا في سقياً لك ] ، إنه مُتعلِّق بمحذوف لأنه بَيَانٌ له ، وقال أبو البقاء : [ وقيل ] وهو حَالٌ من أعْدَائِكُم ، أي : [ والله أعلم بأعْدَائِكُم ] كائنين من الذين هادُوا ، والفَصْل بينهما مُسَدَّد ، فلم يمنع من الحَالِ ، فقوله هذا يُعْطي أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم مع إعْرَابه له حالاً ، فيتعَلَّق أيضاً بمحذُوفٍ ، لكن لا على ذلك الحَذْف المَقْصُود في البَيَانِ ، وقد ظهر مِمَّا تقدم أن { يُحَرِّفُونَ } ، إما لا مَحَلَّ له ، أو لَهُ مَحَلُّ رَفْع أو نَصْبٍ على حَسَب ما تقدَّم وقال أبو رَجَاءٍ والنَّخعِي : " الكَلاَم " وقُرئ : " الكِلْم " بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع " كَلِم " مخففة من كلمة ، ومعانيها مُتَقَارِبَة . قوله : { عَن مَّوَاضِعِهِ } متعلِّق بـ { يُحَرِّفُونَ } وذكر الضمير في { مَّوَاضِعِهِ } حملاً على { ٱلْكَلِم } ، لأنَّها جِنْس . وقال الوَاحِدِي : هذا جمع حُرُوفه أقَلُّ من حُروف واحِده ، وكل جَمْع يكون كذلِك ، فإنه يجوز تَذْكِيرُه . وقال غيره : يمكن أن يُقال : كون هذا الجَمْعِ مؤنَّثاً ليس أمْراً حقيقيَّاً ، بل هو أمر لَفْظِيٌّ ، فكان التَّذْكير والتَّأنِيث فيه جَائِزاً . وجاء هُنَا " عن مواضعه " وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 41 ] . قال الزَّمَخْشَرِي : أما { عَن مَّوَاضِعِهِ } فعلى ما فَسَّرْناه من إزالَتِه عن مواضِعِه ، التي أوْجَبَت حِكْمَة الله وَضْعُه فِيهَا بما اقْتَضَت شَهَوَاتُهم من إبْدَال غيره مَكَانَه ، وأما { من بعد مواضعه } ، فالمَعْنَى : أنه كَانَت له مواضعُ هو قَمِنٌ بأن يكُون فيها فحين حَرَّفُوه ، تركُوهُ كالغَرِيب الذي لا مَوْضِع له بَعْد مَوَاضِعِه ومَقَارّه والمعنيان مُتَقَارِبَان . قال أبو حيَّان : وقد يُقَال : إنهما سِيَّان لكنه حذف هُنَا وفي أول المائدة [ الآية 13 ] من بعد مواضعه ؛ لأن قوله { عَن مَّوَاضِعِهِ } يدل على استِقْرَار مواضِع له ، وحذف في ثَانِي المَائِدة " من مواضعه " ؛ لأن التَّحْرِيف " من بعد مواضعه " يدل على أنَّه تحريفٌ عن مَوَاضِعِه ، فالأصل : يُحَرِّفون الكَلِم من بعد مَواضِعِه عنها . فحذف هنا البَعْدِيَّة ، وهناك تَوَسُّعاً في العِبَارة ، وكانت البَدْأة هنا بِقَوْله : " عن مواضعه " ؛ لأنه أخصر ، وفيه تَنْصِيصٌ باللَّفْظ على " عَنْ " وعلى المَوَاضِع ، وإشارة إلى البَعْدِيّة . وقال أيْضاً : والظَّاهِر أنهم حَيْثُ وُصِفُوا بشدة التَّمَرُّد والطُّغْيَان ، وإظْهَار العَدَاوَة ، واشْتراء الضَّلالة ، ونقص المِيثَاقِ ، جاء { يحرفون الكلم عن مواضعه } كأنهم حَرَّفُوها من أوَّل وهْلَة قبل اسْتَقْرَارِها في مَوَاضِعِها ، وبادَرُوا إلى ذلك ، ولذلك جاء أوّل المَائِدة كهذه الآية ؛ حَيث وَصَفَهمُ بِنَقْض المِيثَاقِ ، وقسْوَة القُلُوب ، وحيث وُصِفوا باللِّين وترديد الحُكْم إلى الرَّسُول ، جاء { من بعد مواضعه } كأنهم لم يُبَادِرُوا إلى التَّحرِيف ، بل عَرَضَ لهم بَعْد استِقْرَار الكَلِمِ في مواضِعِهَا ، فهما سِيَاقان مُخْتَلِفَان . [ وقوله : ] { وَيَقُولُونَ } عَطْفٌ على { يُحَرِّفُونَ } وقد تَقَدَّم ، وما بعده في محلِّ نَصْب به . فصل : الخلاف في كيفية التحريف اخْتَلَفُوا في كيْفِيَّة التَّحريف ، فقيل : كانوا يُبْدِّلُون اللَّفْظَ بلفظ آخَر ؛ كتحريفهم الرَّجْم [ ووضعُوا ] موضِعَهُ الجَلْدَ ؛ ونظيره { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 79 ] . فإن قيل : كيف يُمْكن هَذَا في الكتاب الَّذي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفه ، وكلماته مَبْلَغ التَّوَاتُر ، واشتهر في الشَّرْق والغَرْب . فالجواب : لعل القَوْم كانوا قليلين ، والعُلَمَاء بالكِتَاب كانوا في غَايَةِ من القِلَّة فَقَدَرُوا على ذَلِك . وقيل : المُرَاد بالتَّحْرِيفِ : إلْقَاء الشُّبَه والتَّأويلاَتِ الفاسدَةِ لتلك النُّصُوصِ ، وأما الآيَةُ التي في المَائِدة : فهي دالَّة على الجَمْع بين الأمْرَيْنِ ، فكانوا يَذْكُرُون التَّأوِيلاَت الفاسِدَةِ ، وكانوا يُحرِّفُون اللَّفْظَ أيضاً من الكِتَابِ . فقوله : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ } إشارة إلى التَّأويل الباطل . وقوله : { من بعد مواضعه } إشارة إلى إخراجه عن هذا الكِتَابِ . وقيل : المراد بالتَّحْرِيف : تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عبَّاس : كانت اليَهُود يأتون رسُول الله صلى الله عليه وسلم ويسْألُونه عن الأمْر ، فيُخْبِرهم ، فيرى أنَّهُم يأخُذُون بِقَوْلِهِ ، فإذا انصرفوا من عِِنْدِه ، حرِّفوا كلامه { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } منك قولك { وَعَصَيْنَا } أمْرَك ، وهو المُرَادُ بقوله : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } . قوله : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } ، في نصبِ " غَيْر " وجْهَان : أحدهما : أنه حَالٌ . والثاني : أنه مَفْعُول به ، والمعنى ، اسْمَع غير مُسْمَعٍ كلاماً ترضاه ، فَسَمْعُك عنه نَابٍ . قال الزَّمَخْشريّ ، بعد حكايته نَصْبه على الحَالِ ، وذكرهُ المعنى المتقدِّم : ويجوزُ على هَذَا أن يكون " غير مسمع " مفعول اسْمَع ، أي : اسْمَع كلاماً غير مُسْمَع إيَّاك ؛ لأن أذُنَك لا تعيه نبُوّاً عنه ، وهذا الكلام ذُو وَجْهَيْن ، يعني أنه يَحْتَمِل المدْحَ والذَّم : فبإرادة المدْحِ تقدر غير مُسْمَع مكْرُوهاً ، فيكون قد حَذَفَ المَفْعُول الثَّاني ؛ لأن الأوّل قَامَ مَقَام الفَاعِل . وبإرادة الذَّمِّ تقدّر " غير مسمع خيراً " وحذف المفعول الثاني : أيضاً [ والمعنى : كانوا يَقُولُون للنَّبِي صلى الله عليه وسلم اسْمع ، ويقُولون في أنْفُسِهم : لا سَمِعْتَ ] . وقال أبو البقاء : وقيل : أرادُوا غير مَسْمُوع مِنْكَ ، وهذا القَوْل نقله ابن عطيّة عن الطَّبَرِي ، وقال : إنه حِكَايةٌ عن الحَسَن ومُجَاهِد . وقال ابن عطيَّة : ولا يُسَاعِده التَّصْريف ، يَعْني : أنّ العَرَب لا تقُولُ أسْمَعْتُكَ بمعنى قَبِلْتُ منك ، [ وإنما تقول أسْمَعْتُه بمعنى : سَبَبْتُه ، وسمعت منه بمعنى قَبِلْتُ ويعبرون بالسماع لا بالإسماع عن القبول مجازاً ، وتقدم القولُ في { رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] ، وفيها وجوه : أحدُها : أن هذه كلمةٌ كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخريةِ ، وقيل معناها : أرِعْنَا سمْعَك ، أيْ : اصرف سمْعَك إلى كلامنَا ، وقيل : كانوا يقولُونَ : راعِناً ، ويُوهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ رَاعِنَا سَمْعَك ، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونةِ في لُغَتِهم . وقيل : كانوا يَلْوُون ألْسِنَتهم ، حتى يصيرَ قولُهم : { وَرَاعِنَا } : رَاعِينَا ، ويُريدُون : أنَّك كُنْتَ تَرْعَى أغْنَاماً لَنَا . قال الفراءُ : كانوا يَقُولُونَ : رَاعِنَا [ ويُوهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ رَاعِنَا سَمْعَك ، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونة ] ويريدون الشَّتْمَ ، فذاك هو اللَّيُّ ، وكذلك قولهم : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } أرَادُوا به ، لا سَمِعْتَ فهذا هو اللَّيُّ . فإنْ قيلَ : كَيْفَ جاءُوا بقولٍ يحتملُ الوجهيْنِ بعد تَصْريحهم بقولهم : سَمِعْنَا وعَصَيْنَا ؟ فالجوابُ : أنه قال بعضُ المفسِّرين : إنهم كانوا يقولون " وعصينا " سراً في نفوسهم . وقيل : كان بعضُهم يقولُه سِرًّا ، وبعضهم يقول جَهْراً . قوله { لَيًّا بألسنتهم وطعناً } فيهما وجهانِ : أحدهما : أنَّهُمَا مفعول مِنْ أجْلهِ ناصبُهما " ويقُولونَ " . والثَّاني : أنَّهُمَا مَصْدَرَانِ في موضع الحَالِ ، أيْ : لاوين وطاعِنينَ ، وأصْلُ لَيًّا [ " لَوْيٌ ] " من لَوَى يلْوِي ، فأدغِمَتِ الواوُ في الياءِ بعد قلبها ياءً ، فهو مِثْلُ " طَيٍّ " مصدر طَوَى ، يَطْوِي . و " بألسنتهم " ، و " في الدين " متعلِّقان بالمصْدَريْنِ قبلهما ، وتقدَّم في البَقَرة على قَوْله : { ولو أنهم قالوا } . قوله : { لكان خيراً لهم } فيه قَوْلاَن : أظهرهما : أن يكُون بمعنى أفْعَل ، ويكون المُفَضَّل عَلَيْه [ محذوفاً ، أي : لو قالُوا هذا الكلام ، لكان خَيْراً من ذَلِك الكَلاَمِ . والثاني : أنه لا تَفْضِيل فيه ] بل يَكُون بمعنى جيّد وفَاضِل ، فلا حَذْف حينئذٍ ، والباءُ في " بكفرهم " للسَّبَبية . قوله : " إلا قليلاً " فيه ثلاثة أوجُه : أحدها : أنه مَنْصُوب على الاستثنَاء من { لَّعَنَهُمُ } ، أي : لعنهم الله إلا قليلاً منهم ، فإنَّهم آمنُوا فلم يَلْعَنْهُم . والثاني : أنه مستثْنى من الضَّمِير في " فلا يؤمنون " ، والمراد بالقَلِيلِ عبد الله بن سَلاَم وأضرابه ، ولم يَسْتَحسن مَكِّي هذيْن الوَجْهَيْن : أما الأوّل : قال : لأنَّ من كَفَرَ مَلْعُونٌ لا يُسْتَثْنَى منهم أحد . وأما الثاني : فلأن الوجْه الرَّفع على البَدَل ؛ لأن الكَلامَ غير مُوجِبٍ . والثالث : أنَّه صِفَةٌ لمصدر محذُوف ، أي : إلا إيماناً قَلِيلاً ؛ وتعليله هو أنَّهُم آمنوا بالتَّوحيد وكَفَرُوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وشَرِيعَته . وعبَّر الزَّمَخْشَري وابن عطيّة عن هذا التَّقليل بالعَدَم ، يعني : أنَّهُم لا يؤمِنُون ألْبَتَّةَ كقوله : [ الطويل ] @ 1807 - قَلِيلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ كَثيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى والمَسَالِك @@ قال أبو حيان : وما ذكراهُ من أنَّ التقْليل يُرادُ به العَدَم صَحِيحٌ ، غير أن هَذَا التَّرْكيب الاستثنائي يأباه ، فإذا قُلت : لم أقُمْ إلاَّ قَلِيلاً ، فالمعنى انْتِفَاء القِيَامِ إلا القَلِيل ، فيوجد منك إلا أنَّه دالٌّ على انْتِفَاءِ القِيَام ألْبَتَّةَ ] ، بخلاف : قلَّما يقُول ذلك أحَدٌّ إلا زَيْد ، وقَلَّ رَجُلٌ يفعل ذلك ، فإنه يَحْتَمِل التَّقْليل المُقَابل للتكثيرِ ، ويحتمل النَّفْي المَحْض ، أما أنك تَنْفِي ثم تُوجِب ، ثم تُريد بالإيجَابِ بعد النَّفْي نَفْياً فلا ؛ لأنه يَلْزَم أن تَجيء " إلاَّ " وما بَعْدَها لَغْواً من غير فائدةٍ ؛ لأن انْتِفَاء القِيَام قد فُهِمَ من قَوْلِكَ : لَمْ أقُمْ ، فأيُّ فَائِدةٍ في استِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يرادُ به انْتِفَاء مَفْهُوم من الجُمْلَة السَّابِقة ، وأيْضاً فإنَّه يُؤدِّي إلى أن يكُون ما بَعْدَ " إلاَّ " مُوافقاً لما قبلها في المَعْنَى ، والاستِثْنَاء يَلْزَم أن يكُون ما بعد إلا مُخالفاً لما قبلها فيهِ . فصل : الخلاف في القليل الوارد في الآية معنى الكَلاَم : فلا يُؤمِن إلاَّ أقْوامٌ قَلِيلُون ، واخْتَلَفُوا في ذلك القليل : فقال بعضُهم : هو عَبْد اللَّه بن سَلاَم ، ومن أسْلَم معه مِنْهُم . وقليل : القَلِيل صفة للإيمان ، والتَّقدير : فلا يؤمِنُون إلا إيماناً قليلاً ، فإنَّهم كَانُوا يؤمِنُون بالله والتَّوْرَاة [ موسى ] ، والتَّقْدِير : فلا يُؤمِنُون إلا بِمُوسَى ، ولكنَّهم كانوا يَكْفُرون بسائِر الأنبياءِ ، وَرَجَّح أبو عَلِيٍّ الفَارِسِيّ هذا القَوْل ؛ قال : لأن { قَلِيلاً } لفظ مُفْرَد ، والمُرَادُ به الجَمْع ، قال - تعالى - : { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، وقال : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10 ، 11 ] فدلَّ عَوْد الذكر مَجْمُوعاً إلى الآيتيْن على أنَّه أريد بهما الكَثْرة . فصل : الاستدلال بالآية على جواز تكليف ما لا يطاق استدل بَعْضُ العُلماء بهذه الآيةِ مع الآيةِ التي بَعْدَهَا ، على جَوازِ تكْلِيفِ ما لا يُطَاق ؛ لأنه - تعالى - أخْبَرَ عَنْهُم في هذه الآية بأنَّهُم لا يُؤمِنُون ، وخبرُهُ - تعالى - صِدْق وحَقٌّ ، ثم أمرهم في الآيةِ التي بَعْدَها بالإيمانِ ، فقال : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ } [ النساء : 47 ] فأمرهم بالإيمان مع إخْبَارِه بأنَّهمُ لا يُؤمِنُون .