Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 57-57)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } . اعلمْ أنَّ الوعْدَ والوعِيدَ مُتلازِمَانِ في الذِّكْرِ غَالِباً ، فإنَّ عَادَة القرآنِ إذا ذَكَرَ الوعِيدَ أنْ يذكر مَعَهُ الوَعْدَ . قوله : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أظهرُهَا : أنه مبتدأٌ ، وخبرُهُ { سَنُدْخِلُهُمْ } . والثاني : أنَّه في مَحلِّ نَصْبٍ ؛ عَطْفاً على اسْمِ " إنَّ " وهُوَ { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، والخَبَرُ أيْضاً : { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ } ويصيرُ هذا نَظِير قولِكَ : إنَّ زَيْدَاً قَائِمٌ وعمراً قَاعِدٌ ، فعطفتَ المنصُوبَ على المنصُوبِ ، والمرفوعَ على المرفوعِ . والثالثُ : أنْ يكونَ في محلِّ رَفْع ؛ عطفاً على مَوْضِعِ اسْم " إنَّ " ؛ لأن مَحَلَّهُ الرفعُ ، قالهُ أبُو البَقَاءِ ؛ وفيه نَظَرٌ ، مِنْ حَيْثُ الصناعةِ اللَّفْظِيَّةِ ، حَيْثُ يُقالُ : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } في مَوْضِعِ نَصْبٍ ؛ عطفاً على { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، وأتى بجملةِ الوعيدِ مُؤكِّدةً بـ " إن " ؛ تنبيهاً على شِدَّةِ ذلك ، وبجملةِ الوَعْدِ حَاليَّةً مِنْه ؛ لتحققها وأنه لا إنْكَارَ لذلك ، وأتَى فيها بحرفِ التَّنْفِيسِ القَريبِ المدَّة تنبيهاً على قُرْبِ الوَعْدِ . فصل في أن الإيمان غير العمل دلت هذه الآيةُ ، على أنَّ الإيمانَ غيرُ العَمَلِ ؛ لأنه تعالى عَطَفَ العملَ على الإيمانِ ، والمعطوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعطُوفِ عليه . قال القَاضِي : مَتَى ذُكِرَ لفظُ الإيمانِ وَحْدَه ، دخل فيه العَمَلُ ، ومَتى ذُكِرَ مَعَهُ العَمَلُ ، كان الإيمانُ هو التَّصْديقَ ، وهذا بعيدٌ ، لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الاشتراك ، وعدمُ التغييرِ ولوْلاَ أنَّ الأمْرَ كذلك ، لخرج القرآنُ عن كونِهِ مُفيداً ، فلَعَلَّ هذه الألفاظَ التي تَسْمَعُها في القرآنِ ، يَكُون لِكُلِّ وَاحدٍ منها مَعْنَى سِوَى ما نَعْلَمُ ، ويكونُ مرادُ اللَّه [ تعالى ] ذلِكَ المعْنَى . قوله : " سندخلهم " قَرَأ النَّخعِيُّ : سَيْدخلُهم ، وكذلك : " ويدخلهم ظلاً " بِيَاءِ الغَيْبَةِ ؛ رَدَّا على قوله : { إن الله كان عزيزاً } ، والجمهورُ بالنون رَدَّاً على قوله : " سوف نصليهم " ، وتقدَّم الكلامُ على قوله : { جنات تجري من تحتها الأنهار } . وقوله : { خَالِدِينَ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُهَا : أنه حالٌ من الضمير المنصُوبِ في { سَنُدْخِلُهُمْ } . والثَّاني : وأجازَهُ أبُو البَقَاءِ : أنْ يكونَ حالاً من { جَنَّاتٍ } . [ قال : لأن فيها ضَميراً لكُلِّ واحدٍ منهما ، يَعْنِي : أنه يجوزُ أنْ يكونُ حالاً من ] مفعول { سَنُدْخِلُهُمْ } كما تقدَّمَ ، أوْ " من جنات " ؛ لأنَّ في الحَالِ ضميريْنِ : أحدُهُمَا : المستَتِرُ في { خَالِدِينَ } العائِدُ على { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } . والآخر : مَجْرُورٌ بـ " في " العائِدِ على { جَنَّاتٍ } فصح أنْ يُجْعَلَ حالاً مِنْ كُلٍّ واحدٍ ؛ لوجودِ الرَّابِطِ ، وهو الضميرُ ، وهذا الذي قالُ فيه نظرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أحدُهُمَا : أنه يَصِيرُ المعنى : أنَّ الجناتِ خالداتٍ في أنفُسِهَا ؛ لأنَّ الضَّميرَ في فيها عائذٌ عليْهَا . فكأنه قِيلَ : جناتٍ خَالِدَاتٍ في الجنَّاتِ أنفُسِهَا . والثَّاني : أنَّ هذا الجمعَ شَرْطُهُ العَقْلُ ، ولد أُرِيد ذلك ، لقيل : خَالِدَاتٍ . والثالثُ : أنْ يَكُونَ صِفَةً لـ { جَنَّاتٍ } أيضاً . قال أبُو البَقَاءِ : على رَأي الكُوفيِّينَ يعْنِي أنَّهُ جَرَت الصِّفَةُ على غَيْرِ مِنْ هِيَ لَهُ في المعنى ، ولم يَبْرُزِ الضَّمِيرُ ، وهذا مَذْهَبُ الكوفيِّينَ ، وهو أنَّهُ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هي له ، وأمِنَ اللِّبْسُ ، لم يَجبْ بُرُوزُ الضميرِ كهذه الآيةِ . ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ : وُجُوبُ بروزِهِ مُطْلَقَاً ، فكان يَنْبَغِي أنْ يُقَالَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ : { خالدين هم فيها } ، ولمّا لَمْ يَقُلْ كذلك ، دَلَّ على فَسَادِ القَوْلِ ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلك . [ فإن قُلْتَ : ] فَلْتَكُنِ المسْألَةُ الأولَى كذلِكَ ، أعني : أنَّكَ إذا جعلت { خَالِدِينَ } حالاً من { جَنَّاتٍ } ، فيكون حَالاً مِنْهَا لفظاً ، وهي لغيرها مَعْنَى ، ولم يَبْرُزْ الضَّميرُ على رَأي الكُوفيِّينَ ، ويَصِحُّ قول أبي البَقَاءِ . فالجواب : أنَّ هذا ، لو قيلَ به لَكَانَ جيِّداً ، ولكن لا يَدْفَعُ الرَّدَّ عن أبِي البَقَاءِ ، فإنَّهُ خَصَّصَ مَذْهبَ الكُوفيينَ بوجه الصِّفَةِ ، دون الحالِ . فصل ذكر الخُلُودِ والتَّأبِيد : فيه ردٌّ على جَهْم بْنِ صفْوَانَ ، حيث يقُولُ : إنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ وعَذَابَ الآخِرَةِ يَنْقَطِعَانِ ، وأيضاً فَذِكْرُهُ الخُلُودَ مع التَّأبيد ؛ يَدُلُّ على أنَّ الخُلُودَ غَيْر التَّأبْيد وإلا لزم التكرارُ ، وهو غير جَائِزٍ ؛ فدَلَّ على أنَّ الخُلُودَ لَيْسَ عِبَارَة عن التَّأبيدِ ، بلِ هو عبارَةٌ عن طُولِ المكْثِ مِنْ غيرِ بيان أنَّهُ منقطع ، أو غَيْر مُنْقَطِع ، وإذا ثَبَتَ هذا بطلَ اسْتِدْلاَلُ المُعْتزِلَةِ بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } [ النساء : 93 ] على أنَّ صاحب الكَبيِرَةِ يبقى في النَّارِ أبَداً ، لأنَّ هذه الآية دَلَّتْ على أنَّ الخُلُودَ طولُ المُكْثِ لا التَّأبيدِ . قوله : { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ [ مُّطَهَّرَةٌ } ] مبتدأ وخبر ، وَمَحَلُّ هذه الجُمْلَةِ ، إمَّا النَّصْب أو الرَّفْعُ . فالنَّصْبُ إمَّا على الحَالِ مِنْ { جَنَّاتٍ } ، أو مِنَ الضَّميرِ في { سَنُدْخِلُهُمْ } وإما على كَوْنِهَا صِفَةً لـ { جَنَّاتٍ } بعد صِفَةٍ . والرَّفْعُ على أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ . فصل المُرَادُ : طَهَارتُهُنَّ من الحَيْضِ والنّفاسِ ، وجميع أقْذَارِ الدُّنْيَا ، كما تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ . وقوله { وندخلهم ظلاَّ ظليلاً } . قال الوَاحِدِيُّ : الظَّلِيلُ ليس يُنبِئُ عن الفِعْلِ ، حتى يُقالَ : إنَّهُ بمعنى : فاعِلٍ ، أو مَفْعُولٍ ، بل هو مُبَالَغةٌ في نَعْتِ الظِّلِّ ، مثل قولهم : " لَيْلٌ ألْيَلٌ " . قال المُفَسْرُونَ : الظَّلِيلُ : الكَثيفُ الَّذِي لا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ ، ولا يؤذيهم بَرْدٌ ، ولا حَرٌّ . قال ابْنُ الخَطِيبِ : واعْلَمْ أنَّ بلاد العَرَبِ كانت في غَايَةِ الحَرَارَةِ ، وكانَ الظِّلُّ عندهم مِنْ أعْظَمِ أسْبَابِ الرَّاحَة ، ولها المَعْنَى ؛ جَعَلُوه كِنَايَةً عن الرَّاحَةِ . قال عليه الصَّلاة والسلامُ : " السُّلْطَانُ ظِلُّ الله فِي الأرْضِ " . وإذَا كان الظّل عِبَارَةً عن الرَّاحَة ؛ كَانَ كِنَايَةً عن المُبَالَغَةِ العَظِيمَةِ في الراحة ، وبهذا يَنْدَفِعُ سُؤالُ مَنْ يَقُولُ : إذا لم يَكُنْ في الجَنَّةِ شَمْسٌ تُؤْذِي بحرِّهَا ، فما فائِدَةُ وَصْفِهَا بالظِّلِّ الظَّلِيلِ ؟ وأيضاً نرى في الدُّنْيَا أنَّ المَوَاضِعَ الَّتِي يَدُومُ الظِّلُّ فيها ، ولا يَصِلُ نُورُ الشَّمْسِ إليْهَا ، يكُونُ هَوَواؤهَا فَاسِداً مُؤْذِياً فما معنى وَصْفِ الجَنَّةِ بذلك ، فعلى هذا الوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ تَنْدَفَعُ هذه الشُّبُهَاتِ .